1164_ إيدوا (طوكيو) ، اليابان
" هيييي !!!! اشتروا قطعة أرض أخرى؟" قالت امرأة كانت تقف على باب منزلها الذي زينته بعض الزهور الصيفية ذات الألوان المنعشة
" أجل إن هؤلاء لمجانين بتضخيم نفوذهم و سلطتهم في أنحاء البلاد ، يبدو أن ثروتهم قد أفقدتهم صوابهم" ردت عليها امرأة أخرى كانت تحمل بين يديها سلة مملؤة بالخضروات الطازجة و قد كانت ترتدي ثوبًا من أثواب الطبقة المتوسطة معدومة الألوان
" ذلك غير عادلٍ حقًا ، هم يملكون كل هذه الأموال يبذرونها هنا و هناك و نحن هنا نموت من أجل قطعة خبز " ردت عليها صاحبة المنزل بحنق و حقد شابكة ذراعيها بعصبية
بينما كانتا تتحسران على حالهما مثلما تفعل الكثير من النساء الحاسدات مر بجوارهما صبي نحيل البنية متسخ الوجه يركض حافيًا مرتديًا ثيابًا باليةً بسرعة مخيفة و من خلفه مرت مجموعة كبيرة من الرجال من مختلف الأعمار الذين ارتسمت على قسماتهم تعابير الحماسة الشديدة كتلك الحماسة التي تصيب أي رجل حين يسمع عن خبر جديد يتعلق بالسياسة أو الرياضة
"ما الذي يجري ؟؟" قالت المرأة الأولى و هي تقف على رؤوس أصابع قدميها تمد رأسها بقوة يمينًا و يسارًا علّها ترى شيئًا و لو قليلًا مما يحدث لتشبع فضولها فهذا الجمع الكبير من الرجال لا يُرى كل يوم
"لا أدري ، هااي تعال هنا يا فتى ، ما الذي يجري؟ أقامت حرب أخرى ؟" سألت المرأة صاحبة السلة فتًا صغير السن مستنكرة
" إن الأخوان هاجيوارا يستعدان لبدأ مبارزة سيوف جديدة " قال الفتى بحماس بالغ ثم ركض مسرعًا في اتجاه قصرٍ عملاق بهي المظهر و قد كان متطرفًا عن المدينة و أقرب للغابة الخضراء التي كانت تلمع أوراق أشجارها منعكسة على سطح القصر اللؤلؤي الذي زينته زخارف غير مألوفة
" ألم أقل لك أن الثروة قد أصابتهم بالجنون " قالت بابتسامة ساخرة محييةً صديقتها لترحل
*******
تعالت أصوات صياح الجمهور المكتظ الذي اجتمع حول ساحة القصر الخارجية ، كلٌ منهم أراد أن يقف في المقدمة حتى تتسنى له الرؤية جيدًا حتى أن بعض الرجال قد تشاجروا فيما بينهم لأسباب غير منطقية و غير واقعية ، مثل تلك الشجارات تُرى كل يوم لكنها اليوم كانت مختلفة و شديدة و كادت أن تؤدي لقتال حاد بين الطرفين
لا تزال الأصوات تتعالى و الرجال يصبحون أكثر صخابة و إزعاجًا حتى اللحظة التي فتحت فيها بوابة القصر محدثة صريرًا قويًا ، في هذه اللحظة عم صمت مرعب بين الجمهور الصاخب حتى أن المار من هناك قد يظن أن الجمهور قد تجمد لثوانٍ ، في الواقع لقد كان شيئًا يستحق الصمت فتلك الهالة المحيطة بأبناء هاجيوارا قد تجبر حتى الإمبراطور على التزام الصمت في حضورهم ، كان ذلك شيئًا يولدون به
انقطعت الأنفاس تشوقًا للمشاهدة ، فلو مرت ذبابة الآن لسُمِع صوتها ، و في لحظة واحدة دبت قدمٌ الأرض بكل قوةٍ خارج البوابة لتعلن عن سيطرتها على تلك الساحة ، تلك القوة لم تكن لتصدر إلا من شخص واحد ألا و هو الابن الثاني لعائلة هاجيوارا "يوريكو" ، فقط بمجرد ظهور وجهه انفجر الجمهور كالعاصفه ، صراخ في كل مكان ، بعض الأطفال قد احمرت وجهوهم من الصراخ
في نظرهم كان ذلك الترحيب لا شيء مقارنة بإنجازاته العظيمه التي حققها في سبيلهم ، لقد لقبوه بالرجل الذي هزم 100 جندي ، قد يظن البعض أنها مبالغة لكن دع المبالغة تأخذ مجراها فهؤلاء الناس كانوا بحاجة إلى شيء يشعرهم بأن بلادهم قد أنجبت محاربًا عظيمًا يحميهم و يقف بجوارهم ، الرعب الذي شهدوه في الحرب قد أزاله هذا الإنسان بسيفه فكيف لا يقدمون له تحية تليق بشأنه
توجه يوريكو نحو مركز الساحه و رفع يده ليحيي جمهوره بكل شموخ رافعًا وجهه نحو جمهوره فظهر وجهٌ أبيض ممتلئ و تبرز منه عينان بلون البندق تلمع تحت أشعة الشمس لا تهاب شيئًا
استمرت صرخات التشجيع و الحماس تعلو لكنها فجأة توقفت حالما خرج الابن الثالث للعائلة أو كما يسمونه خطيئة هاجيوارا "أوساجي"
حل صمت غريب بمجرد خروجه و اعتلى قسماتهم الاشمئزاز و التقزز ، أولئك الناس لم يكونوا يرونه سوى حثالة عديم القيمة ، لم يكن له أي فائدة أو مجهود يذكر في الحرب على عكس أخيه البطل ، أو هذا ما كانوا يعتقدون
أوساجي قد اعتاد على هذا النوع من الترحيب ، اعتاد على تلك النظرات المشمئزة في عيون الناس ، عشاق يوريكو يستحقرون أوساجي بكل ما تعنيه الكلمه ولم تكن أعينهم تحمل له سوى البغض ، كان أوساجي يسير نحو أخيه و هو يشعر بتلك النظرات تخترقه ، تخترق كل ذرة في جسده الواهن الذي يوشك أن يصبح نحيلًا
البعض كانوا يتهامسون و ينظرون إليه ثم يضحكون بدون أي ذرة خزي أو خجل ، إن كان هناك من يقف في صفه فقد كان يفعل ذلك بدافعٍ من الشفقه لا أكثر
عيناه الزرقاوتان اتخذتا من بعض خصيلات شعره الأسود الملبد ستارًا و قد بدتا لا تحملان سوى الهدوء و عدم المبالاة بما يجري حوله بل بالأصح لقد فقدت عينان لونهما من شدة الشحوب و اللون الأسود الذي أحاط بهما
لم يرفع رأسه مثل ما فعل أخوه فلم يظهر منه سوى الشحوب و البلادة ، لا أحد يعلم من أين اكتسب تلك العينان ، أهي الحرب ؟ أم ربما يكون الاعتياد على هذا النوع من المشاهد ؟ فحقًا إن الاعتياد يطفئ الروح في الجسد كما تنطفئ الشمعة في البرد القارس
وصل أوساجي إلى حيث يقف أخيه ، تصافحا ببرود و لم ينظر أحدهما للآخر فعاد الجمهور للصراخ لتشجيع بطلهم و فخرهم يوريكو
" كما اتفقنا حسنًا " همس يوريكو لأخيه بابتسامة يعلوها الخبث
لم يأته رد من أوساجي و قد اكتفى بسحب يده و التوجه إلى حيث يجب أن يقف استعدادًا للمبارزة بلا أي رد فعل يذكر
كان شعار عائلتهم الذي قد اشتهروا به لسنوات طويلة
لكل رجل سيف يتحدث عنه
وقف كل منهما في موقعه و قد اتخذا مواضعهم ، و بدأ الجمهور بالعد بصوت واحد قوي تهتز منه الجدران
"
واااحد ، اثنااان ، ثلاااثه
بمجرد أن النطق بالحرف الأخير من الرقم ثلاثة كان أوساجي قد انطلق نحو أخيه بسرعة فائقة لم يستطع أحد أن يدركها فبدا كطيف أسود ، و بكل قوة رفع سيفه فوق رأس أخيه و لكن ربما لو لم يكن يوريكو قد استطاع تفادي تلك الضربة لكانت عنقه قد انفصلت عن جسده ، شهق جمع كبير من الجمهور مصدومين
وقع على الأرض مصدومًا و قد لاحظ نظرات الجمهور القلقة المتعجبة ، نظر لأخيه بطرف عينه غاضبًا ، لكنه لم يكد يحرك عينيه نحوه حتى شعر بسيف أوساجي البارد على رقبته ، شعر برعشة هزت أوصاله لم يكن بسبب السيف بل بسبب نظرة أخيه الخالية من أي مشاعر ، انتفض بدنه و شعر بغصة في حلقه و استمر أوساجي فقط بالتحديق فيه بنظرات حملت الكثير من الأفكار المضطربة التي لم تستطع قسماته أن تعبر عنها
نظر مرة أخرى للجمهور ليجدهم قد بدأوا يصابون بالذعر ، حينها وقف على قدميه متسندًا على ركبيته و قام بضرب رأسه برأس أوساجي فنظر له ببغض و حنق ثم همس له بغضب قائلًا " أنسيت قسمك أم أنك تريد مني أن أذكرك ؟ "
ارتعش أوساجي و شعر ببرودة أطرافه و ابتلع ريقه بصعوبة ثم تراجع للخلف قائلًا بتوتر و عينان زائغتان "لكن أنا ...."
لم يدعه يوريكو يكمل جملته فقد قبض على سيفه و بكل قوته قد ضرب أوساجي في معدته حتى أنه قد سمع صوت تمزق ، سقط أوساجي على الأرض و تجلجل صوت ارتطامه بالأرض ليكسر الصمت الذي عم في الساحة ، شعر و كأن أحشاءه قد تمزقت ثم شعر و كأن أمعائه بدأت تتآكل و تسحق في نفس ذات الوقت
حاول أن يحرك جسده لكنه ما فتئ يرفع جسده حتى قام أخيه بإعادة نفس الضربه و بقوة أكبر و ابتسامة ضخمة ارتسمت على ثغره فشعر أوساجي بسائل دبق يملؤ حلقه ثم ارتقى نحو فمه و لم يتحمل ذلك الضغط الكبير على فمه و بدأ يشعر بالاختناق فتقيأ كل ما في فمه و جسده يرتعش ، حاول أن يوقف هذا الشلال الدموي بيديه إلا أن جسده أبى أن يطيعه و في النهاية تلونت الأرض من تحته بالقرمزي
و حينها خرج الجمهور عن صمته و عادوا للهتاف و لمح أوساجي بطرف عينه التي تشوشت رؤيتها يوريكو يرفع سيفه و ابتسامة كبيرة تملؤ ثغره
و هكذا قد أُعلِن يوريكو الفائز ككل مرة
و بينما هو يتلقى التهنئات و التبريكات و المديح كان أوساجي قد توقف عن التقيؤ ، مد يده أمام عينيه ليراها متسخة تمامًا و ثوبه الرمادي قد اتشح بالأسود ، رفع بصره نحو السماء بعينان زائغتان متأملًا الغيوم البيضاء المنتفخة و الطيور التي تخترق عباب السماء بأجنحتها ذات الألوان الهادئة الصافية ، استمر هكذا لدقيقة ثم بدأ يأخذ أنفاسًا قوية طابقًا على عينيه و قد مرت نسمات ربيعية رطبة لتلاطف وجهه المتسخ و تتخلخل بين شعيراته السوداء و كأنها ترثى لحاله
و بعد لحظات قصيرة فتح عيناه ثم رفع كمه الأبيض بهدوء نحو فمه ليمسحه فبدا وجهه الأبيض ظاهرًا و قد ابتعدت خصيلات شعره عن عينيه فبدا و كأنهما تتنفسان الصعداء
خفض بصره محدقًا بصمت في أخيه الذي تشق الضحكات و الورود طرقاتهما نحوه
قبض على سيفه بقوة ثم غرسه في الأرض ليتسند عليه ليقف أخيرًا على قدميه بوهن دون إبداء أي رد فعل ، ثم بدأ بالسير نحو القصر وحيدًا حانيًا ظهره دون أن يلاحظه أحد أو يلتفت نحوه ، و على الجانب الآخر كان الحشد يزداد حول يوريكو