الفصل 55: رقصه من الماضي

بدت ملكية آل سلفاتور وكأنها مشهد خارج من حلمٍ عتيق. أضواء ناعمة كأضواء الجنيات كانت تتلألأ فوق الرؤوس، ملتفّة حول أشجار السنديان القديمة التي وقفت شامخة، كشهودٍ صامتين على قصة الحب التي تتفتح أسفلها. بتلات الزهور البيضاء نثرت على العشب الأخضر، ونغمة بيانو رقيقة انسابت في الأجواء كنسمة دافئة من الماضي.

لقد حان اليوم الذي سيتزوّج فيه ستيفان سلفاتور من كارولاين فوربس.

وقف ألكسندر أمام المرآة يعدّل ربطة عنقه، توتر خافت يختبئ خلف مظهره الهادئ المعتاد. من الغرفة المجاورة، سمع صوت تذمّر دايمن من غياب مشروب البوربون في قائمة مشروبات حفل الاستقبال، ولم يستطع إلا أن يبتسم ابتسامة صغيرة.

"هل كل شيء على ما يُرام؟" سأل دايمن وهو يدخل الغرفة، وهو يشد أزرار كمّي قميصه. بدا أنيقًا على غير العادة في بدلة داكنة، رغم أن ابتسامته الساخرة لم تفارِق محيّاه.

"قلق على ستيفان،" اعترف ألكسندر، ثم أضاف بنبرة مرحة، "وعلى الخطاب الذي عليّ إلقاؤه."

ربت دايمن على ظهره قائلاً: "فقط لا تبكِ، ستُفسد بذلك صورتك الغامضة المتجهمة."

ضحك ألكسندر بصوت خافت: "لا أعدك بذلك."

---

في الخارج، بدأ الضيوف في الوصول. ألارك قد اتى للتو ، وحيّى الأخوين بإيماءة خفيفة قبل أن يجلس في مقعده. بوني لوّحت لألكسندر من الجهة الأخرى من الممر، وقد بدت فاتنة في فستان أخضر عميق تناغم مع الخلفية الغابية للمكان. وقفت إيلينا إلى جانبها، بذراع متشابك مع والدة كارولاين، ليز فوربس.

حتى كلاوس وإيلايجا حضرا، واقفين بهدوء في مؤخرة الحضور. ورغم قدمهما وأصالتهما كأصليّين، بدا عليهما التأثر من سكينة المراسم.

ثم أتى ذلك اللحظة المنتظرة.

سارت كارولاين في الممر.

صوت انسياب فستانها الأبيض خلفها بدا كهمسة من الزمن، وابتسامتها أضاءت المكان، وعيناها لم تغادرا وجه ستيفان.

وقف ستيفان عند المذبح، قلبه يخفق بشدّة. لقد واجه الموت والدمار والخيانة، لكن لم يرتعش قلبه كما ارتعش الآن وهو يراها تقترب منه.

وحين وصلت إليه، همس لها قائلاً: "تبدين مذهلة."

فأجابته مبتسمة: "وأنت لا تبدو سيئًا، يا سلفاتور."

---

تولى ألارك مراسم الزواج. كان صوته هادئًا، ثابتًا، لكنه مشبع بالدفء.

"نحن مجتمعون هنا اليوم لنشهد على اتحاد شخصين مرّا بما لا يستطيع العقل تصوره... ومع ذلك، ها هما يقفان أمامنا اليوم، أقوى من أي وقت مضى."

أما العهود، فكانت بسيطة وعميقة.

قال ستيفان: "لقد أحببتك في كل نسخة من نفسي، وسأستمر في حبك في كل نسخة من ذاتك."

وقالت كارولاين: "في يومٍ ما أخبرتني أنك لا تؤمن بأنك قادر على الحب. وأنا سعيدة جدًا لأنك كنت مخطئًا."

ذُرفت الدموع. مسح دايمن عينيه بتظاهر درامي، لترد عليه لكمة خفيفة من ألكسندر.

وحين تبادلا القبلة، دوّى التصفيق في الأرجاء كالرعد وسط الغابة.

---

وبعد القبلة، تعالت الهتافات والتصفيق مرة أخرى. عينا كارولاين لمعتا وهي تهمس بشيء في أذن ستيفان، فابتسم بدوره وضحك بخفة.

تحولت موسيقى البيانو الناعمة إلى نغمة أكثر إشراقًا ومرحًا. أخذ دايمن بيد إيلينا وسحبها إلى ساحة الرقص بحركة درامية جعلتها تضحك بحرارة. دفعت بوني ألكسندر بخفة، فابتسم ، ثم اقترب منها وأدارها بخفة وسط الإيقاع المتصاعد.

ملأ الضحك والموسيقى أرجاء البيت، يتردد صداها بين الجدران العريقة كأشعة الشمس المنسابة من النوافذ الواسعة. كانت الليلة مغمورة بالفرح، مضاءة بشموع واهنة، تنبض بأرواح قديمة تتعلّم الحب من جديد.

ومع تراجع وتيرة الرقص إلى إيقاع أكثر هدوءًا، انسحب ألكسندر تدريجيًا من ساحة الرقص. نقر بملعقته على كأسه بلطف، فكان لصوت الرنين الهادئ أثر في إسكات الحاضرين الذين التفتوا نحوه.

تنحنح بخفة، وقد ظهرت لمحة نادرة من التوتر في عينيه. "هل لي بلحظة؟" قال. "لست بارعًا في الخُطب. أنا من النوع الذي يكتفي بالتجهم والتنهد."

ضحك ناعم سرى في أرجاء الحفل.

"لكن الليلة مختلفة،" تابع ألكسندر، وهو يرمق ستيفان وكارولاين بنظرة دافئة. "الليلة... أنظر إلى الرجل الذي ساعدني على الوقوف مجددًا، في وقت ظننت فيه أنني لم أعد سوى حطام. وأنظر إلى المرأة التي أضاءت عالمه بطريقة لم أكن أظن أنها ممكنة."

توقف لحظة. ثم قال: "ستيفان، كنت أول من أخبرني أنني لست محطمًا. وكارولاين، أنت منحتِه سببًا ليؤمن من جديد. والآن... أنتما تثبتان أن الحب يستحق القتال من أجله. حتى بعد كل ما مررنا به."

خفَت صوته، واكتسى بنبرة صادقة: "هذا المنزل رأى دمًا ونارًا. صرخات وحزنًا. لكنه الليلة شهد الأمل. أنتما منحتمانا ذلك."

رفع كأسه. "إلى ستيفان وكارولاين. إلى مستقبل أقوى من أي لعنة. إلى الحب، والوفاء، والعائلة."

رفع الجميع كؤوسهم في انسجام، ورددوا: "إلى ستيفان وكارولاين!"

وحين عادت الموسيقى، وعاد الضحك يملأ المكان، نظر ألكسندر إلى أخويه—عائلته—وشعر، للمرة الأولى منذ زمن طويل، أن العالم قد يكون بخير فعلًا.

---

استمرت الاحتفالات بالزفاف حتى ساعات الليل المتأخرة. كان قصر آل سالفاتور يغمره وهج ناعم من أضواء الزينة المتلألئة والشموع المتوهجة، تتراقص كأنها نجوم صغيرة في حضن الظلام. تدفقت الضحكات عبر كل ركن في المنزل، تلامست كؤوس النبيذ في صداقة ودفء، وتعانق الأصدقاء القدامى وكأن الزمن عاد بهم إلى لحظة صفاء نادرة. أما الموسيقى، فكانت تنبض بإيقاع سلام حقيقي قلّ أن عرفوه من قبل.

كان الأزواج يتمايلون على أنغام الرقص، بينما وقف ألكسندر بصمت في أحد الأركان، يحمل كأساً بين يديه، وعيناه تتجولان في أنحاء القاعة، تتأمل الوجوه التي لم يكن يتصور يوماً أن يراها تبتسم من جديد—إخوته، بوني، كارولاين، حتى كلاوس يضحك على طرفة قالها إيلايجا بهدوئه المعتاد. ولأول مرة منذ قرون، سمح ألكسندر لنفسه أن يتنفس دون أن يعتصر الخوف صدره.

تقدمت بوني نحوه، ولفّت يدها برفق حول ذراعه.

"لن تتركني أرقص مع الهواء، أليس كذلك؟" قالت مبتسمة.

ضحك بخفوت، ونظراته تلين.

"لم أكن يوماً من محبي الموسيقى الحديثة... كلها أكتاف تتمايل ونار تشتعل."

مالت نحوه مداعبة، "وأنت كلك جمود وقدماء القرون؟"

"شيء من هذا القبيل."

ابتسمت، وكادت أن تسحبه إلى ساحة الرقص، لكن في تلك اللحظة بدأ عزف مقطوعة موسيقية مختلفة—لحن كمان شجي، هادئ، ينساب بروح عتيقة، كأن الزمن عاد فجأة إلى الوراء. لم تكن تشبه ما عُزف من قبل، بل حملت معها ظلاً من الحنين، ونغمة منسية من زمن غابر.

تجمّد ألكسندر في مكانه.

نظرت إليه بوني متسائلة، "أتعرف هذه المعزوفة؟"

انطفأ البريق في عينيه قليلاً، كما لو أن الزمن تشقّق أمامه.

"أعرفها"، همس، "رقصنا على هذا اللحن... في عام 1803."

ومن غير أن يقول كلمة أخرى، تقدم بخطى رشيقة—خطوات نبيلة، أنيقة، متزنة. قامته استقامت، وحركاته اتسمت بالدقة والرقي. لم يكن ذلك تمايلاً عصرياً، بل رقصة بالغة الانضباط، تعلّمها في قاعة أرستقراطية على ضوء الشموع. رقصة تحمل في طيّاتها أناقة الماضي، وهيبة الأزمنة الغابرة.

تراجعت بوني خطوة إلى الوراء، تتابعه بدهشة مبهورة.

في الجهة الأخرى من القاعة، ضيّق دايمن عينيه وهو يراقب أخاه، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.

"يا للعجب..."

تقدّم بخطوات وئيدة، وانضم إلى ألكسندر بسلاسة، ليشاركه الرقصة في انسجام تام.

في صمت مهيب، بدأ الشقيقان سالفاتور يرقصان. لم يكونا يتمايلان عبثاً، ولم يكونا يستعرضان... بل كانا يتذكّران.

انزلقت أقدامهما على أرضية الخشب في حركات متناغمة، كأنها مرآة تعكس خطوات الماضي. دورانهما كان مثالياً، يشبه رقصة أدوها كأطفال أمام عينَي والدتهما الصارمة، وتحت نظرة والدهما الباردة. ساد الصمت في القاعة، وكل الأنظار التفتت إليهما. إلينا، كارولاين، بوني—وقفن مذهولات، وكأنهن يشاهدن مشهداً من مسرحية قديمة بعثت للحياة.

"ما نوع هذه الرقصة؟" همس أحدهم.

لكن الأصليين كانوا يعرفون.

وقف إيلايجا بجانب كلاوس، يحتسي كأساً من البوربون.

"تلك"، تمتم إيلايجا بنبرة عميقة، "هي رقصة الفالس الفييني... بأسلوب ما قبل الحرب."

أومأت ريبيكا برأسها، وعيناها تلمعان بوميض من الذكرى.

"مضت قرون منذ رأيتها تُؤدى بهذا الإتقان."

كان ألكسندر ودايمن يرقصان كما لو أن الزمن انمحى، وكأن المكان عاد بهم إلى سالف عهدهم. ثم، تقدم ستيفان بخطوة مترددة، لكنه سرعان ما وجد الإيقاع. ثلاثة إخوة، يتحركون كجسد واحد. خطوطهم، دورانهم، توقيتهم—كل شيء كان متناغماً، كأنهم لم يُفصلوا يوماً.

شهقات خافتة انطلقت من الحضور.

وضعت بوني يدها على قلبها، وهمست لكارولاين:

"هل رأيتِ شيئاً كهذا من قبل؟"

هزّت كارولاين رأسها ببطء، مأخوذة بالمشهد.

"كأنهم... خُلقوا لهذا اللحظة."

كان وجه ألكسندر ساكناً، ولكن السعادة كانت واضحة فيه. التقت عيناه بعيني بوني أثناء الدوران، وابتسم لها ابتسامة تحمل مزيجاً من الذكرى والحاضر.

وعندما بلغت الموسيقى ختامها، انسحب الإخوة الثلاثة إلى الخلف في انسجام، وانحنوا بانسيابية، في مشهد مثالي.

لحظة صمت خيّمت على القاعة.

ثم انفجرت التصفيقات، عاصفة ودافئة.

امتدّت الليلة بعد ذلك في دوّامة من الضحك والفضول. اقترب الضيوف من الإخوة سالفاتور، يطلبون دروساً في الرقص، ويسألون عن الماضي، والموسيقى، وأصول الرقصة. استمتع دايمن بالاهتمام، بالطبع، ودار بإلينا في دوران نصف مترنّح ضاحك. سرق ستيفان كارولاين من جديد بين ذراعيه. وأما ألكسندر...

فقد مدّ يده نحو بوني، وعاد إليها أخيراً.

"لم تخبرني أنك تجيد الرقص بهذا الشكل"، قالت مداعبة.

"كان لابد أن أفاجئك بشيء ما"، أجابها بصوت هادئ وعينين يملؤهما الحنين.

تمايلا معاً، بخطى أبطأ الآن، تنتمي إلى الزمن الحاضر. لكن ذلك التوهّج لم يغادر عيني ألكسندر.

وفي زاوية أخرى من ساحة الرقص، انجذب الأصليون إلى ركنهم الخاص، يتبادلون بين الحين والآخر خطوات من قرون أكثر قِدَماً. قاد إيلايجا ريبيكا في رقصة ناعمة، أما كلاوس، فقد رقص مع ذكرى كامي، وأغمض عينيه لوهلة.

كانت الليلة تنبض بسحر لا تصنعه التعاويذ. سحر أقدم، أعمق.

كان الفرح.

ومع امتداد النجوم عبر السماء، ظلّ قصر آل سالفاتور يزخر بالحياة. موسيقى، وضحكات، وخطوات عبرت العصور—من الماضي، إلى الحاضر، وربما، أخيراً... نحو مستقبل يستحق أن يُؤمن به.

--

2025/06/04 · 8 مشاهدة · 1416 كلمة
نادي الروايات - 2025