في الصباح استيقظ العالم على الفاجعة المروعة ، فتلك المذبحة قد هزت أرجاء المدينة بأكملها ، عدد الضحايا فاق العشرين ضحية ، اتشح أهالي المدينة بالسواد حدادًا على الأرواح التي أُزهِقَت بلا أي ذنب مقترف ، و غرقت المدينة في الحزن لأيام طويلة مملوءة بالدموع و النحيب

حتى الحاسدين لعائلة هاجيوارا قد أشفقوا على حالهم

و قام أهالي المدينة بتشييع جنازة ضخمة سار فيها أكثر من مئتي شخص حاملين نعوش القتلى على أكتافهم و من خلفهم سارت النساء و دموعهن تغرق أجفانهن و منهن من سارت كالجثة لشدة الألم الذي ألّم بقلبها لفراق ابنتها أو أختها

و بينما هم يحملون النعوش إلى القبور طافت أمام أعينهم نعوش الجنود الذين انتزعتهم الحرب من بين أحضان أسرهم ، كان هذا المشهد يذكرهم بليالي الحرب حينما كانوا يحملون أشلاء الجنود إلى القبور ليرتقوا إلى مثواهم الأخير ، و هكذا يفعلون اليوم أيضًا

*****

قدِمَ بعض الضباط للقصر ليحققوا في أمر المذبحة و جاء معهم بعض الجنود ليمنعوا المتطفلين من الدخول عدا الشرطة الذين حاولوا بيأس البحث عن أي خيط يدلهم على هوية ذلك السفاح... لكن لا شيء ، القاتل لم يترك شعرة خلفه أو حتى أثر قدم

لم يكن أمامهم خيار سوى استجواب الناجيين من الحادثة ، لقد نُعِت هؤلاء بالمحظوظين فقد نجوا من تلك المجزرة بأعجوبة غريبة

حينما استجوبهم الضابط رد بعضهم بأنهم لم يستطيعوا رؤية وجه المجرم بل بالكاد رأوا ظله لسرعته الشديدة

لم يكن بإمكانهم معرفة إن كان قد مر من هنا أو هناك إلا حينما يرون الجثث تتكدس خلف بعضها البعض و قد كان ذلك سببًا في جعل بعضهم يصاب بالجنون من شدة الفزع ، بينما كانت رؤية الجثث تسبب للبعض منهم حالة من الإغماء أو التقيؤ المزرية

في النهاية لم تكن هناك إجابات تستحق الذكر ، كل ما كانوا يحصلون عليه كانت فقط مشاعر الخوف الهستيري و البكاء

*****

"آههه يا إلهي !! أيعقل أن يكون القاتل شبحًا حقًا " قال الضابط الشاب يائسًا

" ما الذي تقوله يا أهوج ؟! أتعتقد أن الأشباح موجودة حقًا ؟ و حتى لو كانت موجودة أتعتقد أنها ستستخدم سيفًا !! يالك من أحمق" قال النقيب مستديرًا بعصبية نحو الضابط ، ثم أردف قائلًا "من الذي عينك في هذه الوظيفة حتى!! " قال النقيب بنفاد صبر

"احم ، سيدي أنت من قمت بتعييني " رد الضابط مبتسمًا و هو يفرك شعره بحماقة

نظر له النقيب بطرف عينه و قد رفع أحد حاجبيه

" ذكرني أن أقوم بطردك بعدما ننتهي من هذة القضية"

في تلك الأثناء دخلت ميساكي غرفة الاستجواب التي كانت في الأصل غرفة استقبال الضيوف ، فالتفت إليها النقيب قائلًا بنوع من الاحترام

"صباح الخير يا سيدة هاجيوارا ، نرجوا أن يكون حالك قد تحسن ، و نأسف لإحضارك في هذا الوقت الحساس لكن كما تعلمين...."

لم تدعه ميساكي يكمل حديثه المنمق قائلة " سيدي النقيب أبإمكاننا أن نبدأ الإستجواب سريعًا لأنني أشعر بصداع حاد ؟" كان وجهها بالفعل شاحبًا للغاية و عيناها مصطبغتان بالأحمر و جفناها منتفخان و صوتها متحشرج و بالكاد يمكن سماعه

"آهه حسنًا ، أنا آسف ، إذًا أولًا أتملك عائلة هاجيوارا أي أعداء ؟ أشخاص مثلًا قد سمعتي عنهم من أحد أفراد العائلة ؟ "

" أنا هنا منذ ثلاثة أشهر فقط و لم ألحظ أو أسمع أي شيء ، لكن...." قالت و قد أدارت رأسها نحو الباب كمن تحاول التهرب من الإجابة

" لكن ماذا؟؟ رجاءً إن كنتِ تعلمين أي شيء مهما كان فلتقوليه ، أي تفصيلة صغيرة قد تحدث فرقًا كبيرًا " هب النقيب من مقعده بعصبية و قد شعر أخيرًا بأن هناك خيطًا سيدله على القاتل

" حتى لو قلت لك فأنت لن تقدم على القبض عليه" قالت بابتسامة يائسة و قد ازداد شحوبها

" سيدتي أقسم لك أنني سأتخذ في حقه أشد عقوبة يمكنك تصورها " بدأ النقيب يحمر وجهه حماسًا

" صدقني لن تتجرأ على رفع إصبع عليه "

"سيدتي يمكنني أن أقطع رأس هذا الضابط الآن أمامك برهانًا على صدق قسمي " رد النقيب بعصبية شديدة

صعق الضابط إزاء سماع مثل هذا القول من النقيب و ظل محدقًا في النقيب فاغرًا فاه

"سيدي ما الذي .. "

لم يعره النقيب اهتمامًا و أردف قائلًا بنفاد صبر

"إذًا سيدتي أيمكنك أن تطلعينا على ما تعلمينه؟"

أخيرًا أبعدت ميساكي عيناها عن الباب ثم حدقت في عيني النقيب الذي بدأ التوتر ينال منه شيئًا فشيئًا قائلة بصرامة " إنه الفرد الوحيد المتبقي من نسل عائلة هاجيوارا"

صعق النقيب و الضابط و تلكأ كلاهما في الحديث

" عذرًا سيدتي ، من تقصدين ؟" سأل النقيب و قد بدأ العرق البارد ينساب على جبينه فأخرج منديله و قام بمسح وجهه بيده المرتعشة

نظرت له ببرود قائلة " كما سمعت بالضبط ، أنا قد رأيت السيد هاجيوارا أوساجي يذبح أفراد القصر فردًا فردًا بسيفه "

حدق النقيب و الضابط في بعضهما البعض بشرود و قد أصابهم ذهول شديد ثم عادا للنظر في تلك السيدة ذات الوجه المتجهم التي أبدت اشمئزازًا واضحًا على قسماتها

لم ينطق النقيب بحرف واحد بعدما سمع شهادة ميساكي ، كانت شهادة مهمة و صادمة ، حاول النقيب أن يخرج أي كلمة من حلقه لكن عقله المشتت لم يساعده على استجماع الأحرف و خانه لسانه ، لكن على عكسه لم يصمت الضابط و سألها بتوجس

" عذرًا سيدتي لكننا لا يمكننا أن نقبض عليه من مجرد كلمات لسنا واثقين بعد من صحتها ، أضيفي لهذا أن الوقت كان ليلًا و الظلام كان حالكًا فلربما اختلط عليكي الأمر أو ما شابه " كان يحاول أن يجعلها تعدل عن شهادتها لكنها أسكتته مرة أخرى حينما أجابت بكل عصبية

" ألم أقل أنكم لن تصدقوني؟؟ لقد كنت أعلم هذا ، أنتم الشرطة تخشون النبلاء ، و حتى إن رأيتم نبيلًا يمسك خنجرًا و يقتل طفلًا أمام أعينكم فلن تحركوا ساكنًا ، لستم سوى حفنة من الجبناء " بعدما أنهت كلماتها الحادة هبت واقفة و الغضب يملؤها و همت بالخروج لكن صوت النقيب الذي بدأ يتمالك أعصابه أوقفها قائلًا

" سيدة هاجيوارا ألديك أي دليل يثبت صحة اعتقادك ؟"

التفتت إليهم قائلة " تريدون أن تأخذوا الأدلة لتدمروها صحيح؟"

صعق الضابط من ردها ذاك لأنه يعني وجود أدلة حقيقية بين يديها

رد عليها النقيب " إن أردت يمكنك الاحتفاظ بالأدلة لحين عرضها على القاضي" كانت أعصاب النقيب لا تزال تالفة لكنه حاول التماسك حتى لا يبدو واهنًا أمام تلك المرأة ذات الرأي الذي لا يتزعزع

" سيفه ملطخ بالدماء ، و أيضًا لقد تشاجر منذ أسبوع مع زوجي المتوفي و أقسمَ أنه سينتقم منه و سيجعله يعض أصابع الندم و في الواقع لا علم لي لمَ و لكن منذ ذلك الحين لم نره إلا في ليلة الحادثة ، و إن كنت لا تصدقني فيمكنك أن تسأل الخدم ، هذا بالطبع إن كانت شهادتي لا تكفيك" قالت كلماتها بحدة و اتزان دون أي تردد أو تلكؤ ثم خرجت دون أن تنتظر رد من النقيب و أغلقت الباب خلفها بقوة

بمجرد أن أُغلِق الباب شعر النقيب برعشة هزت أوصاله فوضع يده على وجهه و حاول أن يتنفس بهدوء

"سيدي أأنت بخير؟؟" سأله الضابط قلقًا

أبعد النقيب يده عن عينيه قائلًا " اذهب و نادي الخدم ، هيااا أسرع" نطق بكلماته الأخيرة بغضب شديد

*****

انتهي الاستجواب الثاني و بالفعل كل الخدم قد شهدوا بأنهم قد رأوا أوساجي يتوعد لأخيه بالإنتقام و أنه قد غادر القصر مباشرة بعدها و لم يروه ثانيةً إلا حينما وقعت المجزرة

طلب الضابط إحضار سيف أوساجي و بالفعل وجدوا عليه دمًا بدا أنه قد نسي تنظيفه

حينما استدعيَ أوساجي الذي كان يبدو عليه الشرود و الشحوب -كالعادة- أخبره الضابط بكل الأدلة التي جمعها ضده

صدم أوساجي إزاء ما سمعه و لم يستطع أن يصدق تلك الكلمات

" سيدي النقيب أنا بالفعل قد تشاجرت مع أخي لكنه كان شجارًا اعتياديًا لا يمكن أن يؤخذ ضدي ، و لم أكن أعني حقًا الإنتقام و لم أفكر في ذلك أبدًا ، مهما بلغت خلافاتنا فنحن إخوة في نهاية المطاف" عندما أدرك أوساجي الكلمات التي خرجت من فمه شعر بغبطة في قلبه ، تمنى لو أن كلماته كانت صادقة نابعة من قلبه، لكن الأوان قد فات على أي حال ، فالماضي لن يعود حتى و إن تمزقت حناجرنا صراخًا و ذبلت أعيننا بكاءً ، تلك هي الحقيقة التي لا يمكننا إنكارها

" سيدي في الواقع أنت تعلم أن آرائنا ليست ما نحكم بها هنا .. و جميع الأدلة تشير بأناملها ضدك ، إن كان لديك أي شاهد قد رآك في وقت مماثل لوقت الجريمة حينها يمكننا أن نعيد البحث " رد النقيب متأسفًا

" أنا كنت وحدي في الغابة طيلة الأسبوع " قالها و قد حنى رأسه بيأس ... لكنه في لحظة تذكر ميساكي و أشرقت عيناه " بل هناك!! "

ابتسم النقيب و الضابط و سألاه بصوت واحد " من؟؟"

قال بوجه مطمئن كمن وجد قارب نجاته " ميساكي"

حينما سمع النقيب و الضابط رد أوساجي شعرا بالضيق لأجله و لم يستطيعا النظر في عينيه و اكتفى النقيب بتقليب أوراقه

أكمل أوساجي دون أن ينتبه لتغير قسماتهما " لقد رأتني و أنا أدخل الغرفة حينما كانت جثة أخي بين أحضانها و قد كانت تبكي ، من المؤكد أنها رأت قاتل أخي لأنها كانت في ذات الغرفة "

لم ينبسا ببنت شفة

"عذرًا ، أهناك شيء ما ؟ هل أصيبت ميساكي بأي ضرر؟؟؟ " قال و قد بدت تظهر عليه علامات الجزع و انتفض جسده

" سيد أوساجي إن السيدة ميساكي هي من شهدت أنك قتلت أخاك و... " رد الضابط بصوت أجش لكنه كان صارمًا دون النظر في عيني أوساجي

شعر أوساجي بدوار شديد في رأسه ، كانت عيناه تدوران و أصبحت رؤيته ضبابية ، للمرة الثانية شعر بالخذلان من شخص يحبه ، و لكن هي لم تكن أي شخص ، كانت هي ملجأه من الكوابيس ، كانت رؤية وجهها اللطيف كفيلة بجعله ينسى كدره ، أبإمكان هذا الوجه البريء أن يكون هو نفسه سبب هلاكه !!!

" و الآن سيدي بما أنك لا تملك دليلًا يبرؤك فأنا مضطر لاصطحابك إلى الزنزانة المؤقتة حتى يرى القاضي الأوراق و يصدر حكمه "

هو لم يعد في هذا العالم ، عقله كان مضطربًا اضطرابًا شديدًا و تملكه صداع شديد ، لم يكن يسمع سوى طنين مزعج في أذنيه ، وضع يديه على أذنيه على أمل أن يتوقف الطنين لكنه كان يزداد و أصبحت رؤيته أشد اضطرابًا و أحس بسائل دافئ يتدفق من أذنيه ، و بدون وعي منه سقط عن الكرسي

هب الضابط ليساعده ، لكن عيناه لم تريا سوى صورة مشوشة لذراعه الممدد أمامه ثم أُغلِقَتا

*****

في المساء استيقظ أوساجي مفزوعًا و جسده غارق في العرق ، فرك شعره الملبد و قد شعر بألم شديد في رأسه و كأن رأسه قد ضُرِبَت بعصًا حديدية ، بدأ يستعيد ذكرياته فظن أن كل ما حدث كان كابوسًا ، أجل من المؤكد أنه كان كابوسًا شنيعًا

لكن حينما جال بعينيه فاحصًا ما حوله رأى قضبانًا حديدية غليظة و حائطًا ملأته الخربشات و الرسومات القبيحة غير المفهومة ، فأدرك حينها أنه لم يكن حلمًا

خفضَ رأسه ليرى يديه اللتين قد كُبِلتا قبل استيقاظه، ثم لاحظ أن ثيابه قد تم استبدالها ببنطال بدا مغبرًا قديمَ الطراز و قميص فضفاض بلا أكمام فأصبحت ذراعاه الشاحبتان مكشوفتين و قد تجلت أيضًا ثلاث شامات صغيرات عند أعلى كتفه فشعر بالضيق لعدم اعتياده على هذا النوع من الثياب ، فضم ساقاه إلى صدره دافنًا رأسه بين ذراعيه اللتين قد أحاطتا بساقيه

اختلطت مشاعره بشكل مزعج و ازداد اهتياجًا ، فكاد أن يضرب رأسه بالحائط متمنيًا أن يفيق من هذا الكابوس البشع ، لكنه فجأة سمع صوت باب يفتح ، يبدو من صوت خطواته أنه أحد حراس الزنزانة لكن من خلفه سُمِع صوت خطوات خفيفة

أدار رأسه نحوهما ليجد ميساكي واقفة أمام القضبان مشيرةً للحارس أن يرحل ، نقز من السرير نحوها بجنون

" ميساكي الحمدلله أنكِ أتيتي ، رجاءً أخبريهم أنني لم أفعل شيئًا ، لقد رأيتني صحيح؟؟ أنا لم أقتل أحد .. أقسم لك" قال متوسلًا و لمع في عينيه خيط من الأمل لكنها اكتفت بالتحديق فيه ببرود دون إبداء أي تعبير

" ميساكي لقد سمعتُ ما قاله الضابط لكنني لا أستطيع أن أصدق أيًا مما قاله ، من المؤكد أنكِ لم تحاولي إتهامي فأنتِ تعلمين أنني بريء ، أليس كذلك ؟ لمَ لا تجيبين ؟؟؟"

قال و قد كان الإنفعال مسيطرًا عليه ثم قبض بشدة على القضبان

" أوساجي " قالت بهدوء شديد بينما تنظر لكتفه ذو الشامات الثلاث

" ماذا؟؟" نطقها كمن ضاقت به الحياة و لم يعد قادرًا على تحمل المزيد من الخذلان ، أرادها فقط أن تقول 'لا' ، أن تريح قلبه من الشك الذي يأكله شيئًا فشيئًا كدودة تنهش لحم جثة متعفنة

" لقد قرر القاضي حكمه ، غدًا سيتم إعدامك "

نظر إليها مذهولًا فاغرًا فاه ، شعر أن حياته تنهار أمام عينيه ، تلك اللمعة التي كانت في عينيه اختفت للأبد و حل محلها الغم و الكدر ، شعر بأن عمره في تلك اللحظة تضاعف مئة مرة ، شعر بحمل ثقيل جعل كتفيه خائرين و لم تعد قدماه تحملانه لكنه تمسك بالقضبان ببأس رغم ارتعاش كفيه بحدة

بمجرد أن رأت تعابيره المفزوعة تلك سقطت في نوبة من الضحك الهستيري ، وضعت يدها على فمها محاولة أن توقف ضحكاتها لكنها لم تستطع بل على العكس ازدادت قهقهاتها حدة

" يا إلهي !!! لا أستطيع... عليك أن ترى وجهك " ثم غرقت في نوبة أخرى من الضحك " ليتني أملك مرآة ، أليس لديك مرآة في السجن " قالت ساخرة و هي تمسح الدموع من عينيها

"ميساكي !! لمَ ؟؟ كيف ؟؟ أنا فقط لا أفهم " ضرب يده بقضبان الزنزانة بغيظ و قد اشتعلت عيناه بالغضب

" لمَ ؟ أتعلم أن الطريقة الوحيدة لجعل ضحيتك تموت بطريقة شنيعة هي بجعلها تفكر و تفكر و تفكر حتى ينفجر عقلها من التفكير ؛ و لذلك سأدع عقلك يموت هكذا ببطء حتى الصباح التالي ، لكن كيف؟ هذا ما سأجيبك عليه "

أخرجت من داخل الأوبي خاصتها -و هو حزام عريض يلف حول الخصر- شيئًا مستطيلًا ملفوفًا بقماش أسود ، نظرت إليه بعينيها الحادتين اللتين بدتا له في تلك اللحظة أقبح ما رأى ، ثم ارتقت ابتسامة خبيثة على شفتيها فقامت بإزالة القماشة السوداء ليظهر ما بداخله ثم رفعته نحو وجه أوساجي

كان ذلك سكينًا عريضًا ملطخًا بالدماء بشدة حتى اكتسى باللون الأسود !!!

لم يستطع أن ينطق بكلمة من هول ما رآه ، اقشعر بدنه ثم بدل نظراته بين السكين و وجه ميساكي الذي ازداد إشراقًا و سعادة و ظهرت فيه نشوة مرعبة

" أوساجي أتدري ما هذا ؟.. نعم يا عزيزي إنه السكين الذي مزقت به أخاك... قطعةً قطعةً بيدي الفاتنتين هاتين ، لكن أليس دم أخيك قذرًا مثله؟؟ ألا تظن ذلك " قالت بينما تحدق بيدها ثم قبضت عليها و وضعتها على صدرها و قد ارتسمت على ثغرها ابتسامة شيطان

" أنتِ مجرد قذرة أخرى مثله تمامًا ... لا بل لقد فقته فسوقًا " قال و قد اصطكت أسنانه بعضها ببعض من الغضب و قد احتنق وجهه

ضحكت بهدوء ساخرة ثم أعادت السكين داخل الأوبي " أراهن أنك كنت سعيدًا عندما رأيته ممزقًا أمام عينيك ، أم ربما العكس يا ترى؟! أأنت غاضب لأنك لست من قام بقتله؟!! آه ياللمسكين!! و في النهاية سيتم إعدامك دون الأخذ بثأرك حتى أيها ال .... مسكين" قالت و قد كانت تحدق فيه بطرف عينها

" أنا ...." توتر و لم يستطع الرد لكنه جمع شتات نفسه قائلًا

"أنا كنت أكرهه لكني لم أفكر يومًا بقتله ، لا يجب على القوي أن يستغل قوته لإيذاء الضعفاء "رد مبعدًا نظره عنها و قد أفلت القضبان

" تفكيرك ذاك هو ما جعلك اليوم خلف القضبان ... و لعلمك لم تكن أنت القوي في هذه القصة بل كنت أنت الشرير " ثم زفرت زفرة خفيفة و التفتت لتخرج لكن قبل أن تخرج قالت له مبتسمة " وداعًا أو-تشان" ثم فتحت الباب و خرجت مغيرة تعابير وجهها الضاحكة إلى البرود

انهار ببطء على الأرض و بدأ يضرب الأرض بكفيه غضبًا و قد ملئ صراخه أرجاء الزنزانة حتى نزفتا

*****

حل يوم التالي و مع شروق شمس الصباح فتح العساكر الباب الخارجي للزنزانة و دخل بعض منهم ، سَمع أوساجي صوت المفاتيح تصطك في القفل ، كان بإمكانه الهروب لكنه لم يكن يقوى على الوقوف حتى

كانت ليلة الأمس قاسية عليه ، ظل عقله يتخبط هنا و هناك و حتى يتخلص من تفكيره الزائد قام بفرك رأسه بشدة و تلاها خربشات على يديه و عنقه أدت في النهاية إلى صراخ لانهائي طوال الليل حتى أُنهِكت قواه

فتح الحراس الزنزانه و دخل العساكر فحملوا أوساجي شبه الميت ثم قاموا بتغيير الأصفاد فقاموا بربط يديه خلف ظهره و ربطوا الأصفاد بكرة حديدية كي تكون حركته ثقيلة ، في النهاية وضعوا قماشة سوداء على عينيه التي لم يعد هناك فارق بينها و بين أعين الأموات

حينما انتهوا سحبوه خارج الزنزانه ، كانت قدماه حافيتان و ملابسه مهترئة ، شعر ببرودة الأرض تتخلل بين أصابع قدميه ثم إلى جسده عبر جروح قدميه مسببة رعشة قوية جعلته ينتفض بقوة ، قاموا بسحبه من ذراعيه عبر طرقات السجن الباردة و الصوت الوحيد الذي كان بإمكانه سماعه هو صوت أحذية العساكر الثقيلة

بعد عدة دقائق سمع صوت بوابة صدئة تتحرك و قد أصدرت صريرًا عاليًا و مزعجًا ، و حينما توقف الصرير شعر بحرارة تتدفق ببطء نحو وجنتيه فذابت البرودة التي كانت قد أصابته منذ قليل ، فقد كانت سخونة مهيبة و مرعبة حتى أن أصابعه خشيت التحرك خطوة واحدة نحوها و ارتد للخلف بساق مرتعشة ،لكن العساكر دفعوه حتى يتحرك ، حينها شعر بحبات رمل تلسع قدميه و من مكان منخفض سمع صوت صرخات و بكاء و اختلطت بها شتائم و لعنات

" أيها الحقير السافل "

"اللعنة عليك أيها القذر "

" ابنتي لم تقترف ذنبًا ، لمَ قتلتها لمَ ؟؟"

" انظروا للحقير يسير بكل برود "

برود ؟؟ أكانت حركته الخالية من الحياة في نظرهم برود ؟ كم يبدو هذا العالم متناقض و غريب ، بالأمس كانوا يشفقون على حاله و يرسلون له التعازي و اليوم يرمونه بكل أنواع السباب و الشتائم و يلعنونه

أوقفه العساكر فجأة ، أزالوا قطعة القماش عن عينيه ، اختلست بعض خيوط الشمس مسارها نحو عينيه الزرقائتين فبدت عيناه كلوحة رسمت بكل دقة لتحمل جمالًا عظيمًا جمع بين هدوء المحيط و قوة الشمس لكن مثل تلك اللوحات تُرسم ليتم طمسها في النهاية ، فذلك الجمال لا يدوم أبدًا و هو أيضًا غير محبب لدى الجماهير

جعلت تلك الأشعة رؤيته مغبشة بعض الشيء لكنها بدأت تتضح ببطء ، رأى أمام عينيه حشد من الناس المتجمهرين تحت ساحة الإعدام ، منهم من يبكون و يصرخون و أخرون يلعنون و يرمون الحجارة عليه ، على الرغم من ذلك لم تصبه سوى بعض الحصاة الصغيرة

تبع تلك الأصوات صوت طرقات عالية من خلفه ، كان القاضي يجلس خلف طاولة صغيرة و أمامه بعض الأوراق ، طلب العساكر من المدنيين أن يلتزموا الصمت حتى يتحدث القاضي

" اليوم نحن أمام جريمة بشعة نكراء ، مرتكبها تجرد من كل معاني الإنسانية ليرتكب مجزرة مخيفة في قصر هاجيوارا الذي عرف منذ سنوات بجماله ، لقد لطخ هذا المجرم ذلك الجمال بسفكه للدماء البريئة ، و اليوم نحن هنا لنعلن الحكم الذي يستحقه .... أولًا و نظرًا للقوانين واللوائح فإنه لا يسمح للحكومة أن تنفذ حكم الإعدام على أي نبيل "

تعالت صرخات و استنكارات الشعب لمثل هذا الحكم ، لكن القاضي عاد للطرق على طاولته ، ثم أردف قائلًا

" و لكن و لأننا أمام قضية شنيعة و بطلب أحد أفراد أسرته فنحن سنقوم بتنحية المدعو هاجيوارا أوساجي من رتبة النبلاء و إزالة لقبه كنبيل "

بعد سماع تلك الكلمات صرخ الشعب فرحًا و سعادةً و استمروا بإلقاء الحجارة على أوساجي فأصابته بعضها على وجهه مسببة كدمات زرقاء في أنحاء مختلفة من جسده ، لم تثر ردة فعلهم إندهاشه فهو يعلم أنهم لم يكونوا يحترمونه من الأساس و دومًا ما لقبوه بالحثالة

مجددًا طرق القاضي كي يصمت الشعب

" ثانيًا بما أن القاتل أصبح من عامة الناس فنحن نقر بالآتي ' الحكم بالإعدام على القاتل هاجيوارا أوساجي ' طبقًا لقانون الإمبراطورية و التي تنص على أن القاتل يجب أن يقتل دون عفوٍ أو صفحٍ من أي جهة عسكرية"

ثم طرق القاضي للمرة الأخيرة دلالة على انتهاء الحكم الشفهي ، تعالت صرخات الفرحة و اختلطت بها صرخات الحسرة من النساء الباكيات ، لكن كل ما لفت انتباه أوساجي هي الطريقة التي اختار بها القاضي كلماته ليبدو حقًا سفاحًا عديم الرحمة ، لقد أدرك في تلك اللحظة أن ذلك الشعب البسيط يتم التحكم في أفعالهم من خلال بعض الكلمات المنتقاة بعناية و بلاغة ، تسائل في نفسه إن كان هذا الجمع من الناس ليعفو عن جريمته التي لم يرتكبها إن كانت المطرقة بيده هو ؟!!

انطلق أحد العساكر ليزيل القماش عن مشنقة الإعدام ، كانت مخيفة و مهولة ، ضخمة للغاية ، الناظر لها يمكنه الشعور بدنو نفسه و ضعفها ، تتجمد الأطراف بمجرد النظر لها و تصبح الهلوسات هي الرفيق الوحيد لك في ذلك الموقف ، ليس الشنق هو ما يخافون منه بل الهلاوس أو لحظة انتظار الحبل حين يسحب ، ففي تلك اللحظات رعب و فزع أعظم بكثير من لحظة الإعدام نفسها

شعر أوساجي في هذة اللحظة أنه مجرد حشرة ضعيفة أمام مثل هذا الشيء المرعب ، ارتعدت أوصاله رغم معرفته بأنه كان سيموت لا محالة ، لكن رؤية الموت نصب عينيك هو الرعي الحقيقي ، لقد اعتاد في الحرب أن يكون الشخص الذي يمسك السيف و يقتل الخصوم لكنه و لأول مرة يصبح هو في موقف خصومه

سحبه العساكر سحبًا لأن قدماه كانتا قد تثبتتا في الأرض كالمسمار ، لكنهم سحبوه بقوة كبيرة و استطاعوا جلبه للمشنقة ، صعد الدرجات الثالثة المؤدية للحبل الملفوف ، و في كل خطوة يخطوها كان يشعر بشيء ما يلتف حول رقبته يحبس أنفاسه ثم يضغط على عنقه شيئًا فشيئًا مسببًا غثيانًا شديدًا ، شعر بالدوار و أحس بالدموع تكاد تنهمر على خديه من شدة الخوف

و أخيرًا وصل للدرجة الأخيرة حينها اشتم رائحة النهاية فانتفض بشدة و كادت الدموع تفلت من قبضته ، و حينما اقترب منه عسكري ليضع الحبل حول رقبته شعر فجأة بشيء ما بداخله يطلب منه النظر للجمع المتجمهر بالأسفل ، و بالفعل صوب نظراته للأسفل فرأى شخصًا يحدق فيه بابتسامة كبيرة ، كان يرتدي قبعة الخيزران فلم تظهر معالم وجهه كاملة لكن مع ذلك ابتسامته كانت منجلية و واضحة بين الجمهور ، يالها من ابتسامة مميزة يمكنها جذب شخص على وشك الموت !!

فجأة قام ذلك الشخص برفع سبابته للأعلى مرتين ، و بدون وعي منه نظر أوساجي للسماء و يالهول ما رآه !!

تنين أزرق ضخم يحلق في كبد السماء ، كيف لم يلحظ الناس مثل هذا الشيء الضخم في السماء ، عاد لينظر للجمهور لكنه لم يجد الرجل الغريب ، فعاد يحدق في السماء ففوجئ بالتنين يفتح فكيه على مصرعيهما و قد كان يهبط نحوه بسرعة !!!!!

و خلال ثانية واحدة كان بينه و بين التنين شعرة واحدة ، و رأى انعكاسه في أنياب التنين ناصعة البياض ، لكنه لم يكن خائفًا ، لقد كان يشعر براحة بالغة حتى أنه في تلك اللحظة نسي كل شيء ، نسي عائلته ، نسي ميساكي ، نسي الجمهور ، و نسي المشنقة التي كان يرتعد منها منذ وهلة!!!

و وسط الصرخات التي لا تتوقف كان كيانه بأكمله مع ذلك الفك الضخم الذي يحيط به ، لكنه فجأة وجد نفسه في ظلام حالك و قد اختفت الصرخات و اختفت المنشقة

2024/03/30 · 33 مشاهدة · 3675 كلمة
نادي الروايات - 2025