قصر هاجيوارا يصنف من القصور النادرة الغريبة ، و نقول غريبة لأن تصميمه لم يكن طبيعيًا ، لم يكن لبشري أن يظهر تلك الدقة و البراعه في التصميم مهما كان فنانًا مبدعًا ، كل شيء فيه كان يبدو و كأنه جزء من عالم أخر ، عالم لا يمكننا نحن البشر أن نتصوره أو نتخيله و إن استطعنا رؤيته فلن نفهمه ، قصر لن تجد له مثيلًا مهما بحثت
كل غرفة فيه بدت و كأنها تمثل عالمًا مختلفًا عن الغرفه المجاورة لها ، حيث يمكنك أن تشم فيهن رائحة الشموع و الورق و لكن أيضًا السيوف و الدم في آن واحد ، شيء لا يمكن أن يُفهم كيف صنع .
عُرِف هذا القصر في اليابان لأول مرة قبل 100 عام حينما جاء شاب فقير باحثًا عن مأوى يقيه شر برودة الطقس ، كان يسير شبه ميت من التعب ، يسحب قدمًا خلف الأخرى بل بالكاد كان يزحف أملًا في النجاة ، تشققت قدماه من السير و تجمدت أطرافه ، كانت أنفاسه تتقطع بينما أسنانه تصطك ببعضها ، حاول المقاومة للنهاية لكن جسده قد خانه و سقط
و بينما كان يشعر أن أجله قد حان و كانت عيناه على وشك الإطباق لمح طيفًا يتحرك نحوه بهدوء ، بدا له كائنًا غريبًا فهو لم يكن يسير بل كان يطفو!! ظن الشاب أن وهن جسده و سقوط الثلج قد جعل الرؤية ضبابيه أو قد جعل عقله مشوش و ففي لحظة ما ظن أنه ربما قد جن ، حاول أن يحرك بؤبؤ عينيه ناظرًا للأعلى علّ ذلك الطيف يكون إنسانًا يقدم له يد المساعدة لكن عيناه قد خذلتاه فقد أغشي عليه في تلك اللحظة من شدة البرد و الإرهاق
كان عقله يعود ثم يذهب كالسكير ، تارة يشعر بأنه يطير و أنه يرى النجوم ثم يغشى عليه ، و تارة أخرى يشعر أنه يرى امرأة واقفةً أمام موقد مشتعل بالنار و تنظر إليه بعينان فضيتان بل ربما بيضاءتان بلون اللؤلؤ اختلط لونها بظل الموقد فأصبحت حمراء ثم فجأة يغشى عليه مرة أخرى ، لقد كانت ليلة عصيبة و مرهقة !!
في الصباح التالي استيقظ الشاب ليجد نفسه في غرفة سقفها مرتفع حتى ما فتئت عيناه ترى نهايتها ، حاول النهوض رغم الألم الذي كان يشعر به في جميع أنحاء جسده لكنه قاوم ألم عظامه و برودة أطرافه و انقباض عضلاته حتى استطاع النهوض بمشقة كبيرة ، أخذ البطانيه التي وجدها على جسده حينما استيقظ و قام بلف نفسه بها و بدأ يسير على أطراف أصابعه في أرجاء القصر البارد بقدميه العاريتين و حينها قد رأى تحفة فنية خطفت أنفاسه ، رأى نقوشًا و زخرفات لم تقدر عيناه على تحملها فسقط على الأرض مذهولًا بينما عيناه تدوران في كل اتجاه محاولة اختطاف كل ما تقدر عليه من تفاصيل هذه اللوحة البديعة ، و لكن كل ذلك لم يكن شيئًا مقابل السقف اللؤلؤي الذي امتزجت به خيوط الشمس لتبدو كألماسة ضخمة تتراقص في قلب السماء ، ذلك لم يكن قصرًا بل عالمًا خارقًا للطبيعه !!
*****
كان أوساجي يسير جارًا قدميه قاصدًا قاعة الضيوف ، كان يعلم جيدًا ما ينتظره ، ضيوف أخرون مملون جاءوا ليتحدثوا مع والده في أمورٍ سياسية طوال الظهيرة و أحيانًا في أمور عديمة القيمة و في الحقيقة كان مقصدهم هو مشاهدة القصر عن قرب و محاولة اكتساب علاقة ودية مع رجل ذو نفوذ عظيم ، و لكن كان من عادة والده دومًا أن يتأخر عن ضيوفه و لذلك كان على أحد أبنائه أن يستقبل الضيوف و بالطبع يوريكو لم يكن من النوع الذي قد يتحمل مسؤولية أمر ما لذلك كان يدع أخيه أن يقوم به نيابة عنه ، كانت حجته دومًا أن أوساجي يجب عليه أن يتحمل المسؤولية قليلًا حتى ينضج
كان من عادة ضيوف والده أن يتناقشوا بهدوء ثم فجأة يتشاجرون لأن ذاك انتقد الزعيم الفلاني و ذاك قد سخر من سياسة بعض قادة الجيوش و ذاك هناك قد ألقى نكتة سخيفه عن جنود الحرب و لكن تلك كانت مشاجرات اعتياديه ، بل يمكنك حتى أن تسميها نقاشًا لطيفًا !!
لقد كانت تلك النقاشات اللطيفة تثير أعصاب أوساجي الذي كان يفضل الجلوس في غرفته بهدوء و سكينة بعيدًا عن ضجة العالم و لكن مع ذلك كان بإمكانه التحكم في انفعالاته و تقديم ترحيب حار للضيوف مع ابتسامة مهذبة مرحبة يظنها الضيف حقيقية !!
وصل أخيرًا إلى باب القاعة ، أخذ نفسًا عميقًا و كأنه على وشك الدخول إلى ساحة حرب ، أمسك بمقبض الباب الضخم ثم قام بسحبه بكل هدوء ليشعر بأشعة الشمس تتدفق بهدوء نحو أطراف أصابع قدمه حتى وصلت لوجهه ، و دون أن ينظر لداخل الغرفه ألقى التحية بكل احترام و وقار ، و حالما رفع نظره عن الأرض ليرى ضيوف والده صعق
هؤلاء لم يكونوا الضيوف الاعتيادين بل أشخاصًا أخرين تمامًا ، لم تستطع عيناه أن تخبئ تلك الدهشه بل لقد فضحته تمامًا
"هههه ... يبدوا أنك اتفاجئت لرؤيتنا أيها الشاب الصغير" قال الرجل الغريب ذو البنية الضخمة ممازحًا
"أ .. أنا فقط لم أتوقع قدوم ضيوفًا جددًا إلى قصرنا ، اعذروني لمثل هذا الفعل الفظ مني " قال أوساجي محاولًا أن يحسن من رد الفعل الذي أبداه منذ قليل
ثم بدأ ينظر للضيوف ليتفحصهم و حينها أدرك أن الضيوف لم يكونوا سوى رجل كبير ضخم الجثة يرتدي ثيابًا أنيقة فبدا أنه من مكانة مرموقة و لكن أيضًا من مدينة أخرى نظرًا لتصميم الملابس غير الاعتيادي ، و بجواره جلست فتاة شابة تغطي رأسها بقطعة قماش شبه شفافة ذهبية بالكاد تظهر وجهها
و لكن لحظة .... فتاة !!!! و كان من غير الاعتيادي أن تُرَى فتاة في هذه القاعه ، كان هذا شيئًا آخر جعله يصاب بدهشة تفوق دهشته الأولى
" أنا هو سوزوكي يوريتشي ، أنا هو الرجل الذي سيكون شريك والدك في صفقته الجديدة ، و هذه ابنتي " قال الضيف بابتسامة عريضة تملؤ محياه مشيرًا نحو الفتاة التي لم تكلف نفسها عناء الالتفات نحوه
" مرحبًا بك سيدي و بالسيدة الشابة ، أنا هاجيوارا أوساجي ، أنا الابن الثالث و الأصغر لعائلتنا ، تشرفت بلقائك سيدي ، أرجوا أن رحلتك إلى هنا لم تكن شاقة " قال أوساجي بنبرة هادئة رزينة محاولًا طمس فضوله لحين آخر ، لكن مع ذلك لم يستطع كبت فضوله الشديد من استراق النظر للفتاة الشابة ، هي لم تتحدث و لم تصدر صوتًا منذ قدومه لذلك فضوله قد بدأ يسيطر عليه أكثر فأكثر
بدت تفاصيل وجهها ناعمه و ساكنة ، وجهٌ قد غطت وجنتاها الورديتان بياضه الصافي الهادئ و كانت عينان بلون خيوط الشمس حين تغيب في يوم خريفي دافئ تحيطهما رموش بنية كثيفة و تمركز في منتصف هذا الوجه أنف صغير لطيف ناعم ، و كانت قد أسدلت على طرفي وجنتيها بعض الخصل البنيه الحريريه ، لم يكن بإمكان الناظر لها سوى الشعور بنسمات خريفية دافئة تحيط بها من كل اتجاه و رغم كونهم في الصيف إلا أنها تبدو كمن تقف تختبئ تحت شجرة تساقطت منها أوراق الخريف البنية ، وجه كهذا قد يدفع رجلٌ من أجله حياته ثمنًا له ، شعر أوساجي بدقات قوية في قلبه و بدا و كأن حرارة الشمس قد انتقلت من الجو إلى صدره .
"أ..أتريد بعض الشاي سيدي ريثما يأتي السيد هاجيوارا ؟؟ نحن نملك هنا شايًا فاخرًا ، نحضره من أعمق نقطة في هذه الغابة " قال و قد أشار بإصبعه للغابة المجاورة لقصرهم
" من المؤكد أنه سيعجبك " قال أوساجي بتوتر مفاجئ حينما شعر أن السيد يوريتشي قد انتبه لنظراته المتسرقة لابنته
"آآهه لقد كنت أسمع دومًا عن شايكم الرائع ذاك ، من المؤكد أنني أريد أن أحتسي بعضًا منه " قال و لا تزال الابتسامة على محياه لم يبدلها
بعدما سمع أوساجي رده فر من مكانه و ذهب لينادي على الخادمة ، و حينما خطت قدماه إلى خارج القاعه تغيرت قسمات وجه السيد كليًا ، اختفت تلك الابتسامة الظريفة الصبورة و تحولت إلى الاشمئزاز و الاستحقار و بدا و كأنه وجه وحش غطته التجاعيد
" يبدو أن هاجيوارا لم يعلموا أبنائهم أي شيءٍ عن الأخلاق ، يالهم من حثاله ، يظنون أن امتالكهم لبعض المال سيجعلوننا ننحي لهم " قال السيد محتنقًا و مغتاظًا و قد تغيرت أيضًا نبرته لتصبح غليظة
بينما كان يتمتم بهذه الكلمات التفتت الفتاة إلى الحديقه التي تطل عليها القاعه ، استطاعت أن ترى بحيرة كبيرة شديدة البهاء تقف حولها الطيور المغردة لتنعكس صورهم عليها و من خلفهم بدت الغيوم و الشمس كما لو كانت لوحة فنية رسمت بفرشاة فنان مُحِب
و بجوار البحيرة لمحت فراشات برتقالية صغيرة تلتقط عبير الأزهار ، حينها اشتدت نظراتها لحديقة الزهور الذي غنجتنها و زينتها أصناف عديدة من الأزهار الحمراء و الأرجوانيه و الصفراء و البيضاء التي قد نسقت بإتقان شديد و حرفة ، كل زهرة رتبت بعناية لتبدو في أجمل مظهر و بدت قطرات الندى تلمع على أوراقها الرقيقة ، كانت الحديقة ممتدةً للخلف لذلك لم تستطع رؤية نهايته ، كل ما استطاعت رؤيته هو اللون الأزرق يكسي الأرض الممتدة أمام ناظريها ، و لكن عيناها توقفت للحظة عند الزهور البيضاء
"أتسائل متى سيكون بإمكاني أن أكسو هذة الورود البيضاء بالأحمر القاني " قالت الفتاة محاولة كتم ضحكاتها بطرف ثوبها ثم أبعدته لترتسم على محياها ابتسامة أزالت كل معاني الرقة و النعومة