الفصل 3: الكنيسة المحترقة
حلّ الصباح على ميستيك فولز محمّلًا بضباب خفيف، يلتصق بالهواء كما يلتصق النفس بزجاجٍ بارد. البلدة استيقظت ببطء تحت ستارٍ من الحياة اليومية، لكن خلف هذا الهدوء المعتاد... كان هناك شيءٌ قديم يتحرك.
وقف ألكسندر على حافة فسحةٍ مهجورة، عميقًا في أعماق الغابة. أمامه امتدت أطلال الكنيسة المحترقة — ذلك المكان الذي كاد أن يلقى فيه حتفه عام 1864، حيث تحوّل دايمن وستيفان، وهناك أيضًا، وُلدت لعنته... نصف حياةٍ ونصف موت. لم يبقَ من الكنيسة إلا الأساس — أحجار متفحمة، ورماد متناثر استولت عليه الطحالب والصمت.
خطا خطوة إلى الأمام، ببطء، وكل خطوة كانت مثقلة بذكرياتٍ مدفونة.
صرخة فتاة. لهيب يلعق السماء. وجه ستيفان المرتعش من الرعب. دايمن وهو يجرّه بعيدًا. ثم... ظلام دامس.
لكن لم تكن تلك النهاية.
لم تكن موتًا.
ليس له.
جثا قرب ما كان يومًا مذبحًا مقدسًا. مدّ يديه إلى التراب، وبدأ يحفر بأصابعه العارية حتى اصطدمت بشيء صلب. صندوق خشبي صغير، احترق سطحه حتى السواد، لكنه بقي سليمًا.
فتحه بحذر.
في الداخل، ملفوفًا بقماش باهت اللون، كان هناك قلادة قديمة — من الحديد والعظم، منقوشة برموز لم يستطع قراءتها، لكنه رآها من قبل... حول عنق والدته.
فجأة، همسةٌ خفيفة تسللت إلى الهواء، ناعمة لكنها واضحة:
"ما كان ينبغي لك أن تعود."
رفع ألكسندر نظره.
امرأة تقف بين الأشجار، رداءها يتمايل مع الريح، وعيناها تتوهجان بوميضٍ ذهبي خافت. وجهها كان مخفيًا خلف حجاب من الظلال، لكن الطاقة التي أحاطت بها... لم تكن غريبة عنه. سحرة.
"من أنتِ؟" سأل وهو ينهض.
"حارسة. من بقايا الدائرة التي لعنتك."
تقلص فكّه، الغضب يعتري ملامحه. "إذًا أنتِ تعرفين... لماذا تركوني؟ لماذا محوا ذاكرتي؟"
"لم يكن مقدّرًا لك أن تموت. لكنك لم تكن لتعيش أيضًا،" قالت. "كنتَ الرابط. التضحية التي تُثبت الطقس. كان من المفترض أن يموت دايمن وستيفان. أما أنت... فكنت الثمن."
اقترب منها خطوة. "لقد أخذوا مكاني."
"لا. لقد تحدّوا المصير. أمك حاولت إيقاف الطقوس. أنقذتك — لكن بثمنٍ باهظ. انعكس السحر عليها. اللعنة أصابتك. أصبحتَ تحمل شظايا القوة التي كان يُفترض أن تنفجر. أصبحت وعاءً."
شعر مجددًا بالاحتراق في صدره، كأن جمرًا يتوهج تحت الجلد.
"ومن أمر بكل هذا؟" سأل.
ترددت المرأة لحظة. "مجلس الساحرات. وشخص من عائلتك."
"جوزيبي..." همس ألكسندر. والده.
"لقد خافك. خشي ما أنت عليه... وما قد تصبحه."
انقبضت يداه، والقلادة في راحته بدأت تتوهج بنورٍ باهت.
"هل يمكن كسرها؟"
"ربما،" أجابت. "لكن بثمن. ستحتاج إلى دم. دم قديم. "
استدار ألكسندر دون أن ينطق بكلمة أخرى. لم يلتفت.
---
في منزل آل سالفاتور، كان دايمن يملأ كأسه مجددًا.
"لقد استيقظ،" قال وهو يراقب دوامة الشراب.
رفع ستيفان نظره. "من؟"
"ألكسندر. بدأ يتذكر. الكنيسة. القلادة. الساحرات. كل شيء يعود إليه."
خفض ستيفان صوته: "ذاك المكان كاد يقتلنا."
"بل قتلنا،" أجابه دايمن، ثم أفرغ كأسه دفعة واحدة.
سأل ستيفان بقلق: "هل تظن أنه سيأتي إلى هنا؟"
ابتسم دايمن ابتسامة باردة. "ليس بحاجة لذلك. هو بالفعل يسكن داخل رؤوسنا."
---
في المساء، كانت إلينا تتجول في ساحة البلدة، دفترها تحت ذراعها. توقفت فجأة عندما رأت ألكسندر واقفًا تحت برج الساعة، يحدّق في السماء.
"أنت مجددًا،" قالت بهدوء.
لم ينظر إليها. "الأمر ليس شخصيًا."
"ماذا تقصد؟"
"تجنّبك. أرى وجهك ولا أشعر بشيء. لا دفء. لا انجذاب. فقط... صمت."
تجهمت. "شكرًا؟"
أدار وجهه نحوها أخيرًا. "لم أقصدها كإهانة. أنتِ تذكرينني بالصمت الذي يسبق العاصفة. وأنا... عشت وسط العواصف طيلة حياتي."
مرّ بجانبها، واختفى بين المارة.
وقفت إلينا هناك، وشعور غريب يتسلل إلى أعماقها، بردٌ لا تعرف اسمه.
---
في منزلها، كانت بوني تقلّب كتب جدتها القديمة، عيناها تتنقلان بين الرموز والصفحات المتهالكة، حتى توقفت أصابعها عند رمز يشبه تمامًا الرمز الذي أراه لها ألكسندر. وتحته، كانت هناك كلمة محفورة بحبرٍ قديم:
"الوعاء."
وعاء القوة. ذاك الذي خُلق لحمل الدمار.
همست: "ما أنتَ بحق خالق السماء، يا ألكسندر سالفاتور؟"
.....
كانت ليلة حالكة قد أسدلت ستارها الثقيل على ميستيك فولز، تغلّفت الظلال بكل زاوية وهمسة، تتلصص وتتهامس بين الأشجار والطرقات الملتوية والمنازل الاستعمارية القديمة. كل شيء بدا كما كان، كأن الزمن أبى أن يتحرك. لكن بالنسبة لألكسندر سلفاتور، لم يبقَ شيء على حاله. لا منذ عام 1864. لا منذ اندلاع النيران. ولا منذ تلك الخيانة.
هبت الرياح تعوي عبر الغابة بينما كان يشق طريقه نحو منزل عائلة سلفاتور. ظهرت نوافذ المنزل القديمة من بعيد، تشع ضوءًا دافئًا خافتًا، كأنها تنبض من قلب الظلام. توقف عند حافة الأرض المحيطة به، يحدق في المكان الذي كان يومًا بيته، وبيت عائلته. تسللت إلى ذاكرته رائحة الخشب العتيق ومذاق البوربن في الهواء، وصوت العزف الهادئ على البيانو الذي كان ستيفان يعزفه، وحتى ضحكة دايمن التي عرفها يومًا، قبل أن تتحول إلى رماد.
الآن، لم يتبقَ سوى الصمت.
سُمع صوت خطواته وهي تسحق الحصى تحت حذائه الثقيل. سار ببطء، بخطوات محسوبة، وهو يحاول كتم التوتر الذي كان يغلي في صدره. أما القلادة التي في جيبه، فكانت تنبض بحرارة خافتة، كأنها تتفاعل مع الدماء التي تربطه بهذا المكان.
ثم انفتح الباب.
كان دايمن سلفاتور واقفًا في مدخل المنزل، يلفه وهج الضوء القادم من الداخل، لم يتحرك، لم ينطق. فقط استند إلى إطار الباب وبيده كأس شراب، وملامحه غامضة يصعب قراءتها.
توقف ألكسندر على بعد خطوات من السلالم الخشبية.
قال دايمن أخيرًا، وهو يدوّر كأسه:
"كنت دائمًا بارعًا في الظهور المثير."
رد ألكسندر بصوت هادئ ولكنه مشحون:
"وأنت كنت بارعًا في التظاهر بأنك لا تكترث."
امتد الصمت بينهما، مشحونًا بما لا يُقال.
"هل ستدعوني للدخول، أم سنُحيي المواجهة على الشرفة كأننا في فيلم قديم عن رعاة البقر؟"
هز دايمن كتفيه بخفة، ثم ابتعد عن الباب.
"تفضل، اعتبر المكان مكانك."
دخل ألكسندر.
رائحة المنزل لم تتغير.
خطا خطوتين فقط إلى الداخل، قبل أن تقع عيناه عليه.
ستيفان.
واقف أعلى الدرج، جامد كتمثال.
لبرهة، توقف الزمن. حتى الأنفاس حبست.
بدأ ستيفان يهبط الدرج ببطء، كأنه يخشى أن يتبخر ألكسندر إن تحرك بسرعة. وجهه كان شاحبًا، وفكه مشدود، وعيناه ممتلئتان بالصدمة والذنب.
أما ألكسندر، فبقي مكانه.
وحين أصبحا وجهًا لوجه، لا يفصل بينهما سوى خطوات، همس ستيفان:
"ظنناك متَّ."
تهدج صوت ألكسندر وهو يرد:
"أنتم... تركتموني."
تراجع ستيفان خطوة كأن الكلمات أصابته في قلبه.
"بحثنا عنك. بعد الحريق... لم يتبقَ شيء. الكنيسة—"
قاطع ألكسندر، بصوت حاد كحد السكين:
"كانت تحترق. أنت ركضت . دايمن لحق بك. وأنا كنت أنزف على المذبح."
هز ستيفان رأسه ببطء، كأن الحقيقة تؤلمه:
"لا أذكر ذلك."
"لأن أحدهم جعلك تنسى. جوزيبي. الساحرات. أو أيًّا كان من اعتبرني خطرًا."
تقدم دايمن منهما، وقال بنبرة ساخرة:
"حسنًا، هذه اللقاءات العائلية لطيفة وكل شيء، لكن قل لي، ما الذي تريده يا ألكسندر؟ لا أحد يعود بعد مئة وخمسين سنة من الغياب لمجرد العناق."
نظر ألكسندر إليه، ولأول مرة منذ دخوله، تَشقق غضبه قليلاً، ليكشف عن ألم دفين، قديم، متجذر، يصرخ بأسئلة لا جواب لها.
"أريد الحقيقة. أريد أن أعرف لماذا تُركت. لماذا لُعنت. وأريد أن أُنهي هذا."
رفع دايمن كأسه وشرب رشفة:
"تبدو مهمة صعبة."
تقدم ألكسندر خطوة، وعيناه تتقدان:
"كِدت أموت في تلك الليلة. بل مت. لكن شيئًا أعادني. شيئًا أسوأ من الموت. والآن، كل صباح أستيقظ ونار تشتعل في صدري. كأن روحي جُوّفت، وامتلأت بغضب ليس لي."
ثم التفت إلى ستيفان:
"أنت ودايمن... أصبح لديكما خيار. اخترتما أن تكونا ما أنتما عليه الآن. مصّاصي دماء. وحوش. أما أنا، فلم يُعطوني فرصة. لقد حُكم عليّ."
كانت عينا ستيفان تغوصان في الأسى:
"ماذا يمكننا أن نفعل؟"
أخرج ألكسندر القلادة من معطفه. كانت من الحديد والعظم، تتلألأ في ضوء المصابيح الخافت.
"هذه تعود لوالدتنا. لم تكن مجرد امرأة في حياة جوزيبي. كانت شيئًا آخر. ساحرة... أو مرتبطة بهم. بوني عثرت على نفس النقش على هذه القلادة في كتب جدتها القديمة. إنها جزء من تعويذة مضادة. بإمكانها سحب اللعنة... لكنها تحتاج إلى دماء آل سلفاتور. دماؤنا... الثلاثة."
نظر دايمن إلى القلادة بشك:
"تريد منّا أن نُنزف جميعًا من أجل قطعة أثرية؟"
قال ألكسندر بنبرة صارمة:
"ليست قطعة أثرية. إنها مرساة."
عاد الصمت مجددًا.
ثم تقدم ستيفان خطوة، وقال بصوت حازم:
"إن كان هذا سيساعدك... سأفعل."
تنهد دايمن بملل وتمتم:
"طبعًا، كالمعتاد."
نظر إليه ألكسندر بجدية:
"أنت مدين لي، دايمن."
وللحظة وجيزة، انكسر قناع دايمن. نظر إلى ألكسندر ورأى فيه الطفل الذي نشأ معهم. الأخ الذي تركوه خلفهم. من فشلوا في إنقاذه.
شرب جرعة كبيرة من كأسه، ثم قال:
"حسنًا. لكن إن تحولت إلى ضفدع بسبب هذا، سأكرهك للأبد."
---
التقوا تلك الليلة في أنقاض الكنيسة. الهواء كان مشبعًا بالذكريات ورائحة الرماد. الشموع تحترق حول المذبح في دائرة، وسطها كانت تقف بوني بينيت، تمسك كتاب تعاويذ مفتوح، ويداها مرسومة بأختام سحرية قديمة.
وقف ألكسندر في المركز. دايمن وستيفان عن يمينه ويساره. القلادة وُضعت فوق المذبح الحجري، تتوهج بنور خافت.
سألت بوني، تنظر إلى ألكسندر مباشرة:
"هل أنت مستعد لهذا؟"
أومأ برأسه:
"ابدئي."
شقّت راحة يده بسكين حاد. ثم فعلت الأمر نفسه لستيفان، ثم لدايمن.
اختلطت دماؤهم فوق الحجر.
توهجت القلادة بنور ساطع.
هبت رياح عاتية تعصف بين الأشجار، تعوي كذئاب غاضبة. ارتجّت الأرض من تحتهم. اشتعلت الشموع فجأة بلهب أزرق مرتفع.
صرخ ألكسندر وسقط على ركبتيه.
ألم ناري اخترق صدره كالبرق. عروقه توهجت بنار ذهبية. عقله تمزق من الداخل.
رأى رؤى متلاحقة:
—والدته تُنشد تعويذة بصوت مرتجف.
—عينا جوزيبي الباردتان وهو يسلمه.
—نصل يشق الهواء.
—دائرة من الساحرات. صرخة طفل.
اقتربت بوني أكثر، وبدأت تردد تعاويذها بصوت أعلى.
انشقّت الأرض تحت المذبح. خرجت الجذور من باطن التربة كأنها أفاعٍ. ارتفعت القلادة في الهواء، ضوؤها أصبح ساطعًا حد العمى.
ثم... تحطمت.
سقط ألكسندر أرضًا.
ساد الصمت.
فتح عينيه فرأى بوني راكعة إلى جواره، وستيفان فوقه بوجه شاحب، ودايمن يتكئ على شجرة وهو يلهث.
همست بوني:
"لقد نجحت. اللعنة ضعفت. لكنها لم تُكسر بالكامل."
حاول ألكسندر النهوض.
"لماذا؟"
أرته قطع القلادة المتناثرة، التي كانت لا تزال تنبض بضوء خافت.
"هناك مرساة أخرى. شخص آخر مرتبط بك."
عبس دايمن:
"من؟"
ترددت بوني، ثم قالت:
"توأم. ظل. مرآة. شيء يشبهك."
شعر ألكسندر بقشعريرة تجتاح عموده الفقري.
"رأيته في رؤاي..." قال ببطء. "لكنه لم يكن أنا. كان... شيئًا آخر."
نظرت بوني إليه بعينين جادتين:
"إذًا لست وحدك من لُعن. أنت القفل... وهو المفتاح."
تقدم ستيفان وسأل:
"سلفاتور آخر؟"
رد ألكسندر، صوته بالكاد يُسمع:
"لا. شيء... أسوأ."
---
في أعماق ميستيك فولز، تحت طبقات من الصخر والزمن، تصدّع قبر مختوم برموز قديمة.
خرج منه شخص من الظلال، تتساقط عنه سلاسل وغبار السنين. كان
يشبه ألكسندر... لكنه أكبر سنًا، أغمق روحًا، وعيناه تتوهجان بلون الدم.
مد ذراعيه، وابتسم.
"لقد حان الوقت..." قال، وذاب الحجر من حوله كما يذوب الشمع.
"أخي... أنا عائد إلى المنزل."
---