الفصل 5: حين تصطدم الظلال
كان "آش" يتسلل بين أشجار الغابة كطيفٍ بلا جسد، كل خطوةٍ منه همسة موت مقصودة، لا يخطئها السمع. تسلّلت خيوط الضوء الصباحي من بين قمم الأشجار، بالكاد تلامس الأرض الباردة. لم يرتجف حين فرت منه الغزلان، ولا حين تبعته الغربان، تحوم في دوائر كأنها نُذُر شؤم. لم يعد مجرّد ظل... بل عاصفة كامنة، على وشك أن تنفجر.
وصل إلى مجموعة صغيرة من المخيّمين قرب الشلالات، كانوا يضحكون فوق أكواب القهوة، وأنغام الجيتار تتردد في الهواء، غافلين كليًا عمّا يقترب
. لوّح "آش" بيده، فتوقّف الزمن، وتجمّدت أجسادهم في مكانها، مأسورة في لحظة لا حياة فيها ولا موت.
همس بصوت خافت، "سامحوني..." ثم انتزع أرواحهم في زفرة واحدة. تحوّلت أعينهم إلى زجاج بارد، شحبت وجوههم كأن الحياة تسرّبت منهم. ارتشف طاقتهم كما يُرتشف نبيذٌ معتّق، وعروق جسده تومض بالطاقة المسروقة.
وحين انتهى، ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة، مشوّهة، لا تنتمي للبشر. تمتم: "أنا جاهز."
---
كان قصر آل سالفاتور يلفّه الصمت... صمت ثقيل، مُريب.
جلس "ألكسندر" وحيدًا، منحنيًا فوق كتاب تعاويذ جلديّ، ما تزال يداه ملطّختين بدماء المعارك الماضية. شعر بوجود "آش" يقترب... كثلج ينساب على عموده الفقري. نهض متجهًا نحو القاعة الرئيسية.
وفجأة، انفتحت الأبواب الأمامية بعنف.
وقف "آش" في المدخل، عيناه تتوهّجان باللون القرمزي، وهالته تنبض بطاقةٍ مسروقة لا تنتمي لهذا العالم.
قال بصوتٍ ثابت: "قلت لك إنني قادم. فلننهي هذا."
تحرك "ألكسندر" أولاً.
تصادما في وسط القاعة، وضرباتهما جعلت الجدران ترتجف. قبضات تشقّ الضلوع، وسحرٌ يحرق الخشب والحجر. الدم تناثر على الأرض، كأن الحرب اندلعت وسط البيت.
ظهر "ستيفان" في لحظة، اندفع نحو "آش" بتكتيك مباغت، وطرحه أرضًا عبر خزانة الكتب.
قفز "دايمن" من فوق الدرابزين، عيناه تلمعان بالجنون، وضرب "آش" بساق كرسي حادّة كالرُمح. صاح وهو يضربه: "مرحبًا بك في العائلة، أيها الأحمق!"
دار "آش" بسرعة، وركل "دايمن" بعنف نحو الحائط، فتصَدّع الجبس تحت جسده. نهض "ستيفان"، وقد أُطلق جانبه المفترس، وعيناه تحوّلتا إلى السواد.
شقّ جانب "آش" بأظافره، لينفجر الدم من الجرح.
زمجر: "لن أسمح لك بإيذائه!"
زأر "آش"، وأطلق موجة من السحر المظلم، أطاحت بالجميع بعيدًا.
نهض "ألكسندر" من جديد، عيناه تشتعلان بالغضب. في تلك اللحظة، اجتمع فيه تهوّر "دايمن"، وغضب "ستيفان"، كأنهما اشتعلا في دمه.
صرخ: "أنت لست أنا!" واندفع نحوه.
تشابكا كوحوش برية—دماء، أنياب، مخالب. انضم "دايمن" إليهما، وكسر أنف "آش" بضربة مرفق عنيفة. أمسك "ستيفان" برقبة "آش"، وضربه نحو السلم، ينهال عليه باللكمات.
لكن "آش" عاد أقسى. طعن "دايمن" بشوكة ظلّ، رمى "ستيفان" عبر بابٍ خشبي، وطرح "ألكسندر" أرضًا.
صرخ: "لا يمكنكم إيقافي! أنا أنتم!"
زمجر "ألكسندر": "إذًا، فلنمُت معًا."
ثبت "آش" أرضًا.
صاح: "بوني الآن"
كانت "بوني" واقفة خارج الباب، داخل دائرة مغمورة بالدماء، تتمتم بتعويذة يملؤها الألم، والدم ينزف من أنفها.
"بدم الملعون، وقوة الساقطين، أقيّد هذه الروح!"
تلوّت أطراف "آش"، تصرخ، والسحر يتغلغل في عروقه.
أمسك "ستيفان" و"دايمن" بذراعيه، يُثبتانه. كان فم "ستيفان" ملطخًا بالدماء، وعيناه سوداوان كهاوية.
أما "دايمن"، فكان يضحك بجنون، ضحكة مشبعة بالعنف والنشوة: "تمسّك جيدًا! انتظرت مئة عام حتى أُبرّح أحد أفراد العائلة ضربًا!"
وضع "ألكسندر" يده على صدر "آش"، وقطع القلادة
قال: "الآن تنتهي."
رددَت كلمات "بوني" الأخيرة كالرعد.
صرخ "آش"، جسده يهتزّ، والنور والظلال يتمزّقان داخله.
ثم... سكون.
ارتخى جسده.
انهار "ستيفان" بجوار "ألكسندر"، بينما اتكأ "دايمن" على الدرابزين، وجهه مغطى بالدماء، وابتسامة النصر لا تفارقه.
دخلت "بوني" مترنّحة، منهكة: "لقد رحل..."
وقف "ألكسندر" ببطء. يداه مغمورتان بالدماء، متهشّمتان، لكن عينيه... كانتا صافيتين.
قال بصوت منخفض: "وإن عاد يومًا... ننهي الأمر إلى الأبد."
رفع "دايمن" زجاجة دامية من بين الأنقاض، وصاح: "نخب جنون آل سالفاتور."
شربوا—ثلاثة إخوة مكسورين وساحرة واحدة، أيديهم ملطخة بالدم، وقلوبهم تنبض بالنصر.
......
مضى يوم منذ القتال ما بين الاخوه و آش
و ما زالت رائحة الخشب المحترق عالقة في هواء قصر آل سالفاتور، تتشبث بجدرانه كما تتشبث الندوب القديمة بالذاكرة. لقد تم إيقاف "آش"... مؤقتًا. لكن "ألكسندر" كان يعلم أن الأمر لم ينتهِ. الحرب لم تنطفئ، بل غيّرت ملامحها.
جلس في الممر الطويل، يمسح الدم الجاف عن مفاصله المتورمة، وعيناه تحدقان في الجدار حيث كانت تُعلّق لوحة لعائلة سالفاتور. تذكار صامت لما فُقد... ولما انقلب وتشوه.
"هل ستأتي؟" سأل "ستيفان" من عند الباب.
رفع "ألكسندر" نظره، وأجاب بصوت منخفض: "نعم... هيا بنا."
---
كان "مكتبة لوكوود" يغلفها صمت ثقيل حين وصلوا. التقتهم "بوني" عند المدخل الخلفي، وجهها شاحب ونظراتها مليئة بالقلق.
قالت بصوت جاد: "هناك شيء عليكم أن تروه." قادتهم عبر الممرات المظلمة بين الرفوف، وصولاً إلى أرشيف المكتبة المُقيَّد.
"جدتي تركت ملاحظات في أحد كتب التعاويذ القديمة. لم أفهمها آنذاك... حتى هذه اللحظة."
سحبت كتابًا ضخمًا، جلدي الغلاف، باهت اللون، صفحاته هشة كأن الزمن نهشها.
قالت: "إنه لعنة دم... واحدة من أقوى ما يكون. خُلِقت من خلال الخيانة وسحر الدم. هدفها حبس الروح، وتشتيت الإرادة، ولعن الجسد."
توقّف نَفَس "ألكسندر"، وصوته بالكاد خرج: "كان لآش علاقة بها. لكن هذا... هذا أكبر من ذلك. من فعل هذا؟"
فتحت "بوني" الكتاب على صفحة محددة، حيث كُتبت في الهامش اسمَين، تحتهما خطٌ باهت بحبرٍ شاحب:
كاثرين بيرس.
جوزيبي سالفاتور.
اقترب "ستيفان"، وقد بدا عليه الذهول: "والدي؟"
أومأت "بوني" برأسها ببطء. "اكتشف أن ألكسندر لم يكن ابنه البيولوجي."
سخر "دايمن" وهو يرفع حاجبه: "دائمًا قلت إنه يحمل عصًا في مؤخرته—انتظري، هل تقولين إن ألكسندر... لقيط؟"
تشنّج فك "ألكسندر"، وبقيت عيناه عالقتين على الصفحة.
قالت "بوني": "لم يحتمل جوزيبي العار. خاف من الفضيحة، خاف على إرثه. فاختار أن يعقد صفقة."
قلبت الصفحة، كاشفة عن رمز مرسوم على عَجَل—دائرة تعويذة مزينة برموز ربط وأختام للأرواح.
"وعد كاثرين بالنجاة من حريق الكنيسة. في المقابل، كان عليها مساعدته في قتل ألكسندر."
تراجع "ستيفان"، رأسه يهتز ببطء: "تلك الليلة... الحريق..."
قال "ألكسندر" بمرارة، وكأن كلماته حافّة سكين: "كان كل شيء تمويهًا... ليقوم بمسحي من الوجود."
تابعت "بوني"، وصوتها يرتجف: "كاثرين استعانت بساحرة—إحدى أقدم حليفاتها. وانتظرت اللحظة المناسبة. حين كان ألكسندر وحيدًا. التعويذة كانت مكتوبة سلفًا. كل ما تبقّى... أن يُلقيانها."
قال "ستيفان" بصوت مبحوح: "لكنّهما لم يُكملوها. لقد نجوت."
شدّ "ألكسندر" على فكه. "فقط... بفضلها."
سار إلى النافذة، ينظر إلى الأشجار التي تهمس بالخطر في صمت الريح.
"ليليان. أمي. شعرت أن شيئًا ما ليس على ما يرام. جاءت متأخرة لإيقاف التعويذة... لكنها وصلت في اللحظة المناسبة لتنقذ حياتي."
خفضت "بوني" صوتها، بالكاد يُسمع: "لكن الضرر كان قد وقع. اللعنة أُطلقت. الروح انقسمت. أصبحت ما أنت عليه الآن... نصف نور، نصف ظل."
أسند "دايمن" ظهره إلى أحد الرفوف، وكان صامتًا، على غير عادته.
ثم تمتم أخيرًا: "إذًا، والدك حاول محو وجودك، كاثرين حاولت قتلك، واللعنة حولتك إلى شيء ليس تمامًا إنسانًا... ليس غريب ان تكون دائمًا غاضب."
استدار "ألكسندر" عن النافذة، عيناه مظلمتان كأعماق بئر قديم.
قال: "لست غاضبًا فقط... أنا مستعد."
أغلقت "بوني" الكتاب ببطء. "يمكن كسر اللعنة—لكن الأمر لن يكون سهلًا. علينا العثور على من ألقى التعويذة الأصلية. وستضطر إلى مواجهة الدم الذي خانك."
نظر "ألكسندر" إلى الأخوين سالفاتور. كانا واقفَين في الظل—ينتميان إلى العائلة التي دمّرته... ومع ذلك، هما الوحيدان اللذان ما زالا بجانبه.
قال بثبات: "نبدأ الليلة. نعثر على الساحرة. ونُنهي هذا."
في الخارج، ارتفعت الريح.
العاصفة لم تكن قد بدأت بعد... بل بدأت الآن فقط.
---