عاد أوساجي و لحقته الخادمة بصينية مزخرفة رتبت عليها أكواب خزفية ثمينة لا تقدم إلا للضيوف ذوي الأهمية رسمت نُقِشت عليها أشكال ورود بألوان متناسقة

حينما دلف للقاعة وجد أن والده قد حضر و قد كان صوت ضحكاته عالية للغاية كما هو معهود ، انحنت الخادمة و قدمت الشاي للضيوف بهدوء ثم خرجت في صمت كما لو كانت دمية يتم تحريكها بالخيوط

جلس أوساجي بجوار والده و قد كانت دقات قلبه قد خفت قليلًا عن السابق و توقفت أصابعه عن الارتعاش

"لكن من المدهش أنكم قدمتم بهذة السرعة إلى هنا !! فمدينتكم بعيدة للغاية و قد ظننت أنكم لن تصلوا قبل أسبوع أو اثنين ههه" قال والده متعجبًا و هو يرتشف من كوب الشاي رشفات بسيطة مرتبة و كأنه يقوم بحسابها بدقة بالغة

"لقد وجدنا طريقًا مختصرًا إلى هنا ، و قد ساعدنا ذلك كثيرًا " قال السيد يوريتشي و قد احتسى رشفة من الشاي بعد أن التقط بعضًا من عبيره و قد شعر بعبيرها يدغدغ أنفه و قد بدأ يشق طريقه نحو دماغه ليبدأ بهدهدته كطفل رضيع في مهده

"اممم بالفعل إن مذاقه مميز بالفعل!!! " قال منبهرًا و قد انفرجت أساريره و اتسعت حدقتا عينه

ضحك السيد هاجيوارا مرة أخرى ، لقد كان رجلًا يحب الضحك كثيرًا و لربما كان ذلك سببًا لكثرة التجاعيد حول عينيه و بينما كان مستمرًا بالضحك التفت إلى الفتاة الساكنه بجوار أبيها

" يبدو أنك تملك ابنة جميلة و وديعة يا سيد يوريتشي ، من المؤكد أن الخطاب لا ينفكون يطرقون باب منزلكم " قال ممازحًا

اندهش أوساجي من كلمات والده ، و كان ينتظر بفضول قاتل رد السيد ، حتى أن حدقتا عينيه قد اتسعتا شوقًا لسماع الرد و بينما كان ينتظر الرد لمح بطرف عينه الفتاة و كانت تحدق فيه بتعبير غير مفهوم ، مجهول تمامًا لكنه كان بديعًا ، هنا شعر أنه قد تمت محاصرته بعينيها العسليتان ، و لكن ما أجملها من محاصرة!!

رد السيد بينما كان يرتشف رشفة أخرى من كوب الشاي " امم هذا صحيح ، تقدم لها الكثير من الرجال الممتازون لكن رغم ذلك هي لم ترض بأي منهم ، إما أن هذا قبيح أو أن هذا مجرد طماع محتال ، في الواقع لقد مللت من هذا الأمر حتى أنني قررت ألا أرهق نفسي بالتفكير في أمرها ، سأدعها تتخذ قرارها بنفسها فهي لم تعد طفلة ، بل لأكون صريحًا هي لم تكن طفلة في يوم من الأيام " كانت نبرته باردة و كلماته غامضة بشكل غريب

لم يستطع أوساجي الاستماع لهذة الكلمات ، ليس لأنه لا يريد بل لأنه لم يقدر ، لقد كان في عالم أخر ، عيناها قد جعلته يغرق في أفكاره و خياله حتى أنه نسي ما حوله و فاته الكثير من الحديث إن لم يكن أكمله ، إلا أنه استيقظ على نداء والده

" أوساجي ، فلتأخذ الآنسة الشابة في جولة لتريها حديقتنا ، من المؤكد أن فتاة تقدر الجمال مثلها ستستمتع في جولة كهذه بدلًا من الاستماع إلى حديث كبار السن " قال والده ضاحكًا مجددًا

*****

كانا يسيران لفترة طويلة صامتين ، لم يهمسا بكلمة حتى ، كانت هي تحمل مظلتها الصغيرة لتقيها من حرارة الشمس ، و هو يسير كجندي حرب لا يلتفت يسارًا و لا يمينًا و قد كان يشعر بأنفاسه المكتومة في صدره لا يقدر على الهمس بكلمة

رغم ذلك كان الطقس في ذلك اليوم دافئًا و الشمس الصافية تنشر أشعتها بالتساوي في جميع أركان الحديقة فبدا كل جزء من الحديقة جميلًا و بديعًا بطريقة مختلفة

العصافير تختال بأجنحتها في قلب السماء لتتغنى بجمال ريشها و رشاقتها ، و الأعشاب الصغيرة الخضراء تبرق و تلمع تحت قدميهما برقة و ظرافة تدغدغها قطرات الندى الصباحية ، و خرير الماء يعزف أنشودة دافئة تتناسب مع جمال تلك اللوحة الفينانة مرتطمًا بحجيرات صغيرة نبتت فوقها بعض الأعشاب اليانعة

و بينما كانت تسير الفتاة بجوار بستان الزهور الممتد مرت على أنواع عديدة من الزهور المشرقة التي تجبر الناظر أن يكون أسيرها و يود لو بإمكانه النوم بينها ليستنشق عبيرها مع كل ذرة هواء تدخل إلى رئتيه ليبقى محتفظًا بذلك الشعور الأثير ، و حينما شاهدت الأزهار الحمراء توقفت عن الحركة بهدوء دون أن تصدر صوتًا ، كان أوساجي قد سبقها بخطوتين حينما لاحظ توقفها المفاجئ ، التفت نحوها فوجد نظرها مشدودًا إلى الأزهار الحمراء

" أتعتقد أن بإمكاننا أن نرى البشر كالزهور ؟ " كانت تلك أول جملة قد نطقت بها منذ قدومها ، كما كان يتوقع كان صوتها ناعمًا و لكنه يحمل في طياته الرزانة

"ماذا تقصدين؟"

أخذت نفسًا عميقًا ثم أردفت قائلة " ألا تشعر أحيانًا حينما تنظر للبعض أن هناك هالة تحيط بهم ، البعض يملك هالة صفراء و البعض الآخر بيضاء ، و لكن الأحمر ... " قالت قاطبة جبينها الرقيق بعصبية

" ماذا به الأحمر ؟" رد متسائلًا و قد اتخذ خطوتين باتجاهها

" إنه يذكرني بامرأة ، امرأة لو رأيتها لودتت أن تنحر عنقها و أن تمزقها بيديك ، لا يمكنني حتى وصف بشاعتها " قالت و قد أحكمت قبضتها على مظلتها و ارتسمت على قسماتها تعابير محتنقة مغتاظة

بينما كانت تقول هذة الكلمات شعر أوساجي بالغرابة الشديد ، كان من الغريب في نظره أن يتلفظ هذا الوجه البريء بمثل هذه الألفاظ الشنيعة

حينما لم تتلق ردًا منه التفتت إليه و قد اختفى الغضب عن محياها قائلة " أتعلم حينما أنظر إليك أرى حولك هالة زرقاء ، إن الأزرق حقًا لون غريب ، لا يمكنك أن تعلم إن كان يعني الرزق أم الجمال أم الاكتئاب أم البغض ، إن هذه للمرة الأولى التي أرى بها هالةً غريبة كهالتك " عم صمت غريب لثلاث ثوانٍ و لم تتزحزح عيناها عنه أتتأمله؟ أم تتفحصه ؟ لم تعلم و في المقابل نالت كلماتها من تفكيره و لم ينتبه لعينيها المحدقتين فيه و ظل عقله شاردًا دون أن يدرك

لكنها عادت لتقطع الصمت من جديد قائلة " سوزوكي ميساكي ، هذا هو اسمي " ما إن انتهت من لفظ اسمها حتى التفتت لتسير نحو قاعة الضيوف وحدها بينما ظل هو واقفًا منبهرًا و ظلت عيناه تراقبانها و هي تسير إلى القاعة و الفراشات تتخذ من مظلتها مضجعًا لها من رقة خطواتها

"ميساكي ، اسمها هو ميساكي " كان اسمها ينطلق من شفتيه بينما قلبه قد عاد للخفقان بسرعة أشد حتى شعر أن حرارة قلبه قد صعدت إلى وجهه حتى اصطبغ باللون الأحمر

****

حل الغروب و قد كان على الأب و ابنته أن يذهبا للفندق كي ينالا قسطًا من الراحة ، ودعهما السيد هاجيوارا و أوساجي ، ألقيا التحية ثم ركبا العربة مغادرين

حالما غادرت العربة ، انطلق أوساجي إلى غرفته مسرعًا

لم يتناول طعام العشاء و لم يغادر غرفته تلك الليلة ، بينما قد غادر والده لمركز المدينه ليقضي الليلة مع بعض أصدقائه

حينما حل موعد النوم ، عم السكون أرجاء المنزل فقد حخلد الجميع للنوم بينما بقيَ أوساجي يتقلب في سريره يمينًا و يسارًا يفكر في الآنسة التي قابلها صباحًا

"ميساكي " ظل يتمتم باسمها طوال الليل ، بقيَ وجهها محفورًا في عقله طوال الليل ، و حينها خطرت في باله فكرة ، قفز عن السرير و راح يبحث في صندوق كبير مبعثرًا كل ما فيه حتى أخرج منه ورقة اختارها بعناية و بعض الأقلام

جلس عند مكتبه الذي كان بجوار باب غرفته و وضع الورقة و الأقلام ثم شمر عن ساعديه فظهر ذراعه الذي لم يكن نحيلًا كما كان يبدو و بدأ بصبغ الورقة بالحبر الأسود و الحماس يملؤ عينيه

*****

حل الصباح و لم يكن قد نام بعد و لكنه قد انتهى من مهمته التي استهلها في الليل و قد علق الورقة على الحائط حتى تجف ، و بمجرد أن سمع حفيف رداء على الأرض هب من غرفته منطلقًا نحو الباب ظنًا منه أنه أباه ، فتح الباب بقوة و نادى بصوت مبتهج " والدي!!!!"

لكنه قد صعق و اختفت البهجة عن قسماته و بدلًا عنها ارتسم تعبير غريب جمع بين البغض و الخوف حينما لم يجد والده لكنه في المقابل وجد أخيه يوريكو

2024/02/01 · 38 مشاهدة · 1250 كلمة
نادي الروايات - 2025