[قلعة الشمال - الممر المؤدي إلى الجناح الشرقي - بعد منتصف الليل]
خرج ويليام من مكتب الدوق متأرجحًا قليلًا.
أغلق الباب خلفه بصمت، ثم توقف، وضع يده على ظهره وهو يتأوّه:
"آآآخ... تلك الصفعة... ليست حتى صفعة عادية، كانت مشبعة بالمانا والعُقد النفسية."
فرك ظهره قليلًا، ثم تمتم بأسى:
"مجرد واحدة... لكنها اخترقت كرامتي إلى بعدٍ رابع."
بدأ يزرر قميصه وهو يسير ببطء في الممر الطويل.
كانت الأضواء السحرية معلّقة على الجدران الحجرية، وكل خطوة تُحدث صدى خفيفًا يعكس صمته الداخلي.
لكن ما أخرجه من أفكاره... هو تلك النظرة.
من زاوية الممر، وقف كايل بشعر الابيض قصير، وعينين ياقوتيه يشعّ منهما الاحتقار.
كايل.
شقيقه الأصغر، والابن المثالي للدوق.
كايل لم يقل شيئًا.
كل ما فعله... هو النظر.
نظرة لم تكن مجرد احتقار. بل حذر. اشمئزاز. خوف مموّه.
وكأن ويليام قد خرج للتو من زنزانة المجانين، لا من مكتب والدهما.
ويليام توقف لثوانٍ، نظر إليه بصمت... ثم تنهد.
"لا بأس..."
لم يكن الأمر جديدًا.
منذ أن كان في الثانيه عشرة، و"ويليام الأصلي" حاول قتل كايل في نوبة هياج.
منذ ذلك الحين... كايل لم يثق به أبدًا.
ولم ينسَ أحد.
"لا ألومك، صغيري." تمتم ويليام وهو يكمل سيره. "لو كنت مكاني، كنت سأهرب مني أيضًا."
[جناح ويليام - بعد دقائق]
فتح باب جناحه الخاص، ودخل إلى المكان الذي كان مهجورًا لثلاث ايام .
الغرفة كانت مظلمة، لكن نيران المدفأة مشتعلة بالفعل، ومعها... شخص واحد.
كيلان، ، يجلس على كرسي قرب المدفأة.
**
"أخيرًا عدت، يا أيها المتاعب المتنقّلة." قال كيلان وهو لا ينظر حتى إليه.
ويليام رفع حاجبه.
"أوه... ها هو أعزّ كيللان الصغير."
كيلان أدار وجهه ببطء، وعيناه مليئتان بالانزعاج:
"هل تعي كم بحثنا عنك؟! هل تعي ماذا فعلت؟! ثلاثة أيام! ثلاثة!"
ويليام تجاهله، وتقدّم ببطء نحو الأريكة، ثم استلقى فوقها وكأنه عاد إلى بيته بعد عطلة طويلة.
"لا تصرخ، ظهري لا يحتمل. لقد تلقيت صفعة... تكفي لإعادة ترتيب عمودي الفقري."
كيلان أحضر كيسًا من الثلج، ووضعه على ظهره.
"هذا لأنك أحمق."
"آه... لكن أحمق محبوب؟"
"لا."
"...قاسٍ."
لحظة صمت خيمت على المكان.
شعاع النار يرتعش، وويليام ممدد على جانبه، يتنهد بعمق.
ثم قال بهدوء:
"اشتقت لك، كيلان."
كيلان توقف، نظر إليه بدهشة صامتة.
"...هاه؟"
"ليس لأنني أحبك أو شيء. لكنك تعرف كيف تحضر لي الثلج بالطريقة الصحيحة. وتعرف أنني أكره الوسائد الصلبة. وتضع الشاي بدون سكر زيادة."
كيلان تمتم:
"هذا... ليس اشتياقًا. هذا استغلال محترف."
ويليام ابتسم وهو يغلق عينيه:
"دقيق كعادتك."
جلس كيلان على طرف الأريكة، وهو لا يزال يحمل ذلك العبوس في ملامحه.
"هل تعرف كم أزعجت الدوق؟ كم أخافته فكرة أن تكون ميتًا؟"
ويليام لم يجب.
فقط صمت.
وكأن كلمات كيلان دخلت إلى مكان مؤلم لا يريد الاعتراف به.
كيلان أردف بهدوء:
"الدوق... تغير. ليس كثيرًا، لكنه فعل. أنت لا تراه، لكنني رأيت عينيه ليلة هروبك."
"...هل دمعت؟"
"لا تكن أحمق."
"أردت فقط لحظة درامية، آسف."
ثم، نهض كيلان.
"خذ قسطًا من الراحة. التدريب سيبدأ غدًا. والأكاديمية بعد شهر."
"آه... الحلم ينقلب كابوسًا مجددًا..."
كيلان توقف عند الباب، ثم قال بابتسامة جانبية:
"وأنا أيضًا... اشتقت لصراخك الكسول كل صباح."
الباب يُغلق.
ويليام ينظر إلى السقف.
"غريب..."
تمتم لنفسه.
"كل شيء هنا يجعلني أشعر أنني... أنتمي، بطريقة مزعجة."
ثم أغلق عينيه.
"لكن لا تتعود، يا أنا. من يتعوّد... يتأذى."
---
[جناح ويليام - بعد منتصف الليل بساعة]
الضوء السحري الخافت يتمايل مع حفيف الستائر، ورائحة الثلج الذائب لا تزال تعبق في الهواء.
ويليام كان مستلقيًا على أريكته، عينيه نصف مغمضتين، يكاد يستسلم للنعاس... لكن الباب فُتح فجأة.
"أوه، ممتاز..." تمتم، دون أن ينظر حتى.
راين دخل الغرفة بخطوات ثقيلة.
شقيقه الأكبر، ذو البنية الصارمة والوجه الذي لا يعرف سوى الجدية.
"ما الذي كنت تفكر فيه؟!" قال بنبرة مشتعلة.
ويليام لم يرد فورًا.
كان ينظر إلى السقف وكأن الحديث لا يعنيه، قبل أن يتمتم بهدوء:
"مساء الخير، راين. أتيت لتقيمي أم لإعدامي؟"
"هربت! جعلت الجميع يعتقد أنك اختُطفت، أزعجت الوالد، سبّبت فوضى، والآن تتصرف وكأن شيئًا لم يكن!"
"أوه، لقد نسيت... كما لو أن وجودي الطبيعي لا يسبّب الفوضى على أي حال."
راين تقدم خطوة، قبضته مشدودة.
"أنت لا تأخذ أي شيء بجدية. كعادتك. فقط... تهرب."
ويليام أخيرًا التفت إليه بعين نصف ناعسة، لكن كلماته كانت مثل شفرة:
"وأنت، يا أخي العزيز... أتيتني الآن، فأسألك: أتيت كأخ؟ أم كظلٍ يحاول لعب دور الأخ المسؤول لأنك لا تحتمل فكرة أن تُرى عائلتك فاشلة؟"
صمت.
راين تجمّد في مكانه.
نظرة ويليام كانت مباشرة، بلا تردد.
"إن كنت جئت لأنك فعلاً تهتم بي... فأنت تأخرت... لعقد كامل."
ثم أغلق عينيه.
"والآن، أخرج. لقد تلقيت صفعة واحدة أكثر من كفاية لهذا اليوم."
راين ظل واقفًا لثوانٍ.
كأنه يريد أن يرد... أن يقول شيئًا... لكن لم يجد الكلمات.
خرج، والباب يُغلق خلفه بهدوء.
[صمت]
ويليام ظل مستلقيًا، لكنه لم ينم.
بل... بدأ عقله يغوص في موجة من الذكريات.
[قبل أكثر من عشر سنوات - ويليام بعمر خمس أو ست سنوات]
قصر الشمال كان صامتًا، إلا من خطواته الصغيرة.
دلف إلى مكتب الدوق، وهو يحمل ورقة مرسومة بقلم شمعي، فيها عصا طويلة ورجل صغير.
"أبي!" قال بصوت مفعم بالحماسة الطفولية، "رسمت هذا لك! و... هل يمكنني... أن أناديك بابا؟ مثل كايل؟"
الدوق لم يرفع عينه من الكتاب.
"لا تفعل ذلك مجددًا." قال ببرود.
"لكن... أنا أيضاً ابنك..."
"ليس عليك مناداتي بشيء."
كلماته كانت مثل حجر سقط في بئر صغير من الأمل.
[بعد سنوات قليلة - قاعة الاستقبال]
الوالدة، التي تزورهم مرة كل عدة أشهر، جاءت وهي تحمل علبًا ملفوفة بورق ذهبي.
أعطت راين ساعة فاخرة، وكايل خنجرًا سحريًا صغيرًا محفورًا باسمه.
وعندما رفع ويليام عينيه نحوها بابتسامة مترددة، بحثت في الحقيبة... ثم تذكّرت فجأة:
"...آه... آسفة، نسيتُ أن أجهز لك شيئًا، حبيبي."
"لا بأس... لا أحب الهدايا." قالها بصوت مُكسر.
لكن في تلك الليلة، رمى كل ألعابه في المدفأة.
[ليلة أخرى - أعلى الدرج الحلزوني في القصر]
ويليام، بعمر العاشرة، وقف عند الحافة.
أحكم قبضته على السور الرخامي، وقال لنفسه بصوت خافت:
"إذا كسرت قدمي... سيزورني أحد. ربما... أبي. ربما راين."
قفز.
لكن الحظ لم يكن بجانبه حتى في الألم... مجرد كدمة، وبعض النظرات المتأففة من الخدم.
[الآن - الحاضر]
ويليام استدار في السرير، وغطى وجهه بذراعه.
تمتم بمرارة:
"تبا لك... أيها المؤلف."
"أنت من كتب كل هذا... أنت من جعلتني عار العائلة... لماذا؟ ما الفائدة من أن تصنع طفولة مأساوية فقط لتجعلني شريرًا لاحقًا؟"
"هل كان من الممتع لك أن ترى طفلًا يُنبذ ببطء، ليتحوّل إلى غول؟"
ضحك ساخر.
"على الأقل اجعلني أملك قوى خارقة... أو ماضٍ دموي أسطوري... لا هذا... لا..."
أغمض عينيه أخيرًا.
"لقد تركتَ لي فوضى، أيها الكاتب الملعون... والآن، عليّ أن أنظّفها بنفسي."
---
[الليل - جناح ويليام - بعد الانهيار الصامت]
أخيرًا، استسلم جسده للنوم.
لكن العقل... لم ينم.
كان هناك شيء يسحبه مجددًا، بلا رحمة، إلى ذلك الفراغ الأبيض، حيث لا أرض ولا سماء... فقط صمتٌ كثيف يُطبق على أنفاسه.
فتح عينيه.
نفس المكان.
نفس الفراغ الغريب الذي زاره أكثر من مرة. الهواء بارد... وخالٍ من الحياة.
لكن هذه المرة، لم يكن وحده.
على بُعد خطوات قليلة، كان هناك طفل صغير.
يجلس على الأرض، يضم ركبتيه إلى صدره، ويبكي.
"ذلك الطفل... لِمَ لا زال يبكي؟"
"أنت مجددًا..." همس ويليام، بصوت أجش.
الطفل رفع رأسه قليلاً، عينيه المتورمتين تلمعان بالحزن.
نفس الشعر البني.
نفس العيون الزرقاء التي فقدت بريقها منذ زمن.
"لماذا تبكي؟" سأل، رغم أنه يعلم الإجابة.
الطفل لم يجب، فقط أجهش بالبكاء، كما لو أن العالم كله انهار عليه.
ويليام رفع يده ليمررها على وجهه.
"كان يجب أن أصرخ عليك... أن أقول لك كم كنت أحمقًا..."
لكنه لم يفعل.
فقط وقف هناك، يحدق في الطفل الصغير... كأنه يرى ماضيه المجرد من التمثيل.
وفجأة، نهض الطفل، وبدأ بالجري... بخطى سريعة متعثرة، في ذلك الفراغ اللانهائي.
ويليام، مندهشًا، لحقه.
---
[الذاكرة تبدأ - صورة مشوشة تتحول إلى بيت فخم]
"كايل حصل على سيف جديد!" هتف أحد الخدم.
"راين حصل على ختم النبالة من والده!" صاح آخر.
أما الطفل - ويليام الأصلي - فكان يقف في الزاوية، يحمل دمية خشبية مكسورة، ويحاول أن يبتسم.
"انظروا... أنا أيضاً أملك..."
لكن لم يلتفت أحد.
[الذاكرة تتبدل - المائدة الكبرى في القصر]
الطعام كان فاخرًا، الضحك يملأ المكان.
كايل يضحك مع راين، والدته تربّت على رأسه بلطف.
أما ويليام، جلس في نهاية الطاولة، دون طبق.
نظر إلى والدته بتردد:
"هل نسيتِ...؟"
"آه... عذرًا، ظننتك تناولت طعامك بالفعل." قالت دون أن تنظر إليه.
الطفل جرى في الممر.
تعثّر.
سقط.
ركبته نزفت... لكنه لم يصرخ.
رفع رأسه نحو السقف، والدموع على خده، وتمتم:
"لماذا لا يراني أحد؟"
[الذاكرة تتبدل - الليل - غرفة النوم]
ويليام الأصلي جالس في فراشه، يمسك دفترًا صغيرًا ويكتب:
أمنية اليوم: لو كنت كايل.
أمنية الغد: لو أنني لم أولد.
ويليام - الحالي - كان يركض خلف الطفل في هذه الذكريات المتداخلة، لكنه بدأ يشعر بالثقل.
كأن مئات الأشواك تُغرس في قلبه.
توقف.
"توقف!" صرخ.
لكن الطفل استمر بالجري... حتى سقط أرضًا.
اقترب منه، ببطء.
جلس بجانبه.
مدّ يده نحو رأسه... ومسح على شعره.
"أنا آسف..." همس.
"لم يكن ذنبك أنك لم تُر. لم يكن ذنبك أنك كنت تحاول... وتحاول... لكن أحدًا لم يكن يراك."
الطفل شهق، وتمتم بصوت خافت:
"كايل كان محبوبًا. راين كان مثاليًا. أما أنا... كنت مجرد ظل."
ويليام ابتسم بحزن.
"ربما لهذا السبب... حاولت أن تُصبح شريرًا. لأن الشرير... يُلاحظ على الأقل. حتى إن كرهك الجميع، فهم ينظرون إليك."
سكت للحظة، ثم تمتم:
"لكني لست شريرًا... فقط كنت وحيدًا."
الطفل توقف عن البكاء، نظر إليه... ثم اختفى فجأة كأنه دخان.
وبقي ويليام وحده، في ذلك الفراغ، وعيناه دامعتان.
"ذلك الطفل... لم يكن أحمقًا." قال بهدوء.
"كان مجروحًا فقط."
[في اللحظة التالية - العودة إلى الواقع]
استيقظ ويليام على صوت العصافير الخافتة.
الضوء يتسلل من نافذته، والهواء يحمل برودة صباح خفيف.
جلس على السرير ببطء.
وضع يده على قلبه.
كان ينبض... لكن بإيقاع مختلف.
تنهد.
"يبدو أنني بدأت أفهمك... أيها المجنون."
نهض.
توجه إلى المرآة، مسح وجهه.
ثم تمتم بابتسامة باهتة:
"لن أترك هذا الطفل يبكي مجددًا."
---
[قصر الشمال - جناح ويليام - صباح رمادي]
بعد استيقاظه من حلم غريب، ويليام جلس على حافة سريره، يحدق إلى الأرض بصمت.
كان شيء ما... خاطئًا.
البرد الذي شعر به لم يكن آتيًا من الجو. بل من الداخل.
يداه ارتجفتا فجأة.
ثم رأسه انخفض بين كتفيه، كأن عضلاته انهارت.
"أرغغغغ..."
همس خافت أولًا، قبل أن يتحوّل إلى شهقة حادة.
ثم:
"آآآااااااااااااه!!!"
صرخة مفاجئة، عميقة، كأنها اقتُلعت من صدره بالقوة.
ويليام رفع يديه إلى رأسه، أصابعه تشدّ شعره بعنف، كأن شيئًا ما يحاول تمزيق ذهنه من الداخل.
عيناه اتسعتا، نبضه تسارع، وصدره ارتفع وهبط بجنون.
"م- ما هذا...؟ لِمَ...؟"
ركل السرير، اصطدم بالحائط، سقط أرضًا.
صرخ مرة أخرى.
" ااااااه "
"أخرجوه... أخرجوه من رأسي...!!"
[دخل كيلان]
كان قد سمع الصوت من نهاية الممر.
فتح الباب بعنف، وركض إلى الداخل:
"ويليام!! سيدي!! ما الذي-؟!"
رأى ويليام ملقى على الأرض، ممسكًا رأسه، وجهه مبلل بالدموع والعرق، وجسده يرتجف.
كيلان جثا إلى جانبه فورًا، وبدأ بمحاولة تثبيته:
"سيدي، أنظر إلي! تنفّس! تنفّس فقط!"
لكن الصراخ لم يتوقف.
" ااااااه "
"أحضِروا الطبيب!! الآن!!" صرخ كيلان نحو الممر، فتحرك الخدم بسرعة.
"أحضِروا ميرلين فورًا!!"
---
[في تلك الأثناء - في مكتب الدوق]
أحد الخدم انحنى أمام الدوق، الذي كان يقلب ملفات تخص الدوقية.
"سيدي... ويليام يمر بنوبةٍ غريبة، كيلان طلب الطبيب، ويقول إنّ حالته-"
لكن الدوق لم يرفع عينيه من أوراقه.
قال ببرود قاطع:
"دعني أخمّن. صراخ؟ ارتعاش؟ غيبوبة؟"
الخادم صمت.
الدوق أغلق ملفه، وقال بنبرة باردة:
"خدعة أخرى. يريد جذب الانتباه مجددًا، أو التهرب من دروسه."
ثم نظر للخادم بحدة:
"راقبوه، فقط. إن كان يحتضر حقًا... فلن يصدر هذا القدر من الضجيج."
[عودة إلى غرفة ويليام]
الطبيب ميرلين وصل، رجل مسنّ، وجهه جاد، يحمل معه أدوات فحص سحرية وبلورات.
ركع بجانب ويليام، وضع يده على جبينه المتصبّب.
---
"سحر فوضوي... لا. هذا أعمق."
بدأ يستخدم أداة تقيس المانا، وعينيه تتقلصان.
"مستوى تفاعل المانا غير مستقر. قلبه ينبض على نمطين متداخلين..."
"نمطين؟" سأل كيلان.
ميرلين رفع عينيه نحوه، وقال بنبرة حادة:
"كأن هناك قلبين يتصارعان بداخله. ذاكرتان. هويتان. شيء ما غير طبيعي يحدث."
فجأة، ويليام شهق... وجسده تصلب.
ثم... سقط بلا حراك.
ميرلين تأكد من تنفسه.
"فقد وعيه... سيكون مستقرًا لبعض الوقت، لكن يجب مراقبته لليلة على الأقل."
كيلان جلس على الأرض بجواره، يداه على ركبتيه.
"ويليام... ما الذي تخفيه بحق ؟"
[بعد ساعة - أمام غرفة ويليام]
الخبر انتشر.
العديد من الخدم يتهامسون. بعضهم قلق، والآخرون يشكون في أنه مجرّد تمثيل آخر.
راين مر بجانب الباب، لكنه لم يدخل.
أما كايل، فوقف للحظة ينظر إلى الغرفة... ثم أشاح بوجهه ومشى.
[أما في الداخل - داخل عقل ويليام]
كان نائمًا... لكن روحه تجول.
يسير في نفق مظلم، وحوله جدرانٌ تهمس بأصوات مألوفة:
"عار العائلة..."
"أحمق... لا يُرجى منه شيء."
"أنت مجرد ظل."
وفجأة، وقف أمام مرآة كبيرة.
لكن لم يرَ انعكاسه.
بل رأى ويليام الطفل... جالسًا، ينظر إليه هذه المرة.
وفي عينيه... لمعة غريبة.
همس الطفل:
"ألم أقل لك...؟ أنا وحيد ."
---
[داخل اللاوعي - عمق عقل ويليام]
في مكان لا يخضع لقوانين الزمن أو المنطق، وُجد ويليام واقفًا على رصيف قطار.
لكن المدهش... لم يكن يرتدي ملابسه النبيلة المعتادة.
بل كان يرتدي سترة داكنة، حذاءً رياضيًا بسيطًا، وسروال جينز ممزق من الركبة.
أصابعه تحمل ذلك التمزق المألوف... تلك الندبة التي حصل عليها حين سقط من دراجته في الثانوية.
رفع رأسه.
السماء كانت رمادية، مثل تلك التي اعتاد رؤيتها من نافذة شقته في سيول.
وفي المرآة المهشّمة على الجدار المقابل... رأى نفسه.
راكان.
وجهه الشاحب، عينيه المتعبتين من قلة النوم، والسواد الذي أحاط بهما لسنوات.
تمتم:
"لقد... نسيتك."
[تساقطت الذكريات مثل المطر]
كان يعمل ليلًا في مطعم صغير كمساعد نادل. المدير كان يصرخ عليه باستمرار، والزبائن يتجاهلون وجوده.
كان يعود إلى غرفته المظلمة، يتناول عشاءه البسيط أمام شاشة الكمبيوتر. يعيد مشاهدة نفس ثلاث حلقات من أنمي قديم. لأنها الشيء الوحيد الذي لم يتغير.
والده... كان غائبًا منذ أن تخلّى عن العائلة.
والدته... تعمل في ثلاث وظائف، بالكاد تتحدث.
أخته الصغرى... بالكاد تراه.
لكن ما لم ينسه أبدًا هو تلك اللحظة على سطح المبنى، في شتاء قارس.
راكان كان يقف هناك، وحده، ينظر إلى المدينة.
كان يحاول أن يقرر.
"هل أكمل؟ أم... أنهي كل شيء؟"
ثم جاء ما لم يتوقعه.
رسالة على هاتفه.
من لعبة رواية مرئية، اشترى إصدارها المميز منذ سنة لكنه لم يكمله.
العنوان كان:
"جزء الثالث دم أحمر - أسطورة النبيل اللعين ."
**
حينها... ابتسم بسخرية.
"حتى شخصية خيالية مثلي... لديها نهاية أكثر إثارة مني."
[عودة إلى الرصيف - الحاضر الذهني]
راكان - أو ويليام الآن - جلس على المقعد الخشبي، يحدق في الأرض.
"لا عائلة، لا دعم، لا مستقبل... كنت أعيش ميتًا."
رفع رأسه ببطء.
"والآن أنا حي... في جسد شخص عاش طفولة أسوأ مني."
ضحك ضحكة مريرة.
"جميل... جميل فعلاً. من يكتب هذه الرواية؟"
(ويليام انا اسفه روزي حزينه فعلا لكن عليك تحمل طفلي شجاع 🥹😖)
"يا مؤلف... هل تكرهني في الحياتين؟"
ثم تلاشت الضباب، والرصيف، والذكريات.
كل شيء تحوّل إلى بحر أبيض، لا صوت فيه سوى نبض قلبٍ منهك.
[يبدأ النور يتسلل - ويليام على وشك الاستيقاظ]
جسده في العالم الحقيقي لا يزال راقدًا... لكن عقله بدأ يتخذ قرارًا.
ربما... لم يعد هناك عودة.
ربما... عليه أن يعيش هذه الحياة، بشروطه هو.
----
[غرفة ويليام - ظهيرة اليوم ]
كان كل شيء هادئًا... نسبيًا.
جسد ويليام مستلقٍ على السرير، تنفسه ثقيل، ملامحه مشدودة.
كيلان كان يجلس بجانبه، يبلل قطعة قماش باردة ويمسح جبينه بقلق.
"أنت معتاد على التمثيل، سيدي... لكن هذه المرة، لست واثقًا."
همس بها كيلان، محاولًا إقناع نفسه أن سيده سيقوم فجأة ساخرًا كعادته.
لكن الجواب لم يكن ساخرًا.
كان صرخة.
"اااااه"
ويليام صرخ فجأة، بعنف لم يعهده كيلان من قبل.
جسده تقوّس، وعروقه بدت وكأنها تحترق تحت جلده، تتوهج بخيوط زرقاء وحمراء.
"آااااااااااااه!!"
"سيدي صغير ؟! سيدي!!"
كيلان قفز فورًا لإمساكه.
لكن يد ويليام اندفعت للأعلى بلا وعي، تصطدم بسرير، فتترك أثرًا متفحمًا بفعل المانا المتسربة من جسده.
[داخل اللاوعي - صراع الكيانين]
داخل أعماقه، كانت استرا تقف على شكل مرآة لامعة، تتشقق تدريجيًا.
في المقابل، نوالا... كتلة من الفراغ، رجل بلا ملامح، يمشي بثقل وتصدع خلفه الأرضية الوهمية.
ويليام، الممزق بينهما، يصرخ بصوت طفل ورجل في آنٍ معًا.
"توقفوا... توقـ ـ ـ ـفوا!!"
لكن الكيانين لا يستجيبان.
المانا النورانية والمانا الفوضوية تتداخل، تتصارع، تحاول السيطرة على نواة واحدة... قلب ويليام.
---
[قصر الشمال - مكتب الدوق]
الدوق كان يعقد اجتماعًا مع ثلاثة من قادة الأقاليم، يتناقشون حول التمردات الحدودية.
وفجأة...
"آااااااااااااه!!!"
الصراخ اخترق الجدران.
اهتزت الكؤوس على الطاولة. أحد الفرسان كاد يسحب سيفه.
الدوق حدّق للحظة، بعينين خاليتين من الانفعال.
"... ويليام."
في ذات اللحظة، اقتحم كيلان باب المكتب، وجهه شاحب، وصوته يلهث:
"سيدي! المانا... إنها تنفجر من جسده! نحتاج إلى كبير السحرة... الآن!!"
---
الدوق وقف ببطء، أشار للفرسان:
"تابعوا الاجتماع بدوني."
ثم إلى كيلان:
"قادم."
[جناح ويليام - دقائق لاحقة]
الغرفة كانت في فوضى.
الهواء أثقل من أن يُتنفس.
ويليام كان يتمزق، صدره يصعد ويهبط، والشرر يتطاير من أطراف أصابعه.
كيلان يحاول تثبيت جسده، يمنعه من جرح نفسه.
الخدم محتشدون عند الباب، أحدهم يرتجف، وآخر يبكي، وثالث يركض لإحضار الطبيب ميرلين.
---
الدوق يدخل، خلفه ميرلين يسرع الخطى، وعيناه تتسعان لرؤية ما أمامه.
"المانا تتسرب من جسده بلا توازن... مستحيل! لم يرَ جسدي هذا منذ عصر ملوك الظل."
ويليام يصرخ مجددًا، صدره يتوهج، عيناه تفتحان للحظة... بلونين مختلفين.
"اااااه"
عين زرقاء من نور "استرا"، وأخرى سوداء كأعماق نوالا.
ميرلين يلتفت للدوق:
"سيدي... هذا لن يتوقف من تلقاء نفسه."
الدوق يصمت، يتقدم خطوة.
"هل سيموت؟"
"لا أعلم لكن جلبنا كبير السحرة فورًا... وإلا سيحترق من الداخل."
---
الدوق يأمر بسرعة:
"اجلبوه. لو كلف الأمر طيرًا سحريًا يخترق الزمن، أحضروه الآن!"
--
بينما الآخرون يتصرفون بفوضى...
ويليام، داخل وعيه الممزق، كان لا يزال يصرخ، لكن الألم... بدأ يتحول إلى شيء آخر.
حقيقة.
شيء ما داخله ينهض.
شيء لم يكن لـ راكان... ولا لـ ويليام الأصلي.
بل شيء يولد... للمرة الأولى.
[جناح ويليام - الليل يهبط ببطء على القصر]
الصراخ لا يزال يخترق الجدران.
المانا لا تزال تتراقص حول جسد ويليام المتشنج، كعاصفة مصغرة تستعد للانفجار.
كيلان يحاول الإمساك به، لكن قوة الانفجارات تدفعه للخلف، وهو يصرخ:
"لا أستطيع السيطرة عليه! سيدي، جسده لا يحتمل أكثر!"
ميرلين يقف عند الباب، يهمس بقلق:
"تلك المانا ليست بشرية... إنها تتغذى من نوى متضادة. الضوء... والفراغ. عليه أن يختار أحدهما، أو ينقسم إلى رماد."
وفي تلك اللحظة، تحرّك الدوق.
بخطوات ثابتة وسط الفوضى.
"تنحّوا."
الدوق شق طريقه وسط دوامات المانا، يده ترفع حزامه من اجل ربطه، لكن سرعان ما خفضه.
شيء في عينيه تغيّر.
رأى الابن لا الجاني.
رأى الطفل لا العار.
بهدوءٍ لم يتوقّعه أحد، انحنى ورفع جسد ويليام بين ذراعيه.
الحرارة كانت تحرق، لكن الدوق لم يرتجف.
جلس على الأرض، وأسند ظهره للجدار.
وضع ويليام في حضنه، شدّ ذراعيه حوله كي يمنعه من تمزيق نفسه بأظافره أو من السقوط.
جسد الفتى يهتز، يتشنج، أنفاسه متقطعة، وأطرافه تضرب الهواء.
لكن شيئًا آخر بدأ يحدث.
دموع.
ببطء، انهمرت الدموع من عيني ويليام المغلقتين.
صوته المخنوق بدأ يهمس وسط الصراخ:
" أرجوك... لا تكرهني..."
الدوق تجمّد.
وجه ويليام دفن نفسه في عنقه، كما لو كان يبحث عن مأوى وسط الطوفان.
كانت تلك لحظة، فقط لحظة، نسي فيها الألم... ونادى عليه كما لم يفعل من قبل.
لكن يده ارتفعت ببطء، وضغطت على ظهر ويليام بشيءٍ أشبه بالاحتضان الحقيقي.
كان قلبه متحجّرًا، لا يعرف إن كان ما يفعله عطفًا... أو شعورًا بالذنب.
"هل هذا... الطفل الذي أرعب القصر بتهوره...؟"
"الذي شوه سمعة عائلتي أمام النبلاء؟"
"أم..."
"هل هذا... طفلٌ تغيّر؟"
ضغط ذراعيه أكثر، شدّه نحوه كأنه خائف أن يتلاشى إن تركه.
ويليام لم يصحُ.
لكن وجهه هدأ.
تنفسه، الذي كان محترقًا كجمر، بدأ يبرد قليلًا.
---
كيلان يحدق بالمشهد، عاجزًا عن النطق.
ميرلين يهمس لنفسه:
"غريب... المانا تستجيب... للحالة العاطفية."
المانا الخانقة بدأت تنكمش... كأنها تخجل.
النور انطفأ قليلًا... والفراغ عاد يختبئ في أعماق القلب.
غفى ويليام... غفى وهو في حضن لم يعرفه إلا ألمًا.
والمثير للدهشة، أن هذا الحضن... لم يتركه.
[بعد نصف ساعة - الصمت يعود إلى الجناح]
ميرلين يقترب ببطء، ويهمس:
"سيدي... يجب أن نمدّده على الفراش. جسده مرهق، لكنه آمن الآن."
الدوق لم يتكلّم.
ثم همس، بنبرة لم يسمعها أحد من قبل:
"... سينام هنا. الليلة فقط."
رفع عينيه نحو النافذة، حيث القمر بدأ يشق طريقه.
ثم تمتم، دون أن ينظر لأحد:
"ربما... لم يكن هو من تغيّر."
"ربما... أنا من تأخرت."
---
[غرفة ويليام - منتصف الليل]
الغرفة لا تزال هادئة، والهواء ثقيل بصمتٍ يشبه الخدر.
ويليام، جسده نصف مغطى ببطانية خفيفة، لا يزال في حضن الدوق، رأسه مستند إلى كتفه، ووجهه هادئ كما لم يكن يومًا.
لكن عيني الدوق لم تذوقا النوم.
كانت مفتوحة، جامدة، تغرق في زمنٍ بعيد... زمنٌ منسيّ يفضّل أن لا يتذكره.
[قبل سنوات - جناح الدوقة - فجر بارد]
"لقد وُلد، سيدي."
الكلمة جاءت كصفعة.
لكنها لم تترك أثرًا جيدًا في قلب الدوق.
كان يقف في الممر، ملامحه باردة، ويداه خلف ظهره.
"أهو بصحة جيدة؟" سأل، لا لأن قلبه يهتم... بل لأنه يجب أن يُسأل.
الممرضة ترددت، ثم قالت:
"نعم... لكن شكله... لا يشبه الأم ولا يشبهك يا سيدي."
ذلك وحده... كان كافيًا.
---
في المهد، طفل بعينين باهتتين، وبشرة أفتح من المعتاد، يبكي بصوت غريب، لا ضعيف ولا قوي... فقط شاذ.
الدوقة، متعبة ومرتجفة، حاولت أن تمد يدها إليه، لكن الدوق لم ينظر لها.
---
"هل... فعلتِها؟" سألها.
عيناها توسعتا.
"أنت تتهمني بالخيانة؟"
لكن الدوق لم يجب.
ترك الغرفة، وترك الطفل... وترك شيئًا فيه يتحطم إلى الأبد.
[الآن - في الحاضر]
الدوق ينظر إلى ويليام في حضنه، لا يزال يتنفس بصعوبة، ذراعيه مسترخيتين، لكن فمه يتحرّك.
"أنا آسف... آسف يا كايل... لم أكن أريد حقًا... كنت غاضب فقط... تعبت من كوني غير مرئي."
كلمات متقطعة... من طفل اعتاد الحديث مع نفسه لأنه لم يجد أحدًا ليسمعه.
الدوق تجمّد.
تلك الهمسات ليست من ويليام الذي عرفه.
ليست من المراهق الأرعن، المتهوّر، المشاغب.
بل من طفل... منسي.
لكن الماضي لم يغفر بسهولة.
عقله أعاد إليه صورًا لا تُنسى:
- ويليام يهدد ولي العهد بالسيف وسط حفلة نبلاء...
- كايل، وهو يبكي بعد أن حاول ويليام رميه من على ظهر الحصان.
- الخدم وهم يستقيلون واحدًا تلو الآخر بسبب "نوبات العنف".
- المجالس العليا، وهم يتهمون العائلة بأن ابنها الأوسط "وصمة عار".
كيف يُسامح هذا؟
كيف يُغفر؟
كان عليه أن ينفيه من العائلة، أو يسجنه في زنزانة عقلية، كما اقترح المستشارون.
لكنه لم يفعل.
لماذا؟
ربما... لم يستطع.
وربما... لأنه كان ينتظر إجابة لم يسمعها قط.
وفجأة...
تحرّك ويليام في حضنه.
رأسه مال إلى الجهة الأخرى، وعيناه لم تفتحا، لكن صوته خرج بهمسٍ شاحب:
"أبي..."
الدوق شهق بصمت.
"أنا آسف... كنت أتمنى... لو فقط... قلت لي يومًا، إنني ابنك."
اليد التي كانت متوترة حول جسد ويليام ارتخت قليلاً... ثم شدّت قبضتها مجددًا.
"ما زلت لا أصدق..." فكّر.
"أتظاهر بأني لا أهتم... لكني لم أستطع قتله."
"ولم أستطع حبّه."
"هذا التناقض... هذا الصدع بين القلب والواجب... بين الألم والدم... سيقتلني يومًا."
مرت دقائق.
هدأ تنفّس ويليام، واسترخى كأنه وصل أخيرًا لمرفأ آمن.
والدوق... أبقى ذراعه حوله، رغم ثقل الصدر وتناقض الفكر.
كان يعلم أن الغفران لا يُمنح بكلمة، ولا يُؤخذ بلحظة ضعف.
لكن في تلك الليلة... لوهلة، فقط لوهلة...
شعر أن الصمت الذي بينهما... أقلّ وحدةً.
----
أغمض دوق عينيه للحظة.
كان التعب أخيرًا قد بدأ يتسلل إلى عضلاته المتوترة، ومع حرارة جسد ويليام المستند إليه، وهدوء الليل الثقيل، سمح لنفسه ببرهة قصيرة من اللاوعي.
لكنه لم يَنَم طويلًا.
مرت دقائق... أو ربما ساعة.
شيء ما أيقظه.
فتح عينيه ببطء، ليجد أن الوضع لم يتغير كثيرًا-ويليام لا يزال ملتصقًا به، رأسه مدفون في عنقه، جسده يتنفس بحرارة خفيفة وإن كانت متقطعة.
لكن شيئًا آخر كان مختلفًا...
جوزيف شعر برطوبة غريبة على ملابسه.
حاجباه انعقدا، ونظر إلى الأسفل.
لم تكن عَرَقًا.
بل كانت دموعًا.
دموع صامتة، ساخنة، تتسرب ببطء من عيني ويليام المغلقتين، وتبلل القماش القريب من عنق دوق.
عيناه لا تزالان مغمضتين، أنفاسه هادئة، لكنه كان يبكي.
يبكي وهو نائم.
يبكي منذ وقت طويل... بصمت، بكاء مكتوم لم ينتبه له أحد. ولا حتى دوق نفسه، رغم أنه كان يحتضنه طوال الوقت.
شعور غريب تسلل إلى صدر الدوق.
صدمة خفية. لا من رؤية الدموع، بل من مدتها... من ثقلها.
مدّ يده ببطء، كأنما يخشى كسر هذا الكائن الهش، ووضعها على رأس ويليام مجددًا.
لم يقل شيئًا.
لم يعبّر عن غضب، ولا عن حنان.
لكنه أغلق عينيه هذه المرة ببطء، وظل ممسكًا به، أقرب من أي وقت مضى.
بقي دوق صامتًا، ينظر إلى وجه ويليام المدفون في عنقه، يتلقى تلك الدموع الصامتة على بشرته كصفعات خفية.
لكن ما أدهشه لم يكن مجرد البكاء...
بل الصمت.
لم يكن هناك شهقة واحدة.
لا أنين.
لا ارتجافة تدل على ألم ظاهر.
كان بكاءً من النوع الذي لا يُعلَن... البكاء الذي يُمارَس كعادة قديمة، لا تستحق أن تُزعج بها أحدًا.
وكأن جسده تعلم كيف يبكي دون أن يُشعر من حوله.
وكأن هذا الطفل... تعلم منذ زمن بعيد أن الصوت ممنوع.
دوق شدّ ذراعه حوله قليلًا، لا إراديًا. لم يكن ضمّة... بقدر ما كانت محاولة لفهم، أو تعويضٍ متأخر.
عقله يحاول استيعاب المشهد:
هل كان هذا هو السبب في صمته الدائم؟
هل كان ويليام يبكي دومًا... فقط دون أن يلاحظ أحد؟
هل مرّت سنون وهو يكتم، يكتم، حتى ظن الجميع أنه بلا مشاعر؟
تلك الدمعة التالية التي انزلقت ببطء على بشرته، جعلته يهمس بكلمات لم تُقال بصوت مسموع:
"كم مرة... فعلت هذا وحدك؟"
لكن ويليام لم يرد.
كان نائمًا. أو منهكًا إلى حد اللاوعي.
وكان يبكي.
همسات لا مفهومة تتسرب من بين شفتيه.
"لا أريد العودة لتلك الغرفة... أمي قالت إنها ستأتي... لكنها لم تأتِ..."
نظر دوق
لكنه لم يقل شيئًا.
لأن دوق كان يعرف تمامًا عن أي غرفة يتحدث.
وأي أمٍ تلك التي لم تأتِ.