الفصل 50 : بين الدم والأنفاس
كانت السيارة تنطلق بسرعة على الطريق المظلم، بينما امتدّ الصمت كثقل عاصفة تنتظر لحظة الانفجار. جلس ستيفان خلف المقود، يديه تقبضان عليه بقوة، وعروق ذراعيه تبرز من تحت كمّ سترته المشدود. بجواره جلس دايمن، يرمق المقعد الخلفي بنظرات متقطّعة.
في الخلف، كانت بوني تضمّ ألكسندر إلى صدرها.
رأسه مستقر في حجرها، ساكن لا يتحرك، بشرته شاحبة كالموت، صدره ساكن لا ينبض، وعيناه مغلقتان بإحكام، كأنّما يتشبّث بشيء في أعماقه، رافضًا الاستسلام. دمه، المتخثّر والمائل إلى السواد كالرّماد، لطّخ قميصه الممزّق. يده المسترخية استقرت على فخذها، خالية من الحياة.
كانت بوني تهمس له بلطف، وهي تمسح تجعيدات شعره المبتلّة بالدم والعرق عن جبينه.
"نحن على وشك الوصول، ألكسندر..." همست، غير واثقة إن كان يسمعها. "لا تتخلّ عنّي الآن... لقد وعدتني..."
لم ينطق أيّ من الأخوين بكلمة.
لكن الصمت، في حدّ ذاته، كان أبلغ من كلّ الكلمات.
---
اندفعت أبواب منزل سالفاتور فجأة.
كان دايمن يحمل ألكسندر بين ذراعيه، بينما سبقتهم بوني إلى الداخل، تفسح الطريق نحو المساحة التي أعدّوها مسبقًا. أمّا ستيفان، فقد بدأ بإزاحة الأثاث المتناثر والكتب المتراكمة كعاصفة لا تعرف الرحمة.
أرقدوه على الأريكة، رأسه في حجر بوني من جديد، بينما هي تهمس بتعاويذ قديمة، محاوِلة أن تثبّت روحه المتصدعة.
"أحتاج كل شيء. البلّورات. الأعشاب. الرموز. كل ما لدينا..." قالت بنبرة مستعجلة.
لم يتردد دايمن، بل اختفى في الحال متّجهًا نحو القبو، يفتش الجنادل والصناديق كما لو كان يبحث عن قلبه ذاته. أما ستيفان، فقد أمسك هاتفه واتصل فورًا:
"ألارك، نحتاج إليك، الآن."
وأغلق الخط قبل أن يتمكّن ألارك من الرد.
مكالمة أخرى.
"إيلايجا، كلاوس... تعاليا إلى ميستيك فولز. الأمر يخص ألكسندر. إنه أمر خطير."
---
تلاشت معالم الزمن.
وضعت بوني يديها على صدر ألكسندر وأغمضت عينيها. كانت روحه تتلاشى، متصدّعة، غارقة في أصداء المعركة. الحروق التي تناثرت على جسده لم تكن مجرّد إصابات جسدية. لقد استدعى قوىً من أعماقه، قوى قاتلة، خطيرة، نهائية. لقد مات إلياس، لكن الثمن كان باهظًا.
عاد دايمن إلى الأعلى، يحمل ذراعيه ممتلئتين بكل ما وجده.
"أتظنين أنّ هذا سينجح؟" سأل، صوته مليء بالشك والرجاء.
لكن بوني لم تُجب.
بل بدأت ترسم رموزًا قديمة على عظمة الترقوة لدى ألكسندر، تهمس بتعاويذ تعود لعصور طواها النسيان. تراقصت لهب الشموع، وتحوّلت ألسنتها إلى اللون الأزرق. وساد في الغرفة كلها صدى غريب، طاقة قديمة، مشوشة، كأنّها نَفَس من زمن آخر.
وفجأة—شهق.
نَفَس واحد.
ثم سكون مرعب.
انحنت بوني عليه، والدموع تتساقط من عينيها. "لا تفعل هذا بي مجددًا…"
---
في الخارج، اقتربت أضواء سيارة من المنزل.
فتح ستيفان الباب، فدخل كلاوس وإيلايجا، يتبعهما ألارك، ثم ريبيكا التي طغى القلق على ملامحها.
كان إيلايجا أول من انحنى إلى جوار ألكسندر. "هل ما زال على قيد الحياة؟"
"بصعوبة شديدة"، أجاب ستيفان.
أما كلاوس، فلم ينطق بكلمة. حدّق في ألكسندر طويلًا، ثم استدار مبتعدًا، ويداه تقبضان على الفراغ.
قالت بوني بصوت خافت: "لقد استنزف كلّ شيء في داخله… استخدم شيئًا لا أفهمه حتى."
"إنه عالق"، قال إيلايجا. "بين الحياة والموت."
تقدّم ألارك، وأسقط حقيبته بجانبه.
"أحضرت شيئًا… أثرًا قديمًا. يُقال إنه يساعد في ربط الروح بالجسد."
هزّت بوني رأسها: "فلنجرّب كل شيء."
---
لكن في تلك اللحظة—
كان ألكسندر في مكان ما بين العدم والوجود.
بُعدٌ بلا حدود، حقلٌ مظلم، سماء بلا قمر، وضباب أبيض يلتف حول قدميه. نظر إلى الأسفل، فرأى جسده، يتوهّج بندوب فضّية، وظلال تتراقص فوقه.
وعلى الطرف الآخر من الحقل—رآهم.
دايمن وستيفان، بالكاد يبانان من خلال الضباب، كأنّه ينظر إليهما من تحت الماء. مدّ يده نحوهما، لكنّه لم يستطع لمس شيء.
"أنا ما زلت هنا..." قال بصوت مبحوح. "أنا ما زلت هنا…"
شعر بيدٍ تلمس كتفه.
استدار بسرعة.
فإذا بصبي صغير يقف خلفه.
عيناه مظلمتان، وحزن عميق يثقل ملامحه.
ذاته التي التقاها سابقا
"لم يكن من المفترض أن تنجو من تلك المعركة"، قال الفتى. "لقد أحرقت الكثير."
"من أنت؟" سال ألكسندر لانه لا يتذكر ما حدث هنا سابقا
أمال الصبي رأسه. "لا تتذكر...توقعت ذلك.
أنا جزءٌ مما سُلِب منك. ذكرى. أنت تذكّرت الآن، أليس كذلك؟ ثلاثون عامًا. إلياس. الألم. الظلام."
تقلّص فكّ ألكسندر، وتمتم:
"تذكّرت كل شيء."
قال الفتى: "هم يظنّون أنهم أنقذوك... لكنهم لا يستطيعون، إلا إن أردت أنت النجاة."
"أريد أن أعيش."
ابتعد الفتى بخطوات بطيئة، وهو يتلاشى في الضباب: "إذاً قاتل، ألكسندر. عليك أن تقاتل من أجل الحياة."
"وإن فعلت... فسأراك مجددًا، يومًا ما. ولكن عليك ان تفهم
في المره القادمه لن تكون هناك فرصة اخرى فلقد حصلت على الكثير بالفعل "
---
في العالم الحقيقي، اشتعلت طاقة بوني كشرارة.
انطفأت الشموع.
ارتجف جسد ألكسندر.
شهقة—
نَفَس كامل هذه المرة.
فتح عينيه.
لقد عاد.
على حافة الموت...
لكنّه عاد.
---
انهار دايمن إلى الأرض، يستند إلى الحائط، زافراً أنفاسه.
"لا تفعل ذلك مرة أخرى، بحق الجحيم..." تمتم.
تنفّس ستيفان الصعداء، وكأن صدره كان مقيّدًا منذ ساعات.
ابتسمت بوني بلطف، ويدها المرتجفة لامست وجنة ألكسندر المحترقة.
"مرحبًا بعودتك..." همست.
حاول ألكسندر أن يتكلم. لكن صوته كان مبحوحًا، بالكاد يُسمع. "أنتِ... أعدتِني..."
أومأت برأسها.
"ولن تكون وحدك بعد الآن"، همست بحنان.
خلفهم، استدار كلاوس بهدوء، فقبض فكيه، وعيناه تخفيان شيئًا عميقًا.
أما إيلايجا، فوضع يده على كتف بوني، وقال بإجلال: "لقد صنعتِ شيئًا خارقًا."
فأجابت بوني: "لا. هو من فعل. هو من اختار أن يعيش."
أدار ألكسندر رأسه نحو أخويه.
وللمرة الأولى منذ المعركة...
ابتسم.
لا من ألم.
ولا من حزن.
بل بشيء آخر...
أمل.
---