الفصل 48 : الهدوء الذي يسبق العاصفة
كان صباح ميستيك فولز أكثر برودة من المعتاد. الضباب زحف على الأرض كأنّه أشباح تتسلل بين الأشجار، تهمس بأسرار قديمة. ووقف منزل آل سلفاتور في صمت مترقب، كما لو أن جدرانه نفسها كانت تحبس أنفاسها، تنتظر ما سيأتي.
وقف ألكسندر في الفناء الخلفي، يواجه الغابة، والشمس المشرقة خلفه ترسم ظله على العشب النديّ. قميصه كان مبللًا بقطرات الندى، ويداه مشدودتان إلى جانبيه، قبضتاه محكمتان. كان فكه متشنجًا مع كل نفس، والتوتر في عضلاته كزنبرك مشدود على وشك الانفجار.
لم يغادره الحلم.
ليس حقًا.
لا الصرخات، ولا الظلمة، ولا ابتسامة إلياس الملتوية وهو يجرّه، شابًا يافعًا، إلى عمق الظلال. ولا ذلك الصوت المقزز لعظام تتكسر تحت ضغط لا يُحتمل. ولا ضحكة كاثرين التي كانت تتردد في الخلفية، بينما كانت ساحرتها تهمس بتعاويذ ربطت روحه بالألم الأبدي.
ثلاثون عامًا.
هو لا يتذكّر كل شيء، لكن ما يتذكره... يكفي.
والأسوأ؟ الصمت. العزلة. أن يُجرد من كل شيء—هويته، عائلته، مستقبله—ثم يُعاد تشكيله إلى شيء أجوف.
حتى هرب.
حتى تعثر، محطمًا ونصف ميت، في ميستيك فولز. وها هو الآن... حيّ، لكنه لا يزال مطاردًا.
"صباح الخير،" جاء صوت ستيفان من خلفه.
لم يلتفت ألكسندر، لكن زاوية فمه ارتفعت بابتسامة خفيفة.
"منذ متى وأنت تقف هناك؟"
"منذ ما يكفي لأعرف أنك لا تستمتع بالمشهد فقط."
مرّت لحظة صمت.
قال ألكسندر بصوت خافت:
"أتذكر كل شيء الآن. تقريبا. ما فعله بي... ما فعلته هي... وما أصبحت عليه."
اقترب ستيفان منه، حتى وقف بجانبه.
"وماذا بعد؟"
"والآن... الأمر يؤلم."
وقفا في سكون، ذلك الصمت الذي لا يعرفه إلا الإخوة—مفعم بالفهم، والتاريخ، والقلق الذي لا يحتاج إلى كلمات.
قال ستيفان بثقة:
"سنُنهي هذا. معًا."
"أعرف."
---
في الداخل، وقف دايمن عند طاولة الفطور، يتفحّص مفكرة قديمة تعود إلى إحدى ساحرات ميستيك فولز—نفس المفكرة التي ورد فيها أول ذكر لالياس مارو. إلى جانبه جلس آلاريك، يدون ملاحظات متسارعة.
"هنا،" قال دايمن، مشيرًا إلى رسم صغير محفور على الهامش. "هذا الرمز. ظهر في حلم ألكسندر."
انحنى آلاريك ليرى أوضح:
"إنه ختم سحري. يُستخدم في طقوس الربط بالدم. يبدو أن الياس استعمله عندما ألقت ساحرة كاثرين اللعنة."
تصلب فك دايمن:
"إذاً لم يكتفوا بلعن ألكسندر. و حرصوا على أن يفقد ذاكرته...و أن يُمحى من الوجود."
قال آلاريك بنبرة هادئة:
"وكادوا أن ينجحوا. لكنهم لم يحتسبوا وجود بوني."
ارتسمت ابتسامة فخر على شفتي دايمن:
"لا أحد يحسب لها حساب. أبدًا."
دخل ألكسندر، وانضم إليهم عند الطاولة.
"علينا أن نعثر على الياس. ما قضينا عليه سابقا كان مجرد قوقعه. الحقيقي لا يزال في الخارج. علينا العثور عليه وبسرعة."
"أرسلت بعض الإشارات لجهاتي،" قال دايمن. "لكنه بارع في الاختباء."
أجاب ألكسندر بحزم:
"ليس لفترة طويلة. الآن... أتذكر كل شيء. وأعرف أين سيذهب."
رفع آلاريك حاجبه:
"أين؟"
رفع ألكسندر نظره، عيناه تشتعلان:
"الكهف الذي حبسني فيه. من هناك بدأ كل شيء. ومن هناك سينتهي كل شيء. حيث قتلت القوقعة سابقا كان المكان الذي لعني فيه ولكن عذبني في مكان اخر "
ومن عتبة الباب، دخلت بوني بهدوء، نظراتها تتعلق أولًا بألكسندر.
"إذًا سنكون مستعدين."
دخل ستيفان خلفها، وهو يخبئ خنجرًا داخل سترته.
"حان الوقت لننهي أمر هذا اللعين."
أمسك دايمن بمعطفه، وعلى وجهه نظرة لا تُخطئها العين:
"ولنُذكّره بما يحدث حين يعبث أحدهم مع آل سلفاتور."
نظر ألكسندر إليهم واحدًا تلو الآخر. عائلته. مرساته.
"فلننهي الأمر."
--
في الصباح التالي
كان هواء الصباح مثقلاً بالتوتر. منزل آل سلفاتور غارق في سكون غير معتاد، كما لو أن الجدران ذاتها تحبس أنفاسها.
وقف ألكسندر في الردهة، مرتديًا الأسود بالكامل. كان فكه مشدودًا، ونظراته مسلّطة إلى الأمام كرجل يسير نحو إعدامه. لقد اتخذ قراره.
وقفت بوني على بُعد خطوات قليلة منه قرب الباب الأمامي، وذراعاها معقودتان بإحكام. كانت تنظر إليه وكأن بإمكانها منعه من الرحيل بقوة إرادتها وحدها.
قالت بصوت خافت:
"لا يجب أن تذهب وحدك. يجب أن أكون هناك. أريد أن أكون هناك."
هزّ ألكسندر رأسه دون أن يلتقي بعينيها.
"أنتِ تريدين المساعدة. أعلم ذلك. لكن الأمر مختلف هذه المرة، يا بوني."
تقدّمت خطوة وأجبرته بعينيها على أن ينظر إليها.
"أنا لست خائفة. وأنت تعرف ذلك."
أجابها بصوت هادئ مثقل:
"ولا أنا. وهذه هي المشكلة."
قطبت حاجبيها.
"ماذا تعني؟"
قال، وصوته يكاد يتشقق تحت ثقل ما يخفيه:
"لست خائفًا من أن أفقد نفسي. ولا من قتله. ما يخيفني حقًا هو ما سأصبح عليه عندما أفعل. وإن كنتِ هناك... إن لمسَك، أو سمعتك تصرخين—لن أعود."
"ألكسندر..."
"سأمزقه إربًا وأحرق الأرض من تحته. ولن أتمكن من إيقاف نفسي."
مدّت يدها تمسك بيده بقوة.
"أنت لست وحشًا."
ابتسم ابتسامة خافتة، ممزوجة بالمرارة.
"هكذا يقول الوحوش... عندما يحاولون إقناع أنفسهم أنهم ما زالوا بشرًا."
تنفّست بعمق.
"فدعني أذكّرك إذن. دعني أقاتل إلى جانبك."
لكنّه سحب يده بلطف، ووضع كفه على خدها بحنان.
"لقد فعلتِ ذلك بالفعل. أنقذتِني من الجحيم يا بوني. دعيني أردّ الجميل... بإبعادك عنه."
وقبل أن تهمّ بالكلام مجددًا، دوّى صوت دايمن من غرفة الجلوس:
"ألكسندر! حان الوقت."
ألقى ألكسندر نظرة أخيرة على بوني—وداعٌ صامت—ثم استدار ورحل.
---
كان ستيفان متكئًا على باب الراكب في سيارة ، بينما كان دايمن يغلق صندوق السيارة بعد أن أنهى تحميل آخر الأسلحة.
"لا زلت غير مقتنع أن هذه فكرة جيدة،" تمتم ستيفان. "أن نذهب، دون الباقين..."
رد دايمن وهو يصفق الباب بقوة:
"ليس وكأننا سنأخذ معنا موكبًا. هذه معركتنا نحن... مع إلياس. دائمًا كانت كذلك."
وصل ألكسندر إليهم بعد لحظات، ووجهه جامد كالصخر.
رفع دايمن حاجبًا.
"كل شيء على ما يرام؟"
"إنها باقية،" أجاب ألكسندر.
"بوني؟" سأل ستيفان. "طلبت منها ألا تأتي؟"
أومأ ألكسندر برأسه.
"لكن لماذا؟" قال دايمن. "أنت تعرف كم هي قوية."
قال ألكسندر بصوت منخفض:
"أعرف. لكنها ليست سريعة بما يكفي. ليست خالدة. وإن حدث لها شيء بينما أقاتل إلياس..."
أمال ستيفان رأسه:
"تعتقد أنك قد تفقد السيطرة؟"
"لا،" أجاب ألكسندر بثبات. "أنا متأكد أنني سأفعل."
ساد الصمت، بينما امتلأت الأجواء بثقل الحقيقة في كلماته.
"لقد كنت أحبس هذا اللهيب في صدري لسنوات دون أن أعلم،" تابع. "والآن عرفت من أشعله. وحان وقت إطفائه."
زفر دايمن ببطء:
"وإن لم تستطع؟"
"سأفعل."
---
كانت الغابة على أطراف ميستيك فولز غارقة في صمتٍ ثقيل—صمت يلتصق بالبشرة كالرطوبة قبل العاصفة. ترجل الإخوة من السيارة، والأسلحة مربوطة على ظهورهم، بينما عينا ألكسندر تشعّان بوميض غير طبيعي.
ضبط ستيفان قبضته على وتد فضي.
"أي أثر له؟"
نظر ألكسندر حوله:
"إنه هنا. ينتظر."
"لماذا ينتظر؟" سأل دايمن.
"لأنه يريدني أن أجده،" أجاب ألكسندر. "يريدها مواجهة شخصية."
وهم يتوغّلون أكثر في أعماق الغابة، تكلّم ستيفان أخيرًا بما كان يخالج صدره:
"ماذا سيحدث بعد أن تقتله؟"
لم يتوقّف ألكسندر عن السير.
"حينها... ينتهي كل شيء."
قطّب دايمن حاجبيه.
"تظن أنك ستكون حرًا بعد ذلك؟"
ألقى ألكسندر نظرة حادة من فوق كتفه.
"أنا أعلم."
تردد ستيفان قليلًا.
"وإن كنت مخطئًا؟"
"فادفنوني بجانب من يأخذه الموت معي."
---
بعد البحث لوقت طويل جدا . طويل لدرجة أن الثلاثة اعتقدوا انهم كانوا يبحثون لمدة قرن
وجدوه...
وجدوه واقفًا قرب بقعة خالية من الأشجار، تحت شجرة ملتوية ككابوس من زمن غابر. الياس مارو. كان معطفه الأسود يرفرف قليلًا مع نسمات الريح، وعيناه سوداوان كالرماد المحترق. تشتعلان... فارغتان.
قال بابتسامة خبيثة:
"إذًا، فتيان آل سلفاتور جاؤوا ليرقصوا."
تقدّم ألكسندر خطوة.
"لا رقص اليوم. فقط موتك."
تأمّله إلياس.
"لقد كبرت. أذكر جيدًا كيف كنت تصرخ كل ليلة في ذلك القفص."
قبضتا دايمن اشتدّتا. وفك ستيفان تيبّس.
تابع إلياس وهو يدور حولهم ببطء:
"تتذكّر القفص... السلاسل... الأحلام التي انتزعتها منك. الروح التي أحرقتها حتى الرماد."
لم ينطق ألكسندر بكلمة، فقط واصل التقدّم حتى أصبح بينه وبين إلياس مسافة أنفاس.
وأخيرًا قال:
"أتذكّر وجهك. لكن لا أتذكّر أنني كنت خائفًا."
ابتسم إلياس بمكر:
"كنت كذلك. فقط نسيت. وأنا من تأكد من ذلك."
همس ألكسندر:
"دعني أُذكّرك،" ثم لكمه بقوةٍ جعلت الأشجار خلف إلياس تهتز من شدة الضربة.
--
اشتعل القتال كبرقٍ وسط عاصفة. انقضّ ستيفان ودايمن بأسلحتهما تتوهج تحت الضوء الخافت، بينما تحوّل ألكسندر إلى شيء آخر تمامًا—سريع، شرس، لا يرحم.
قاتل إلياس كوحشٍ خُلِق من سحرٍ عتيق. كانت الظلال تخرج من أطراف أصابعه، تتشكل إلى سكاكين ومخالب. كل حركة كانت تهدف إلى القتل.
طوال السنين الماضية كان إلياس يمتص الأرواح و الطاقة من المخلوقات التي يمسكها و يعذبها
سحره
مستذئبين
مصاصي دماء
اي مخلوق اخر يمسكه
هو كان يمتص طاقتهم من اجل حياة أطول و قوة اكبر
والان كان يقاتل بها
لكن ألكسندر لم يتراجع.
كان يتفادى الضربات، يلتف، يردّ بقوةٍ زلزلت الأرض من تحته. كل ضربة كانت صرخة من الماضي، وكل لكمة كانت ذكرى تُنتقم.
ارتطم دايمن بشجرة، والدم على شفتيه. وتلقّى ستيفان جرحًا عميقًا في ذراعه، لكنه واصل القتال.
أما ألكسندر، فلم يشعر بهم حتى. كان تركيزه مطلقًا. غضبه... مقدّس.
"لقد عذّبتَ طفلًا،" زمجر، وهو يضرب إلياس بصخرة. "مَحوتَ عائلتي."
ضحك إلياس والدم يسيل من فمه:
"ومع ذلك... عدت مكسورًا. لعنة تمشي على قدميها."
زأر ألكسندر، وغرس قبضته في صدر إلياس—لكن الأخير اختفى في ظلاله، ليظهر خلفه ويرمي شعلةً سوداء أصابت ظهره.
سقط ألكسندر على ركبة واحدة، لكنه لم يتوقف. لم يصرخ.
همس إلياس من خلفه:
"لقد نسيت... أنت لست بطلاً. أنت من صُنع يدي."
وقف ألكسندر ببطء.
وقال بثبات:
"لا... أنا نهايتك."