حلّ المساء بلطف، وكانت الشمس قد توارت خلف الأفق، ترسم خطوطًا ذهبية باهتة على النوافذ العالية لقصر . صوت خطوات الخدم يتردد في الممرات، حيث تم إعداد العشاء بعناية في القاعة الكبرى… وكانت الأجواء توحي بحدث رسمي صغير.
في جناحه الخاص، كان ويليام ممددًا على سريره، رأسه غارق في الوسادة، وعيناه نصف مغلقتين.
"العشاء، هاه؟" تمتم ببطء وهو يحدّق بالسقف.
"هذه فقط المرة الثانية التي يدعوني فيها أحدهم لتناول الطعام مع العائلة منذ تجسّدي…"
تجعد جبينه بخفة.
تذكّر فجأة، وبوضوح مؤلم، ذاكرة من حياة ويليام الأصلي… فتى مراهق، يقف عند باب غرفة الطعام، مترددًا، يتوسل بعينيه أن يُسمح له بالدخول، أن يجلس مع عائلته، ولو لمرة واحدة.
"يا له من أحمق...".
همس ويليام وهو يدير وجهه للجانب الآخر.
"لن أكون مثل هذا الأحمق العاطفي… لا أريد الاختلاط معهم، لا أريد المحادثات الغريبة، ولا نظرات الشفقة، ولا تهذيب مزيف. النوم أكثر دفئًا من طاولة مليئة بالصمت الثقيل."
غطى نفسه بالبطانية، وقرر تجاهل كل شيء.
---
لكنّ أحد المقاعد ظلّ خاليًا.
جلس الدوق جوزيف في رأس الطاولة، ملامحه الجامدة أكثر قسوة من المعتاد. على يساره جلس كايل، الأصغر، المستقيم، وسيفه الصغير المعلّق على خصره، رغم أن لا قتال على المائدة. وعلى يمينه... كان الكرسي الخالي.
مرت دقيقة.
ثم أخرى.
هدأ الضجيج في القاعة، وساد الصمت المتوتر. تبادل الخدم النظرات بقلق، وتوقفت الأواني عن الحركة.
رفع الدوق جوزيف نظره أخيرًا نحو الكرسي الفارغ، ثم أطلق تنهيدة ثقيلة وهو يضع الشوكة برفق على المائدة.
"لقد تجاوز هذا حدود الوقاحة."
تمتم بنبرة باردة، ثم نهض بقوة حتى اهتزت الكؤوس.
"سأحضره بنفسي."
---
في غرفة مظلمة داخل الجناح الشرقي، كان ويليام ممددًا فوق سريره، ملفوفًا بالبطانيات كأنما يتهيأ للشتاء. عيناه مغمضتان، تنفسه هادئ، لكن عقله نشط.
"ثاني مرة يُدعوني فيها لتناول العشاء معهم... عجيب."
همس لنفسه وهو يتقلب بكسل.
"الأصل كان سيتوسل لهذا العشاء… المسكين. كان يتمنى ولو لحظة اهتمام. وأنا؟ لا أريد حتى النهوض."
زمّ شفتيه، وأدار ظهره لباب الغرفة.
"العائلة؟ لا حاجة لي بها. لا أريد نظرات شفقة من أبي، ولا استعلاء من ذاك الفتى ، كايل."
وفي تلك اللحظة…
فتح الباب بعنف.
"…لا."
تنهّد ويليام بصوت مسموع.
"أنا نائم، اخرج."
"كاذب سيئ التمثيل."
كان صوت والده جوزيف جامدًا كالجليد.
فتح ويليام عينه ببطء، ليرى ظل والده يقف أمامه. بلا كلمة إضافية، اقترب الدوق، سحب البطانية عن ابنه، ثم بكل بساطة رفعه عن السرير كما لو كان دمية قماش.
"هيه! لدي كرامة!"
"كرامتك في القبر مع احترامك لعائلتك."
"أنا مريض!"
"شفاؤك تقدم بما يكفي لتتذمر من طعام الحمية."
"أكره المآدب العائلية."
"وأنا أكره قلة الاحترام. ومع ذلك، ها نحن ذا."
---
دخل الدوق القاعة حاملاً ويليام بين ذراعيه. توقف الزمن للحظة، خاصة حين استدار راين ببطء لينظر نحو أخيه الاصغر.
كان في نظراته كل شيء…
اشمئزاز. ازدراء. برود.
كأنما ينظر إلى وصمة عار على لقب العائلة.
"أخيرًا، قررت الحضور." قال راين بسخرية باردة.
وضع الدوق ويليام على الكرسي دون أي اهتمام بردود فعله، ثم جلس في مكانه.
نظر ويليام إلى راين للحظة، ثم تجاهله كليًا وهو يسكب لنفسه كوب ماء.
"...كنت مرتاحًا في سريري."
"وكانت العائلة ترتاح أكثر بدونك." قال راين ببرود وهو يقطع قطعة من اللحم.
"رائع، شعور متبادل."
تدخّل الدوق بصوته العميق:
"ستحضر وجباتك مع العائلة من الآن فصاعدًا. سواء أعجبك الأمر أو لا."
"وماذا إن فقدت شهيتي؟"
"ستأكل رغمًا عنها."
ارتفع حاجب ويليام بتعب، ثم تناول شوكة الطعام.
"يا لها من ديمقراطية رائعة… فعلاً، قصر الحريات هنا."
صمت الجميع للحظة. كان الجو مشحونًا بالكلمات غير المنطوقة.
ويليام تناول لقمة بطيئة، ثم مال برأسه على راحة يده، وعيناه تترنحان بالنعاس.
"سأضع خطة للتهرّب من المرات القادمة… ربما أُصيب بحمى؟" فكر بكسل، بينما راين يرمقه بنظرة ازدراء تكاد تحرق الهواء من حوله.
---
جلس ويليام بين أفراد عائلته على الطاولة الطويلة المضاءة بأضواء الشموع، محاطًا بأجواء رسمية خانقة. كان هذا ثاني عشاء يجمعه بعائلته منذ تجسده… ومع ذلك لم يشعر بانتماء ولو لثانية واحدة.
عن يساره جلس كايل ،، يرمقه بنظرات احتقار غير خفية. وعن يمينه جلس راين، الأخ الأكبر، ذو النظرات الصارمة الحادة كالسيف، وقد ظهر على وجهه الضيق من وجود ويليام من الأساس.
أما الدوق جوزيف، والدهم، فقد جلس في صدر الطاولة، مهيبًا كعادته، يتفحص كل حركة بصمت.
حاول ويليام أن يبدو طبيعيًا… أو بالأحرى، كسولًا كعادته. أمسك بالشوكة بيد مرتخية، وأخذ يقلب الطعام الصحي أمامه بتكاسل، وكأن محاولة رفع لقمة إلى فمه كانت معركة.
"أحمق ويليام الأصلي كان يتوسل للجلوس معهم… وأنا؟ لا أريد حتى رفع رأسي." فكر بسخرية.
لكنه سرعان ما شعر بضعف مفاجئ. كل شيء أصبح مشوشًا. كان يسمع الأصوات، لكنه لم يعد يميزها بوضوح. خفقان قلبه تسارع، ويداه أصبحتا باردتين.
ثم…
فجأة فقد وعيه.
ترنح جسده للأمام، ورأسه كان يتجه مباشرة نحو وعاء الحساء الساخن الذي أمامه.
لكن في اللحظة الأخيرة، امتدت يد راين بقوة، وأمسكت بخصلات شعره من الخلف، مانعة وجهه من السقوط في السائل المغلي.
"أحمق!" صرخ راين بحدة، وهو يسحب رأس ويليام للخلف. "هل تحاول تشويه وجهك الآن؟! هل تريد أن تموت بهذه الطريقة السخيفة؟!"
نظرت العائلة بصدمة، فيما وقف بعض الخدم متجمدين.
كايل اكتفى بالتنهد بصوت مسموع، وعيناه لا تخفيان السخرية:
"لا مفاجأة."
راين، بيده التي ما زالت تمسك شعر ويليام، خفض صوته قليلاً، لكنه لم يُخفِ غضبه:
"لا تضع نفسك في هذا الموقف المثير للشفقة أمام الأب، يا ويليام."
ترك خصلات شعره، وفي تلك اللحظة، تهدّل جسد ويليام بالكامل وسقط من على الكرسي، محدثًا صوت ارتطام خافت على أرضية الرخام الباردة.
" سيدي صغير !" صرخت إحدى الخادمات.
أسرع الدوق جوزيف واقفًا، وتوجه مباشرة نحو جسده الساقط، بينما انحنى راين بجانبه، يضع يده على جبينه.
"اللعنة... إنه يغلي."
"...لكن رغم كل شيء، أنقذت وجهه من أن يُقلى في الحساء. أحسنت، يا أنا."
أصدر أوامره بنبرة قاطعة:
"أحضروا الطبيب فورًا! وكلاين! واحذروا عند نقله."
---
بعد ساعة…
استلقى ويليام على سريره تحت ضوء خافت، وجهه شاحب، وقطعة قماش باردة على جبينه. الطبيب يهمس بتعليماته، وكلاين يجلس بجانبه بعينين قلقتين.
"كانت نوبة إرهاق حادة... مزيج من الحمى والإجهاد الذهني. من حسن الحظ أن الأخ الأكبر أنقذه في الوقت المناسب."
وقف راين عند طرف السرير، ذراعيه معقودتان، وجهه عابس وهو يراقب أخاه بنظرة معقدة… لم تكن شفقة تمامًا، لكن أيضًا لم تكن قسوة خالصة.
"إنه ضعيف كعادته، لكن هذا… هذا كان خطيرًا حقًا."
همس ويليام وهو يفتح عينيه ببطء:
"... هل... احترقت؟"
ابتسم كلاين بارتباك، بينما تمتم راين ببرود:
"للأسف لا. وجهك ما زال كما هو."
ضحك كلاين خافتًا، فيما أغلق ويليام عينيه مجددًا، وهمس بصوت واهن:
"إذن… سأحتاج لحجة أفضل لتفويت العشاء القادم."
-----
غرق ويليام مجددًا تحت الغطاء الثقيل، أغمض عينيه محاولًا تجاهل الإضاءة الخافتة القادمة من المصباح بجانبه، والحرارة المزعجة التي لا تزال تلمّ بجسده. جسده متعب، حلقه جاف، والنبض في رأسه كأن أحدهم يطرق على جمجمته من الداخل.
ومع ذلك، النوم لم يأتِ.
بل على العكس… أفكاره بدأت تغوص في دوامة من الذكريات والملاحظات والتحليلات.
"ما هذا الجنون؟!" فكر بتأفف وهو يقلب رأسه على الوسادة، يرمق السقف كأن الجواب سيُكتب عليه.
"نظام؟ مهارات؟ عناصر؟ أرواح؟! هل أنا في لعبة؟ رواية؟ مسلسل كوري رخيص؟!"
تنهّد طويلاً. منذ لحظة تجسده وهو يعرف الحقيقة: لقد دخل إلى رواية كان قد قرأها قبل موته في عالمه السابق.
جزء الثاني اسمه《أجنحة تحت رماد النبلاء》، ثلاثية فانتازيا شعبية كانت تحظى بتقييم مرتفع لكنه لطالما رآها تافهة… مليئة بالمبالغات البطولية والدراما التي تُكتب لأجل البكاء فقط.
لكن الجزء الأسوأ؟ أنه تجسّد في جسد أحد أكثر الشخصيات المكروهة في الرواية:
ويليام إيرونديل.
"ذلك الأحمق..." تمتم وهو يدفن وجهه في الوسادة.
ويليام الأصلي كان مزيجًا مريعًا من النرجسية، العنف، الغيرة، والعُقد النفسية.
ابن عائلة نبيلة مشهورة بمواهبها، لكنه لم يرث شيئًا سوى المظهر… وجه جميل، شعر بني، وعينان زرقاون. لكنه بلا موهبة، بلا مهارات، بلا شخصية جذابة.
بينما كان أخوه الأصغر كايل عبقريًا منذ الطفولة في المبارزة.
وقد كرهه ويليام الأصلي لذلك… كرهه حتى العظم.
"حتى أنا، الذي لا يحب الأطفال، ما كنت لأضرب أخي الأصغر بعصا خشبية أمام الخدم." فكر باشمئزاز.
كان ويليام الأصلي يتنمّر عليه، يسرق ممتلكاته، يحاول إذلاله في كل لحظة. وكلما لامه أحد على تصرفاته، يختبئ خلف نقاب "الحزن" لأنه بلا موهبة في عائلة كلها عباقرة.
"أنت لم تكن ضحية، كنتَ أحمق." قالها ويليام في ذهنه وهو يحدق بالسقف، نبرته مشحونة بالاحتقار.
"وبسببك، ورثت كل كره العائلة، وجنون الرأي العام، وجسد مريض فوق ذلك."
ثم استعاد ذكرى ظهور النظام اليوم…
نافذة زرقاء ساطعة ظهرت أمام عينيه دون سابق إنذار، تعرض له فئات وأسلحة وقدرات وكأنّه في لعبة RPG:
"أحمق فوق ذلك كله، الآن هناك نظام يحاول سحبي نحو القتال؟ أنا حتى لا أستطيع الوقوف دون دوار!"
رمش بعينيه بينما تذكر الخيارات التي عرضها عليه النظام، وكيف اختار له تلقائيًا "الفئة المجهولة"، ثم اختفى دون تفسير.
"تأكيد، إنه يريد أن أُقتل."
كان يعرف هذا النمط من القصص: يظهر النظام، يبدأ البطل أو الشرير في صقل نفسه، يخوض المعارك، يُصلح أخطاء الجسد الذي تجسد فيه، يصبح بطلًا محبوبًا لدى الجميع…
"لكن آسف… لست مهتمًا."
الشهرة؟ لا يريدها.
الانتقام؟ لا حاجة له.
المعجزات؟ متعبة.
كل ما يريده هو الاسترخاء، سرير ناعم، طعام جيد، وألا يُجبر على النظر إلى وجه كايل الذي يذكره دومًا بالمأساة التي تجسّد فيها.
رغباته ليست بطولية… بل أنانية ببساطة.
لكنه لا يهتم.
"فليذهب ويليام الأصلي إلى الجحيم، هذا ما تركه لي."
غطى نفسه أكثر، كأن الدفء الزائد سيطرد الأفكار.
لكنها لم تتوقف… بقيت تطارده.
صورة كايل المصاب في حلمه، صورة راين وهو يوبخه وهو يمسك شعره، صورة الدوق وهو يحدّق فيه كما يحدق بشيء لا يُصلح.
"سحقًا لكم جميعًا… هذا ليس جسدي أصلاً." تمتم بمرارة.
لكنه يعلم…
يوماً ما سيضطر للمواجهة.
سواء أراد أو لا.
----
الليل سكن الجناح المخصص له كما لو كان يحترم مزاجه المتقلب.
ويليام لم ينام.
جسده مرهق، لكن عقله، ذلك المتسكع الوقح، يرفض أن يهدأ. كان يحدّق في سقف الغرفة بعينين خاويتين، تفكيره غارق في الماضي… ليس ماضيه هو، بل ماضي "ويليام إيرونديل" الأصلي، الجسد الذي ورثه دون رغبة.
وفجأة، وجدت ذاكرته نفسها تنبش صورة كانت مطمورة في ركن رمادي… وجه امرأة.

أم ويليام.
اسمها... نُسي من الرواية بعد الجزء الأول تقريباً. امرأة ذات شعر أحمر ، وعينين خضراء لامعة . ناعمة الملامح، هادئة الطبع، تبدو وكأنها لا تنتمي لقصر آل إيرونديل الجليدي.
لكن مكانتها... كانت مثيرة للجدل.
فمنذ ولادة ويليام، كانت الهمسات تنتشر في أرجاء القصر:
"ابن غير شرعي؟"
"لا يشبه الدوق و دوقة في شيء!"
"شعره بني؟ بينما الدوق وكل نسله من الفضة و الياقوت !"
اتهامات بالخيانة بدأت تهمس في زوايا المجتمع النبيل.
لكن المثير للدهشة؟ أن الدوق جوزيف إيرونديل الكبير لم يقل شيئًا.
لا تعليق رسمي. لا نفي ولا تأكيد.
"رُبما حفاظًا على ماء وجهه، أو لأنه ببساطة لا يهتم." فكر ويليام ببرود.
أو... كما أوحت له الرواية لاحقًا، ربما لأنه كان يثق بزوجته.
زواجهم لم يكن مبنيًا على حب، بل على اتفاق سياسي بين عائلتين عظيمتين.
صفقة.
مثل معظم الزيجات النبيلة.
لكن الصفقة بدأت تنهار بعد سنوات.
بعد أن أنجبت زوجته الطفل الثالث: كايل.
شعر فضي، عيون حمراء… الوريث المثالي.
وعندما بلغ كايل السادسة، حدث ما كان متوقعًا…
الطلاق.
سريع، صامت، ومجرد من المشاعر.
اختفت الأم بعد ذلك.
ولم يعد يُذكر اسمها في البلاط.
لكنها… لم تختفِ تمامًا.
"كانت تأتي كل فترة، مثل ضيف ثقيل الظل، تزور أبناءها دون أن يشعر بها أحد." تذكر ويليام وهو يضغط فكه بتأفف.
"أوه، كم كانت زياراتها مفعمة بالدفء…"
سخر من نفسه وهو يشيح بوجهه للجانب.
لم يتذكر ولو مرة واحدة جلس فيها ويليام الأصلي مع والدته وتبادلا الضحك.
لم يحتضنه أحد، لم تمسح على شعره، لم تقل له "أنا فخورة بك".
كل ما يتذكره هو البرود.
الزيارات القصيرة.
النظرات التي تحمل الذنب أو الشفقة أو حتى… الرفض.
"من الواضح أن تلك المرأة لم تكن تحبه كثيرًا…"
ربما لأنها لم ترغب به؟
ربما لأنه كان سبب الاتهامات؟
أو ببساطة… لأنه لم يكن راين او كايل؟
"أووووه، ويليام الأصلي… أيها الأحمق المسكين."
غمغم بتهكم وهو يتقلب على جانبه الآخر، شعره الطويل ينسدل كستار على وجهه.
"أنت كنت عارًا على العائلة من لحظة خروجك من الرحم."
ضحك بخفة مظلمة، ثم سعل بسبب ضعف حلقه. الألم صفعه قليلاً، لكنه لم يتوقف عن التفكير.
"كان من المفترض بك أن تموت مبكرًا، أو تُرسل إلى دير بعيد كأي ابن شاذ عن السلالة."
لكن بدلاً من ذلك… بقي.
وتحول إلى الشرير المتنمر الذي عاش تحت ظل اخوته، يكره أمه، ويخشى نظرة والده، ويحاول بشتى الطرق إثبات أنه ليس زائدًا عن الحاجة.
"مثير للشفقة… وممل."
للحظة شعر بالغثيان، ليس من المرض بل من الموقف بأكمله.
كم هي عائلته هذه معطوبة؟!
"أنا في قصر مليء بالأشخاص الجميلين، الأقوياء، الأذكياء… وجميعهم معطوبون عاطفيًا بطريقة أو بأخرى."
رفع عينيه نحو سقف الغرفة مجددًا، حدّق في النقوش وكأنها ستجيب على تساؤله الأكبر:
"ما الذي يفترض بي أن أفعله هنا؟"
ثم تمتم:
"أنا لا أريد أن أصبح بطلاً. لا أريد أن أصلح علاقتي مع والدتي المفقودة، ولا أبي البارد، ولا أخويّ اللذين يحتقرانني. فقط… اتركوني أنام."
وسحب الغطاء فوق رأسه، متنكرًا للعالم، للواجبات، للعلاقات…
ليغرق مجددًا في كسلٍ عنيد.
----
الساعة تجاوزت منتصف الليل. القصر هادئ، إلا من صوت النسيم المتسلل من نافذة غير مغلقة تمامًا… وظلال القمر التي تمتد كأصابع باهتة على أرضية غرفة ويليام.
وتحت ذاك الضوء الخافت… بدأ جسده يرتجف.
في البداية كانت اهتزازات طفيفة، بالكاد تُلحظ. ثم فجأة، تصاعدت.
تشنّجات.
عينيه ظلّتا مغمضتين، لكن أنفاسه تسارعت، عضلاته تقطّبت وكأن شيئًا في داخله يحاول تمزيقه من الداخل.
حرارة جسده كانت ملتهبة بشكل غير طبيعي، حتى أن شرشف السرير التصق ببشرته من العرق الساخن.
وفجأة...
سقوط!
اصطدم جسده بالأرضية الرخامية بقوة، صوت الارتطام العنيف ارتدّ في أنحاء الغرفة كصرخة مكتومة. رأسه ارتطم بالحافة الخشبية للطاولة الصغيرة بجانب السرير.
الارتطام قاسي.
ثم...
سكون.
الدم بدأ يتسرب من جرح في جانب رأسه، ينساب ببطء، يتخلل شعره الكستنائي الذي بدا أكثر بهتانًا في الضوء الشاحب.
لم يصرخ.
لم يتأوه.
لم يتحرك.
كأن الحياة غادرته للحظات.
الباب انفتح بعنف بعدها بثوانٍ.
كيلان دخل، كان قد شعر أن هناك خطبًا ما، تلك الحاسة السادسة التي زرعها القلق في داخله منذ أول يوم عهد فيه العناية بهذا الفتى المكسور.
" سيد ويليام؟!"
عينيه اتسعتا، ومن فوره انطلق نحوه.
" سيد ويليام!!"
انحنى عليه، رفع رأسه بسرعة بينما يده الأخرى امتدت تلقائيًا لوقف النزيف، ضغط بقوة فوق الجرح وهو يلهث:
"يا إلهي… لا لا لا… اللعنة! خدم! أحدهم! أحضروا الطبيب حالًا!"
صوته هز الجدران.
ركض أحد الخدم بالخارج بمجرد سماع الصراخ، وآخر دخل للمساعدة وهو بالكاد يثبت أطرافه المرتجفة من منظر الدم.
كيلان رفع جسد ويليام إلى حضنه، لم يكن يملك الوقت أو الرفاهية لنقله للسرير، ركع على الأرض وحضنه بذراعيه كما لو كان يحاول إعادة الحرارة لحياة منهارة.
نظر إلى عيني ويليام… لكنها كانت نصف مفتوحة، تحدق إلى اللاشيء.
"أجبني أيها الأحمق الكسول… لا تفعل هذا بي الآن!"
لكن لا رد.
وجه ويليام كان شاحبًا بطريقة مخيفة. عرق يتصبب من جبينه، جسده لا يتوقف عن التشنج الخفيف وكأن طاقته تُسحب منه بهدوء مميت.
"أنت لا تملك الحق في أن تنهار الآن… لم تبدأ حتى معركتك مع هذا العالم، تبًا لك…"
بصوت منخفض متكسر، تمتم كيلان:
"ابقَ معي، سأمنعك من السقوط… سأمنعك من الاختفاء…"
وفي تلك اللحظة، مع دخول الطبيب على عجل يجر حقيبته، تمنى كيلان لو أن بإمكانه ضرب ويليام، صفعه، إيقاظه…
لكنه اكتفى بالصراخ داخله، وصم قبضته على دم الرأس، وهو يهمس بغيظ مشوب بالخوف:
"أنت لست مسموحًا لك أن تموت يا ويليام… حتى لو كنت أحمقًا، ما زلت تعيش هنا. وما زلت مسؤوليتي."
----
صوت الصرير المعدني للإبرة وهو تخترق الجلد، طفيف… لكن مؤلم بما يكفي لجعل كيلان يشد قبضته. الطبيب كان يعلو حاجباه وهو يحقن ويليام بالثالثة، بعد أن أوقف نزيف الرأس وربط الجرح بعناية مهنية.
"حرارته لا تزال مرتفعة… لكن الجرح سطحي لحسن الحظ. السبب على الأرجح يعود إلى إرهاق جسدي شديد، أو... شيء أعمق."
قالها الطبيب وهو ينظر بقلق إلى كيلان، الذي لم يرد، بل فقط مدّ يده وسحب الغطاء على جسد ويليام بهدوء حريص، كما لو كان يغلف زجاجًا مكسورًا.
"راقبه جيدًا. لا نحتاج لمفاجآت أخرى هذا الأسبوع."
"أنا لا أغمض عيني عنه أصلاً"، ردّ كيلان بصوت منخفض.
غادر الطبيب، وفي الخارج، ركض أحد الخدم بسرعة لإيصال الخبر إلى من يملك السلطة العليا في القصر: الدوق جوزيف إيرونديل.
---
كان الدوق جالسًا في مكتبه، يستعرض رسائل من النبلاء ويوقع بعض الأوامر الرسمية، حين طرق الخادم الباب على عجل.
"سيدي، هناك أمر عاجل يخص السيد ويليام—"
"دعني أخمّن، سقط من السرير؟"
قالها ببرود دون أن يرفع رأسه.
"سيدي… رأسه نزف والطبيب استُدعي. كان فاقدًا للوعي."
لحظة صمت.
ثم صوت الورقة تُطوى.
"حيل تافهة. ذكي بما يكفي ليختلقها، لكنه ليس ذكيًا كفاية لجعلها تقنعني."
عاد ينظر لأوراقه مجددًا.
"أخرج."
تردد الخادم للحظة، ثم انحنى وخرج بهدوء، يخفي انزعاجه خلف خطواته المنضبطة.
---
الصباح التالي.
الشمس تسللت عبر ستائر النوافذ الثقيلة، خيوطها تمسح أرض الغرفة الذهبية ببطء.
ويليام فتح عينيه. لم يتحرك.
ظلّ ينظر إلى سقف الغرفة، أنفاسه متباطئة، جسده ثقيل، ورأسه نابض بوجع متواصل كما لو أن جلده تمزق.
لكن الحرارة خفّت قليلاً.
أدار رأسه جانبًا ببطء، ليرى كيلان نائمًا على الكرسي المجاور، رأسه مائل وذراعيه متشابكتين، بدا متعبًا بشكل يثير الشفقة.
"ذلك الاحمق… نام هنا طول الليل؟"
تمتم داخل عقله.
حاول تحريك أصابعه… لا تزال ثقيلة، لكن على الأقل تتحرك. هذا تطور.
"يا جسدي… ما خطبك؟ أنت تتصرف كأنك محكوم بالموت من الداخل."
مرت ثوانٍ ثقيلة، ظل فيها ساكنًا، غارقًا في صمت الغرفة.
ثم بدأت أفكاره تتحرك…
الرواية.
ذكريات الجسد.
النظام الغبي.
"كنت أظنني سأتجسد في بطل… أو حتى خصم جذاب… لكن لا، أعطوني جثة متعفنة فيها مشاكل نفسية وعائلية وسيرة سوداء وسقف توقعات تحت الأرض."
ضحكة ساخرة اهتزت داخله، بلا صوت.
"ذلك الأحمق، ويليام الأصلي… كان بإمكانه على الأقل التظاهر بالعقل. بدل أن يتنمر على أخيه ويقحم نفسه في العداء مع الأبطال، كان بإمكانه فقط… أن يصمت."
ارتسم على وجهه عبوس بطيء.
"والآن أنا عالق هنا… أتعامل مع مخلفات حمق لم أرتكبه."
ارتكز على ساعده ببطء، أنين خافت خرج منه، لكنه أصر على أن ينهض قليلًا.
"اللعنة… هذا الجسد لا يُطاق."
اتكأ على الوسادة، عيناه تحدقان في الستائر المسدلة:
"لكن طالما أنا حي… لن أكون دمية لأحد."
لم يكن بطلاً.
ولم ينوِ أن يكون كذلك.
لكنه أيضًا لم يكن ذلك الشرير الذي كتبوه بالحبر الأسود.
سيعيش بطريقته… ولو اضطر أن يزحف وسط لهيب.
ولو كانت تلك الحياة… حياة ويليام إيرونديل.
---
استيقظ كيلان على صوت تحرك خافت، ففتح عينيه ليجد ويليام مستلقياً بهدوء، وعيناه مفتوحتان تحدقان بالسقف.
لم يكن يتألم. لم يكن يتنفس بصعوبة.
فقط… على قيد الحياة.
"أنت حي!" صرخ كيلان بلهجة خفيفة فيها مزيج من الذهول والفرح.
"للأسف، نعم." تمتم ويليام، بصوت أجش.
ركض كيلان بسرعة ليقترب منه، يلمس جبينه ويتفقد جرح الرأس الملفوف بضمادة. "حرارتك أقل! هذا تقدم! سأذهب لإحضار الطعام. أعددت وصفة خاصة بنفسـ…"
"هل فيها شوكولاتة؟" سأله ويليام، بنظرة نصف حماسية.
"…لا، فيها مرق وعشب مطحون و—"
"أنقذني. أريد الموت مجددًا."
ضحك كيلان وهز رأسه. "اصبر، ستحبها، أو على الأقل تكرهها بدرجة أقل من الحياة."
---
[بعد نصف ساعة – الغرفة]
عاد كيلان وهو يحمل صينية الطعام، فيها طبق خفيف، وبعض العصير، وشيء لا يمكن التعرف عليه.
جلس بجانبه وبدأ يطعمه بحذر.
ويليام، الذي لا يزال يشعر أن يديه من ورق مبلل، فتح فمه بلا حماس.
"هل هذا… مرق أم شيء من المستنقع؟"
"يساعد على التعافي."
"طعمه يقول إنه يساعد على الهروب من الحياة."
بعد أن انتهى، قال كيلان بحماس:
"سأخرجك للحديقة! تحتاج هواء نقي."
"أحتاج وسادة ونوم… لكن لا أحد يسألني."
رغم اعتراضه، بدأ كيلان يرفع جسده ببطء ليضعه على الكرسي المتحرك، بثبات ورعاية غير متوقعة.
"اهدأ، سأكون لطيفًا."
"قلتَ ذلك آخر مرة، وعلقتَ قدمي بين العتبة والباب."
"كان ذلك تدريبًا على التحمل."
"تدريبك على لقب ‘أسوأ ممرض في المملكة’."
---
[الممرات – في اتجاه الحديقة]
دفع كيلان الكرسي ببطء، وويليام جالس عليه، مائل الرأس، بنظرة ميتة.
السماء صافية، الزهور مزهرة، الطيور تزقزق…
"هل تشعر بتحسن؟" سأل كيلان، بابتسامة.
"أشعر وكأنني تم تحميلي كغرض أثاث إلى المتحف."
"هذا تقدم. البارحة كنت تشعر كجثة."
"لا فرق كبير، فقط فرق في الرائحة."
---
في طريقهما إلى الحديقة، مرّا قرب الشرفة حيث وقف الدوق جوزيف ، بملابسه الرسمية، يتصفح ورقة ما ويحتسي قهوته.
ويليام نظر إليه لثانيتين… ثم استدار ببساطة، دون أي تحية، أو حتى نظرة اعتراف بوجوده.
الجو تجمّد للحظة.
خفض الدوق الورقة، وقال بصوت عالٍ:
"أي وقح يمرّ أمام والده دون تحية؟"
توقف كيلان عن دفع الكرسي، ونظر بتوتر بين ويليام والدوق.
ويليام استدار ببطء، ونظر نحو الدوق بنظرة لا مبالية.
"آه… لم أرك. ربما لأنني لستُ من النوع الذي ينظر للأعلى كثيرًا."
"ماذا قلت؟"
"قلت صباح الخير… لكن داخليًا."
الدوق ضيّق عينيه، ثم أشار بيده دون أن يصرخ:
"قل له، في المرة القادمة، أن الأدب لا يُلغى حتى لو كان مريضًا. الجسد مريض، لا الأخلاق."
استدار الدوق وغادر بهدوء، لكن صوته ظل يرنّ في الممر.
ويليام تمتم وهو يشيح بوجهه:
"نعم نعم، أخلاق من ورق بارشمنت مغبرة…"
كيلان، الذي حاول كتم ضحكته، أكمل دفع الكرسي وهو يقول:
"أنت ستجعلني أُطرد ذات يوم."
"لا بأس، سنفتح مطعمًا معًا. نبيع فيه حساء المستنقع."
---
[الحديقة]
وصلوا أخيرًا إلى الحديقة. النسيم كان لطيفًا، والشمس لا تزال طرية، لم تلسع بعد.
ويليام جلس هناك، بصمت، يراقب الحشرات تطير بين الزهور.
"هل الجو أفضل؟" سأل كيلان.
"أفضل من الجلوس وسط كتب وأوامر ووجوه مكشرة. نعم."
أغلق عينيه واستنشق الهواء ببطء، ثم قال:
"لو لم أكن محاصرًا في هذا الجسد، وفي هذه الحياه السخيفة… ربما كنت سأحب هذا العالم."
كيلان ابتسم بصمت، ثم عاد للجلوس بجانبه.
"لا بأس، لن نغيّر العالم اليوم. فقط سنستمتع بالزهور."
"بشرط ألا تطلب مني شمها. قد أكون كسولاً، لكن لستُ ساذجًا… تلك الزهرة على اليسار فيها نحلة تتربص بي."
"الهواء النقي لا يعالج سوء المزاج… لكنه يحسن طعم التذمر"
---
ويليام ما زال جالسًا فوق كرسيه المتحرك، يتأمل العشب بلا اهتمام، ويعدّ عدد المرات التي مرت فيها نحلة بجانبه دون هجوم. كيلان جالس بجانبه، يقرأ بصوت منخفض من كتاب حكايات قديم… لكن لا أحد يستمع فعليًا.
هدوء.
نسيم عليل.
ثم…
خطوات محسوبة، خفيفة… ومتغطرسة.
ظهر كايل.
الأخ الأصغر، الثالث بين أبناء الدوق، والمعروف عند ويليام باسم "النسخة المُحدثة من الغرور الأرستقراطي".
بزته مرتبة لدرجة تثير القلق، شعره الابيض مصفف بعناية مبالغ فيها، وحذاؤه يلمع كما لو كان لتوه خرج من عرض أزياء ملكي.
توقف على بعد خطوات من ويليام، وضع يديه خلف ظهره، وأخذ يحدق به… مطولاً.
ويليام لم يحرك ساكنًا.
استمر التحديق.
نظرات من الأعلى للأسفل، فيها كمية احتقار تكفي لغلي إبريق شاي.
كايل أخيرًا تحدث، بصوته الرتيب البارد:
"لم أتوقع أن تنهض بهذه السرعة. هل المشهد السابق كان دراميًا بلا داعٍ، كالعادة؟"
ويليام رمش ببطء… مرة… مرتين… ثم نظر إلى السماء، وكأن الهواء أكثر أهمية من البشر.
"أوه، عفوًا، كنت أستمع إلى زهرة تتنفس. تفضل، أعد جملتك، لكن بصوت أكثر أهمية، لتناسب غرورك."
كايل ابتسم بخفة، نظرة فخر ممزوجة بالاشمئزاز:
"لا زلتَ وقحًا رغم حالتك. هذا تقدم... في طريق الخطأ."
"وأنت ما زلتَ صغيرًا رغم وجهك المتعالي. هذا أيضًا نوع من الثبات."
كيلان كان يهمّ بقول شيء لتهدئة الجو، لكن ويليام رفع يده بتكاسل:
"لا بأس، كيلان. أنا معتاد على الزوار المزعجين. فقط عادةً يكونون طفيليات، لا إخوة."
كايل لم يرد، فقط ضاق عينيه، وأدار وجهه.
"لا أعلم لماذا لا يزال والدي يُنفق موارد العائلة على جثة متحركة."
"وأنا لا أعلم لماذا لا يزال يُنفق على دروسك في الكلام، وأنت لا تزال تتحدث ككتيب قانوني ملغي."
كايل شخر، ثم مشى مبتعدًا بخطوات منظمة كما جاء.
ويليام تنهد.
"إذا كان هنالك شيء أسوأ من كونك شرير … فهو أن تكون محاطًا بطاقم تمثيلي من الجحيم."
كيلان لم يستطع منع نفسه من الضحك هذه المرة.
"بعضهم ليس بهذا السوء…"
"صحيح. أنتَ فقط مريب، لكن على الأقل لا تتنفس بتكبر."
---
ويليام أغلق عينيه مجددًا.
(لا بأس… شخص آخر يحدق بي وكأنني وصمة عار… ما الجديد؟)
ثم ابتسم بخفة، وهو يتمتم:
"لكن لا تقلق يا كايل… في هذه الرواية، أنا سأكون النسخة المملة من الشرير… النسخة الكسولة التي لا تعطي أحدًا شرف المواجهة."
مرحبا روزي تتحدث
أصدقائي متابعين الرواية أن لم أجد عليها تفاعل وأكثر من عشر تعليقات قد اتوقف عن نشرها هنا واكتفي بالواتباد