الفصل 10: دم ونار
كان الهواء الليلي مشبعًا بالتوتر... ثقيلاً كأنّه يتوقّع الانفجار.
وقفت ريبيكا مايكلسون وستيفان سالفاتور في ظلّ بيتٍ كريولي قديم على أطراف السوق الفرنسي. الأضواء في الداخل كانت تومض بنمطٍ غير طبيعي، والشموع تشتعل بلونٍ أزرقٍ غريب، بينما يتسلل البخور من النافذة المفتوحة كأرواحٍ هامسة.
قالت ريبيكا بصوتٍ ثابت:
"إنها هناك."
أومأ ستيفان برأسه، عينيه لا تفارقان النوافذ:
"لنكن سريعين. كل ما نريده هو دمها."
رمشت ريبيكا بازدراء خفيف وقالت:
"تقولها وكأنها ستمنحه لنا طواعية."
تقدّما بهدوء إلى الشرفة الخشبية، خطواتهما حذرة كأنهما يدوسان فوق فخاخٍ خفية، لكن قبل أن يطرقا الباب أو ينطقا بكلمة، انفتح الباب الأمامي من تلقاء نفسه، محدثًا صريرًا غريبًا.
"تفضّلا... يا مصاصي الدماء." جاء الصوت ناعمًا، عتيقًا، مشبعًا بالقوة.
الساحرة كانت بانتظارهما.
في الداخل، كان الهواء كثيفًا بسحرٍ لا يُرى. رموزٌ غُرِزت في الجدران، وجرارٌ تحوي عظامًا وأعشابًا اصطفت على الرفوف. في وسط الغرفة، وقفت امرأة شامخة، تلفّها عباءة رمادية، وعيناها تشعّان بقوةٍ خفيّة.
قال ستيفان وهو يراقبها بحذر:
"أنتِ من نسل ناديا."
أومأت الساحرة برأسها ببطء:
"وأنتم هنا من أجل الملعون."
تقدّمت ريبيكا خطوة للأمام:
"إذًا فأنتِ تعرفين ما نريد."
رفعت الساحرة يدها، وقالت بنبرة باردة:
"ما تحتاجونه... ليس بالضرورة ما تستحقونه."
فجأة، اهتزّ الأرض تحت أقدامهم، والألواح الخشبية انثنت كما لو أن شيئًا ما يتحرّك تحتها، بينما اشتعلت الشموع بنيرانٍ زرقاء هائجة.
زمجر ستيفان، وأنيابه برزت بسرعة:
"لا نريد إيذاءك."
زمجرت الساحرة في وجهه:
"إذن... ما كان ينبغي لكما القدوم."
رفعت كلتا يديها، وانفجرت منها موجة من الطاقة دفعت ريبيكا بقوة هائلة، فارتطمت بخزانة خشبية وتكسرت خلفها الزجاجات والأعشاب.
اندفع ستيفان نحوها محاولًا تقليص المسافة، لكن تعاويذ الساحرة التفّت حوله كسلاسلٍ غير مرئية. جسده تصلّب، بالكاد يستطيع الحركة، يقاوم بقوةٍ شديدة.
نهضت ريبيكا بسرعة، قبضت على ساق كرسيٍ مكسور، وأطلقتها كرمحٍ نحو الساحرة. لكن الأخيرة لوّحت بأصابعها، فانحرف الخشب في الهواء قبل أن يصيبها.
قالت الساحرة بنبرة تحمل حقد أجيال:
"أنتم... سلبتم عائلتي كل شيء. والدك، ومصاصه الدماء تلك، كاثرين، هم من لعنوا ذلك الفتى... ودمروا نسلي."
زفرت ريبيكا بغضب:
"وهو الآن يحتضر بسبب ذلك."
قال ستيفان، وعيناه تلتمعان بعاطفةٍ مكبوتة:
"نحتاج فقط إلى دمك. هذا كل شيء. يمكنكِ أن تكرهينا. يمكنكِ أن تلعنينا من جديد. لكن إن لم تساعدينا... ألكساندر سيحترق."
للحظة، لمعت لمعة مختلفة في عيني الساحرة. لم تكن رحمة، ولا شفقة—بل شيء أقرب إلى... الإدراك.
همست:
"اللعنة لم يكن من المفترض أن تدوم كل هذا الوقت. كانت لتلتهمه... لا أن تحوّله."
وقفت ريبيكا على قدميها مجددًا، عينيها مليئتان برجاءٍ خافت:
"إذن ساعدينا على كسرها."
تردّدت الساحرة، لكن سرعان ما تحركت بيدٍ حاسمة، وشقّت راحتها بسكينٍ طقسي. اندفعت ريبيكا بسرعة، تلتقط الدم في قارورة صغيرة مستخدمةً إبرة فضية دقيقة.
لكن ما إن استدارت ريبيكا لتغادر، حتى بدأت الساحرة تردد تعاويذها من جديد، صوتها يرتفع بالغضب. انطلقت موجة من الضوء الأحمر، أصابت ريبيكا في صدرها، ورفعتها عن الأرض قبل أن تقذفها بقوة إلى الجدار المقابل.
صرخت ريبيكا من شدة الألم.
وبدافع اليأس، رمت القارورة نحو ستيفان:
"خذها—واذهب!" صاحت.
لكن ستيفان لم يتحرّك. عيناه ظلّتا معلّقتين بعينيها، تحملان ذكريات قديمة—معارك، حب، وخيانات. لم يستطع تركها.
زمجر قائلاً:
"لن أتركك مجددًا."
استدارت الساحرة نحوه، والغضب يتفجر من عينيها، ويدها تشتعل بنيرانٍ قانية. وقف ستيفان أمام ريبيكا، أنيابه بارزة، مستعدًا للقتال.
لكنها كانت أقوى. انطلقت تعاويذها كالسياط، شقت صدره، وقذفته إلى الخلف.
حاولت ريبيكا النهوض، لكن أطرافها كانت مشلولة من أثر السحر.
رفعت الساحرة كلتا يديها، وبدأت تردد الكلمات الأخيرة لتعويذة ربطٍ نهائية—
حتى... انفجر الباب الأمامي فجأة إلى شظايا خشبية.
وقف في الدخان الكثيف شخصان، وسط الحطام.
إيلايجا مايكلسون، متماسكًا كعادته، بخطواتٍ واثقة وسط الفوضى. وبجانبه، دايمن سالفاتور، يفرقع اصابعه ، وعيناه سوداء كأعماق الليل، يلمع فيهما جنونٌ مألوف.
قال دايمن بابتسامة جانبية:
"هل طلب أحدهم تعزيزات؟"
قال إيلايجا بصوتٍ بارد كالنصل:
"ابتعدي عنهم."
زمجرت الساحرة، لكن الهواء حولها بدأ يتغيّر—وجود إيلايجا فرض النظام كقانونٍ قديم، ودايمن... كان نارًا لا تُروّض.
بدأ الميزان يميل.
بينما وقفت الساحرة في مركز محرابها، الدم ينساب على ذراعها، وعيناها تتوهجان بقوةٍ سحيقة، ضاربة في القِدم. الهواء من حولها كان يلتف ويتموّج بقوى لا تُرى، وكأن العالم نفسه يتحرّك من حولها. لم يكن هذا سحرًا فقط... بل تجسيدًا حيًّا لتنفيذ ما تريد وهو إبقاء اللعنه و تحطيم كل من يحاول كسرها
تقدّم إيلايجا مايكلسون بخطى واثقة، وصوته هادئ لكنه حاد كحدّ السيف:
"لقد سفكتِ دم عائلتي... وهذا كان تصرفًا غير حكيم."
ابتسم دايمن سالفاتور بسخريةٍ قاتمة، وقال وهو يطقطق مفاصله:
"وتجرّأتِ على العبث بأخي؟ هذا لا يغتفر. لنُنهي هذا."
مدّت الساحرة كلتا يديها، وهمست بلعنةٍ أقدم من المدينة نفسها. انطلقت ظلالٌ من الجدران، تجسّدت على هيئة أذرعٍ روحية طويلة، سوداء ومرصّعة بأشواكٍ حادة.
اندفع دايمن أولًا، لكن إحدى تلك الأذرع انقضّت عليه، وارتطمت بصدره بعنف، قاذفةً إياه عبر مكتبة خشبية تحطّمت تحت وزنه.
تحرك إيلايجا بسرعةٍ فائقة، بدقّة قاتلٍ عتيق تمرّس القتال عبر قرون. وجه لكمةً قوية إلى فكها، فتراجعت خطوة إلى الخلف، لكنها لم تسقط. بل شقّت فمها عن ابتسامةٍ شيطانية، وأطلقت صرخةً من القوة السحرية الخالصة. تهشّمت النوافذ، وطُرح إيلايجا إلى الجدار بقوة، مصطدمًا به بصوتٍ مكتوم مرعب.
زفرت الساحرة وهي تزأر:
"هل هذا كل ما لديكم ايها الأصليون؟"
نهض دايمن من بين الأنقاض، والشرر يتطاير من عينيه. اندفع نحوها مجددًا، أنيابه بارزة، وغرسها في ذراعها بعضةٍ وحشيةٍ مزّقت لحمها. صرخت الساحرة، وردّت بتعويذة نارية ألهبت جسد دايمن، فأحاطت النار بجانبه الأيسر.
صرخ دايمن من شدّة الألم، وارتطم بالأرض بقوة، يتدحرج محاولًا إخماد اللهيب الذي ينهش جسده.
نهض إيلايجا ببطء، الدم ينزف من جبينه، وملامحه ثابتة رغم الألم:
"يجب أن نربطها... الآن."
قال دايمن وهو يتلوّى بصعوبة، صوته متهكّم رغم احتضاره:
"فكرة ممتازة... توقيت رائع، شكرًا على النصيحة."
رفعت الساحرة يديها عاليًا، واستدعت دائرة سحرية من برقٍ أحمر اشتعل حولها. الأرض تحتهم تكسّرت، والرموز المحفورة بدأت تتوهّج بضوءٍ أعمى، وكأنّها انفجرت بالحياة. الهواء تحوّل إلى طنينٍ كهربائي خانق.
ردّدت تعويذة الربط مرةً أخرى—لكنها لم تكن دفاعية هذه المرة. انطلقت كالحراب البرقية، اخترقت صدر إيلايجا، وثبّتته على الجدار كتمثالٍ ممزق.
سعل إيلايجا دمًا، لكنه لم يصرخ.
قالت الساحرة وهي تقترب، عيناها مشعتان بالجنون:
"عمرك لا يعني شيئًا... دمك، اسمك... كلّه سيحترق في ناري."
حاول دايمن أن يندفع مجددًا، لكن تعويذتها أمسكت به في الهواء، تخنقه بقبضةٍ غير مرئية. عروقه اسودّت تحت جلده، والسحر يخترق جسده كسمٍّ حي.
همست الساحرة وهي تراقبه يتلوّى:
"هل تشعر به؟... نهاية سلالتك؟"
وبحركةٍ عنيفة، ارتطم دايمن بالأرض بقوةٍ مدمّرة، فانشطر البلاط تحته.
في الزاوية، كانت ريبيكا بالكاد تستعيد وعيها، تحاول النهوض:
"لا... تدعها... تنتصر..."
لكنها لم تتمكن من الوصول إليهم.
كان إيلايجا يحاول أن ينتزع نفسه من حراب السحر التي تمزّق صدره. حاول أن يتكلّم، أن يُحذّر دايمن، لكن فمه كان ممتلئًا بالدم.
اقتربت الساحرة، خطوة بعد خطوة، النار تشتعل في عينيها والغضب ينفث من أنفاسها. وقفت فوق دايمن، رفعت يدها، واستحضرت شفرةً من الطاقة، تتلألأ كأنّها شُحِذت على حوافّ الجحيم.
همست بصوتٍ لا حياة فيه:
"كان عليّ أن أُنهيك الآن..."
لكنها لم تفعل.
استدارت ببطء، عيناها تركّز على الرمز الطقسي الذي كسره إيلايجا سابقًا. لوّحت بأصابعها—فعاد الرمز ليتشكّل من جديد. وابتسمت... ابتسامة باردة كالموت.
قالت بصوتٍ منخفض، لكنه ممتلئ بالقوة:
"ظننتم أن كسر تركيزي سيوقفني؟ أنا التركيز... أنا اللعنة."
ثم صرخت، وأطلقت الموجة الأخيرة... موجة من قوةٍ مدمّرة.
تمزّق إيلايجا من على الجدار، وطار عبر الغرفة، محطمًا خزانةً مهترئة بأطرافه. أما دايمن، فتمكّن بالكاد من التدحرج جانبًا قبل أن تنفجر الأرض تحته بلهيبٍ مجنون.
سقط الاثنان، لا حراك.
وقفت الساحرة فوقهما، منتصرة، أنفاسها متقطّعة، ودماؤها تسيل، لكن نظرتها... كانت نظرة المنتصر الذي لم يُهزم.
نظرت ريبيكا، والذعر يغمر ملامحها، بينما بدأ الدخان يتبدّد.
إيلايجا مايكلسون ودايمن سالفاتور... سقطا تحت وطأة غضبها الكامل.
وكانت قد بدأت لتوّها.
كانت الغرفة لا تزال تحترق، واللعنة تنبض بقوةٍ لا تهدأ... ولا خلاص في الأفق.