مرت ثلاثة أشهر على زفاف يوريكو و ميساكي و قد أصبحت ميساكي بالفعل حاملًا في شهرها الثاني
" أوههه يا إلهي ! لا أصدق حقًا أنني سأصير جدًا ، عليَ أن أشتري الكثير من الملابس و الألعاب للطفل ... لا لا لن أحضر ألعابًا بل سيوفًا خشبية ، أريده أن يصبح سيافًا كوالده " قال والد يوريكو و قد اتشح وجهه بالحماسة الشديدة بينما كانت طاولة الطعام ممتدة أمامه بكافة أصناف الطعام احتفالًا بميساكي و حملها ، فكانت الألوان تغطي كل زاوية من زوايا الطاولة و بالكاد كان يمكن لأحد وضع يده عليها لشدة ازدحامها
"أبي !! ميسا لا تزال في شهرها الثاني ، لا تتحمس هكذا كثيرًا لا يزال أمامها وقت طويل " رد يوريكو متجهمًا و هو يطالع أبيه الذي بدأ يتصرف كالطفل بمجرد أن علم بالخبر
" هاي يوري لا تكن لئيمًا ، دع والدك يستمتع " قالت ميساكي برقة و قد أمسكت يد زوجها و ابتسمت له برفق و قد كانت ابتسامتها اللطيفة كفيلة بإسكاته ، فعاد لتناول الطعام بصمت مستمعًا لحديث والده عن الألعاب مرة أخرى
حوار كهذا يحضره أوساجي كل يوم مجبرًا على الغداء ، فيتملكه فقط شعور بكونه لم يعد ينتمي لهذا العالم المحدود و أصبح يتمنى الفرار في كل لحظة
لكن أين عساه يذهب ؟!! فأصبحت الغربة هي الشعور الوحيد المسيطر عليه في كل لحظة ، لم ينسَ و لو للحظة خيانة أخيه ، لكنه كان مضطرًا للتناسي حتى يستطيع أن العيش فهو حله الوحيد ، ربما لم يكن حلًا أكثر من كونه قيد ملتف حول عنقه يمنعه حتى من التنفس ... لكن لا خيار آخر
بينما كان غارقًا في أفكاره استيقظ على صوت ميساكي تناديه بلطف ممازحة " أو-تشان إلى أين رحلت ؟؟"
شعر بدهشة أنها تناديه هو ، و اقشعر بدنه لثانية ظنًا منه أنه أخطأ لكنها كانت تنظر إليه و إذًا فقد كانت تناديه حقًا !!! و أيضًا
أو-تشان
تلكأ في الرد ثم قال بصوت منخفض مقلبًا عودي الطعام بين أصابعه النحيلة بتوتر " آهه لا شيء إنني منصت ، لكن ذهني قد غاب للحظة "
حاول أن يجيبها مبتسمًا لكنه توقف عن المحاولة حينما لاحظ نظرات أخيه البغيضة نحوه فعاد ليتناول طعامه في هدوء خافضًا رأسه باستسلام
لكن ميساكي عادت تحدثه بابتسامتها البريئة قائلة
" نحن نفكر في اسم للطفل ، أنا أعلم أنه من المبكر التفكير في أمر كهذا لكنه مسلٍ في الواقع ، ألديك أية أفكار ؟"
كانت نظراتها رهيفة نحوه كفيلة بجعل أفكاره تتشوش و عيناه تضطربان و تتقلبان يمينًا و يسارًا و لوهلة بدا و كأنه نسي كيف يتحدث ، و حينما أوشك على النطق ببعض الكلمات محاولًا الإجابة كان يوريكو قد قاطع الحديث قائلًا " أعتقد أن
كين
لم يتحمل أوساجي ذلك الضغط الذي كان يحيط به فانقطع عن تناول الطعام و استأذن بالخروج مسرعًا دون أن يلتفت لأي من الحاضرين
نتيجة لمثل تلك المواقف كان أوساجي يقضي أيامًا طويلة بدون غذاء حتى أصبح جسده ضعيفًا و وجهه شاحب خالٍ من الحياة ، حتى غرفته أصبحت مجلس كوابيس و ذكريات قاسية فأصبح مسكنه الوحيد هو الغابة ، مكان هادئ بعيد عن ضجة البشر و خبثهم ، مكان حيث لا تجد سوى الأشجار العليله و يمكنك أن تنام في سكون دون الخوف من ظهور الأشباح و الكوابيس ، كان يجد في الغابة ضالته و سكينته بين الشمس و الأوراق الخضراء اليانعة ، و العصافير الصغيرة المزقزقة ذات الألوان الزاهية تعزف له كل صباح سيمفونية شاعرية فكانت كفيلة بجعله يشعر بجمال تلك الحياة البسيطة الهادئة ، و لم تشكل الحيوانات معضلة له فقد كان يراهم كائنات حرة حيوية و نشيطة تستمتع بلحظاتها فكانوا كلوحات حية تتحرك و تقفز و تأكل و تمرح أمامه مختالة بحريتها و نعيمها الذي كان يفتقر إليه
كل تلك المشاهد كانت مصدر إلهام للرسم ، فقد كان عاشقًا للرسم لكونه الشيء الوحيد الذي لا يرغمه على فعل أو قول معين ، فالرسم كان له كالباب المفتوح على مصرعيه في كل وقت و حين ،و به يمكنك أن تختزن جلّ مشاعرك و أفكارك ، ليست فقط البهيجة منها و لكن الأليمة أيضًا، فتكوينها ليس هو المهم في حد ذاته فهي في النهاية توضع في المخزن لتبقى ذكرى مرسومة لتشهد على لحظاته و لتبقى مجاورة لقلبه في كل حين ، و يمكن للرسم أيضًا أن يكون بحرًا للأحلام حيث تغرق فيه مستمعًا بجمال تلك العوالم الخيالية التي تداعب فكرك دون اكتراث لتلك القيود التي تقيض عنقك ، فلا أهمية لتلك القيود طالما أن روحك حرة
*****
حينما اقتربت الشمس من المغيب عاد من الغابة حاملًا تحت ذراعه رسوماته التي زينتها بعض الألوان على غير المعتاد منه ، كان البيت حينها مشتعلًا بالنشاط يضج فيه صخب الحياة على غير المعهود، كان هذا أمرًا غريبًا ، ففي العادة لم تكن الخادمات بهذا النشاط و الطاقة
و بينما كان يحاول أن يفهم سبب ما يحدث ظهرت ميساكي فجأة أمامه ، فتفاجئ من رؤيتها فأبدى تعبيرًا طفوليًا للغاية و كأنها شعلة انفجرت في وجهه فجأة ، فضحكت بشدة على تعبيره الطفولي ذاك
" يبدو أنك حقًا شخص خجول!! لكنني قد أصبحت فردًا منكم شئت أم أبيت ،و لا يجب عليك أن تبقى خجولًا هكذا في وجودي " قالت و قد كانت تحاول كتم ضحكاتها الخفيفة بطرف كمها الذي زُيّن برسومات الزهور الليكية
" أنا .. أنا آسف " قال مطأطئ الرأس مبعدًا نظره نحو الساحة اللؤلؤية من خلفها
نظرت له بشفقة و قد اختفت الضحكات عن محياها الحسن و بدأت تتسائل " أو-تشان ما الذي يجعلك كئيبًا هكذا دومًا ؟ و أيضًا لمَ تبدو شاحب الوجه هكذا ؟ ألأنك لا تأكل ؟؟ فعلى الرغم من جعلي الخادمات يرسلن إليك الطعام إلا أنك لا تأكل ، فلمَ إذًا ؟! إن كانت لديك مشكلة ما فيمكنك أن تخبرني بها و أثقُ أن بإمكاني مساعدتك ، و أنا بمثابة أختك الكبيرة فلا تخجل من قول شيء " قالت ممسكةً بيديه الخشنتان اللتان قد اتسختا بالحبر و غطتهما بعض الضمادات البيضاء لكن مع ذلك كان بإمكانه الشعور بيديها الناعمتين تقبضان بلطف على يده
حاول أن يبعد نظره عن وجهها لكنه لم يستطع ، شعر بدناءة نفسه لأنها لا تزال تشغل باله حتى هذه اللحظة ، بل لقد كان الأمر يزداد في كل مرة يراها ، و ربما يكون هذا هو السبب الحقيقي الذي جعله ينعزل في الغابة .. ربما كان هذا هو السبب الذي حاول إخفاءه عن نفسه لكنه فشل في النهاية
حاول أن يبتعد عنها لكن كان هناك شيء يجذبه نحوها ،أربما هما عيناها اللتان تضجان بالرقة و الشجاعة التي لم يرَ سابقةً لهما ؟! أم ربما هو لطفها الذي كان يفتقر إليه في وقت حاجته ؟!
تمنى لو بإمكانه فقط اختطافها بعيدًا عن هذا العالم القذر ، أن يضعها في صندوق صغير كي لا تتسخ أو تتأذى ، فلا أحد في هذا العالم يستحقها فهي أرقى و أسمى من أي إنسان آخر ، حتى هو لم يكن يستحقها ، تداخلت الأفكار بطريقة مرعبة على عقله ، فلم يعد يعلم أي شيء و لم يعد بإمكانه التفكير أكثر لذلك شعر بأن عليه أن يتوقف لهذا الحد ، عليه أن يبتعد للأبد كي لا يؤذي هذه الفتاة البريئة
"كل ما في الأمر أنني أشعر بإرهاق شديد و أحتاج للراحة ، لا شيء لتقلقي بشأنه " حاول أن يتصنع ابتسامة كي لا يشعر بذنب إثقال كاهلها بتصرفاته الغريبة ، ثم أبعد يداها برفق رغم تمنيه لو بإمكانهما أن تبقيا هكذا لفترة أطول ، ثم أسرع محاولًا تغيير الحديث قائلًا بابتسامة متكلفة
"أنت حامل الآن و تحتاجين للراحه ، ربما عليكي البقاء في غرفتك حتى لا يتأذى طفلك "
لكن سوء حظه قد جعل يوريكو يراه بابتسامته المتكلفه تلك فبدت في عينيه ابتسامة شيطان، فتقدم نحوهما بشعلة لهب تشتعل في عينيه و قد أيقن بأنها اللحظة التي يجب أن يتخلص فيها من ذلك الوغد
"لا يتأذى الطفل !" قال ساخرًا " من تظن نفسك لتأمرها يا هذا ؟! بل من سمح لك أن تتجرأ و تحدثها ؟؟! هيا أجبني " صرخ في وجهه و قد اشتعل غيظًا و حنقًا حتى احمر وجهه بشدة
"أنا لم أعني شيئًا بقولي هذا و إنما كنت أخشى أن يصيبها مكروه من أعمال المنزل الثقيلة"
رد أوساجي و لكنه لم ينظر في وجه أخيه بل اكتفى بأن نظر للبحيرة المتلألئة بأناقة في مركز القصر ، و لكن صراخ يوريكو قد جعل الخادمات يلتفتن نحوهم تاركين ما يشغل أيديهن متسألات عما يحدث
قبض يوريكو على ياقة أوساجي و صرخ في وجهه قائلًا " من تظن نفسك لتخشى عليها أيها الوضيع، أنسيت مكانتك أم أنك تتناسى؟؟ "
عض أوساجي على شفتيه حنقًا لأنه لم يعد يتحمل كل تلك الإهانات فقبض على يده بغضب حتى برزت عروقه و بقوة شديدة لم يعلم أحد من أين جائته لكم يوريكو في منتصف وجهه حتى انغرست قبضته في وجه يوريكو العريض ، لقد حملت اللكمة جميع مشاعره و آلالمه التي كانت مكبوتة في صدره لثلاثة أشهر ... لا بل لأكثر من ذلك
تلك اللكمة جعلت يوريكو يسقط أرضًا تاركًا ياقة أوساجي التي عادت لموضعها ، و بدلًا منها قبض يوريكو بيده على فمه الذي قد بدأ ينزف دمًا و تسبب في تلطخ ثيابه النظيفة، و تورم خده بشدة حتى ازّرق لونه ، و حينما أبعد يده عن فمه وجد بعضًا من أسنانه قد استقرت في كفه فبدأت عيناه تزيغان و أنفاسه بدأت تتلاحق بعنف محاولةً كبت دموعه في مقلتي عينيه بينما شفتاه ترتعشان بجزع
صرخت الخادمات مرتعدات بينما وقف أوساجي منتصب الرأس نافثًا بقوة حتى بدا كتفه ضخمًا عريضًا ككتف وحش ينفث الدخان من بين أسنانه
" لقد تحملتك كثيرًا طوال تلك السنوات ، جعلتني أكره نفسي و أحتقر ذاتي و في كل لحظة تمر كنت أتمنى لو أنني لم أولد لكنني اكتفيت و مللت ، لن أرتدي رداء الضحية بعد الآن ، و منذ اليوم سيدرك العالم من هو السيد الحقيقي " ثم أشار نحو يوريكو بعصبية قائلًا " تذكر كل كلمة أقولها جيدًا لأنني سأجعلك أول النادمين "
ثم رمقه باستحقار و قد كانت عيناه مشتعلتان كقمر قرمزي يشعل حلكة الليل ،ثم التفت مغادرًا القصر و الأنظار كلها مشدودة نحوه لكن هذه المرة لم تكن ككل مرة
كل ذلك حدث و ميساكي تقف في مكانها لم يغمض لها جفن ، حاول يوريكو أن يستنجد بها فلم تجب و بقيت متصلبة في مكانها فانطلق جمع من الخدمات لإغاثته و بدأن بحمله بمشقة، لقد كانت عيناها مصوبة نحو الباب الذي غادر منه أوساجي بشرود حتى أن الناظر لها سيرى انعكاس أوساجي لا يزال يلمع في عينيها اللتين بلون غروب الشمس
*****
بقيَ أوساجي في الغابة أسبوعًا كاملًا ، كان ذلك الأسبوع مريحًا و هادئًا فقد تخلص من ذلك الضغط الذي كان يزعجه بتلك اللكمه التي وجهها ليوريكو ، و بدأت السكينة تعود لروحه
كان لهدوء الغابة أيضًا أثر في تهدئة أعصابه ، لم يكن ينوي أن يعود للقصر بأي حال من الأحوال و أراد فقط أن يكمل ما تبقى من حياته في الغابة لكنه لم يكن يملك ما يساعده على البقاء ، لا ملابس لا طعام لا أي شيء ؛ لذلك قرر أن يتسلل خفية إلى غرفته و يأخذ كل حاجياته دون أن يعلم أحد
و بالفعل بدأ بالتحرك مساءً و قد بدا القصر لامعًا متأنقًا للغاية في الليل و كأنه بحر تطفو على صفحته اللآلئ البِيض البراقة ، لم يكن هناك ما ينقص هذا البهاء سوى حورية بحر مزعفرة الوجنتين لتكتمل اللوحة البحرية
حدق فيه للحظات ثم أخذ نفسًا عميقًا ثم انطلق نحو نافذة غرفته ، استطاع أن يدخل منها بسهولة لأنه عادة ما ينساها مفتوحة ، قفز للداخل بهدوء و رشاقة دون إحداث أي جلبة
بدأ يتفحص خزانة ملابسه المزينة بنقوش أصيلة فاخرة تمتاز بها عائلة هاجيوارا التي اشتهرت برونقها الخاص الذي لا مثيل له ، فلن تجد أحدًا قادرًا على تقليد تلك النقوش مهما كان بارعًا فكما يقولون إنه قصر من عالم آخر!!
رغم بحثه بدقة لم يجد أي شيء في الخزانة لا ملابسه و لا غيرها ، ظن أنه قد وضع ملابسه في مكان آخر دون أن ينتبه لكن بحثه باء بالفشل مرة أخرى
" يبدو أن ذلك الوغد قد تخلص منهم ، لكن ماذا عن المال ؟"
بينما كان يحدث نفسه سمع صوت صراخ عالٍ ، لم يكن بالصراخ الطبيعي بل بصراخ امرأة تستنجد بأحد ما ليغيثها ، و اختلط به صوت تمزيق و خربشات و تأوهات مرتعبة تطلب النجدة ثم امتزجت بها أصوات البكاء اليائسة ، و تبعتها أصوات أخرى ، بدت و كأنها أصوات حشرجة و دبدبات قوية في الأرض تقاوم الألم
" أنقذونا " صدر صوت نسائي فبدا و كأن أحدًا ما يسحب روحها من بين فكيها، ما كادت تلك الكلمات تصدر حتى سُمِع صوت شهقات و دبدبات مجلجلة لتعلن في النهاية عن صمت مرعب
ظل أوساجي متصلبًا في مكانه مرتعبًا مما يسمعه لكنه لم يقرر أن يقف في مكانه بلا حركة ، استل سيفه من غمده و اقترب من الباب بهدوء على أطراف أصابعه دون إصدار أي همسة ، تحسس الباب برفق بأصابعه المضمدة و حينما هم بفتحه شعر بسائل دافئ يلامس جوربه ، نظر للأسفل متمنيًا ألا يكون ظنه صحيحًا ، لكنه كان صحيحًا ، كانت تلك دماء قرمزية بدت سوداءً قاتمةً تحت ضوء الشموع الخافت
فتح الباب بسرعة ثم خرج من الغرفة مسرعًا ليجد أمامه جثة خادمة قد مُزِقَ عنقها تمزقًا بشعًا حتى التْوَت رقبتها لتوازي كتفها المترخي و نصف عنقها قد انفصل عن جسدها لتسيل من خلاله تدفقات دموية شكلت بركة قرمزية كبيرة تحيط بها ، و بعض أصابعها قد اقتُلِعَت و تناثرت حول جثتها
رفع نظره نحو الساحة ليجد أشلاء الخادمات تغطي الأرض فلم يعد بإمكانه تمييز الأرض من شدة اتشاحها بالقرمزي
ألقى بنظره متفحصًا الجزء الآخر من الساحة بينما يسير بصمت قابضًا على سيفه بعنف فتجلت أمام عينيه البحيرة المتلألئة التي لم تعد كذلك ، فقد كانت أنصاف الجثث بارزة على سطحها و لم يكن بإمكانه تحديد عدد تلك الجثث الملقاة في البحيرة لشدة سوادها، و على الجانب الآخر على ضفاف البحيرة كانت الجثث لا تزال تترامى من الطابق العلوي مصدرةً جلجلة في بركة الدماء حتى تناثرت الدماء إلى وجهه و ردائه بينما الجثة الجديدة قد احتلت موقعها بين الرؤوس و الأذرع الممزقة و الأخرى تنزلق ببطئ في البحيرة لتنضم لعدد الجثث الأخرى
كل هذه الجثث جعلت نبضات قلبه تتسارع أكثر فأكثر و قد ارتد للخلف و وجهه قد امتقع سوادًا ، تسللت إلى ذهنه الكثير من الأفكار السوداوية فركض مسرعًا قاصدًا غرفة أبيه قافزًا على درجات السلم بخفة
حينما وصل لغرفة أبيه تردد للحظة لكنه قرر أن التردد لن يفيده في شيء في مثل هذه اللحظة الحاسمة ففتح الباب ببطء ففوجئ بالمشهد الذي رآه ، كان والده جالسًا بوقار في منتصف الغرفة لكن ..... دون رأسه !!
شعر أوساجي بغصة في حلقه و انقباض في قلبه و بدأت عيناه ترتعشان في مقلتيهما ، و بينما كان يحاول أن يدخل الغرفه شعر بطيف قادم من خلفه فاقشعر بدنه ، لكن بسرعة بديهة استل سيفه بسرعة خاطفة و أصاب الطيف و تلون سيفه بسائل قرمزي يسيل بهدوء على سيفه ، لكن مع ذلك مر الطيف الأسود راكضًا من أمامه دون أن يأبه بالدماء التي سالت منه ، لم يكن بإمكان أوساجي رؤيته بسبب الظلمة الحالكة لكن كان بإمكانه الشعور بحركته
ظن أنه يتحرك نحو غرفة أخيه فحاول اللحاق به ، لكنه كان سريعًا للغاية رغم جرحه الذي كان من الغريب أنه لا ينزف دمًا و كأنه طيف حقيقي ، مع ذلك ظل أوساجي يركض خلفه علّه يتمكن من إمساكه ، لكنه فجأة انعطف عند زاوية الطرقة ، و حينما وصل أوساجي لتلك الطرقة لم يجد شيئًا ، لكنه سمع صوت نحيب امرأة ، كان الصوت قادمًا من غرفة أخيه ، كان لديه شعور سيء ، شيء ما بداخله حاول منعه من الذهاب
" لا تذهب ، لا تذهب !!"
" لا بل اذهب ، اذهب"
شعر باضطراب فظيع في عقله و ذلك جعله متصلبًا في مكانه لا يتحرك قيد أنملة ، لكن صوت المرأة كان يعلو أكثر فأكثر فقرر أن يواجه الأمر و يذهب
لم يكن بينه و بين الغرفة سوى خطوة واحده ، زفر زفرة قوية و أغمض عيناه ثم عاد ليفتحهما ببطء و هم بالدخول إلى الغرفة بهدوء و بطء فكان ما رآه مشهدًا مروعًا ، بل إن كلمة مروع تبدو لطيفة مقارنة بما رآه في ذلك الحين
الدماء في كل أنحاء الغرفة ، بدت الغرفة و كأنها غرقت في الدماء حتى ما عاد بالإمكان تمييز أي شيء بها و كأن رسامًا قد سكب ألوانه يائسًا على لوحته التي أضحت بشعة الملامح ، و جثة قُطِعَت أطرافها و مزقت تمزيقًا بشعًا و قد ترامت الأطراف في كل زاوية من زوايا الغرفة فغطت الأشلاء البشرية الأرض
و في قلب الغرفة كانت هناك امرأة منهارة تغطيها الدماء تحمل بين يديها رأس شخص ما و تحتضنها، الدموع قد أزالت ملامحها و صراخها يدوي في كل أنحاء القصر الذي صمت في تلك اللحظة ليبقى نحيبها هو المسيطر الوحيد في تلك المجزرة البشرية بينما تقبض برأس الجثة بين صدرها و قد حنت ظهرها للأسفل و الشهقات العنيفة البائسة تملؤ فكيها حتى لامست رأسها الأرض فاتسخ وجهها بالدماء ، و الدموع لا تنفك تسيل من مقلتيها بحرقة و حلقها لا يتوقف عن النشيج و عيناها قد فقدتا لونهما من شدت الدموع التي أغرقت مقلتاها لتنهار على خديها الشاحبين
أدرك من الوهلة الأولى أن تلك المرأة كانت ميساكي و أن الجثة الممزقة كانت جثة أخيه فارتعشت أطرافه و سالت قطرات العرق الباردة على جبينه ، و حينما حاول التقدم للأمام شعر بشيء ذا ملمس طري و لزج أسفل أصابع قدمه ، شعر بأن أطرافه قد تجمدت لوهلة ، خفض رأسه للأسفل بفزع و قد شحبت عيناه و زاغتا ليجدها أحشاءً