بعد تنفيذ حكم الإعدام تم أخذ الجثة و حرقها بواسطة أهالي المدينة الغاضبين دون أن يفكر أحد منهم بوضع ما تبقى من تلك الجثة المحروقة في قبر لائق كما كان يُفعَل دومًا مع أي جثة أخرى حتى و إن كانت جثة قاتل
في تلك الأثناء عادت ميساكي للقصر ، فتح الحراس لها البوابة فسارت في ممر القصر الذي اتشح بالأسود حتى مُحيَت أرضيته اللؤلؤية فلم يتم تنظيفه من الدماء بعد ، و كانت هي الوحيدة المتواجدة في القصر في ذلك الحين فكان الصمت يعم في كل زاوية من زوايا القصر بعدما كانت الحياة تدب فيه كل صباح
قصدت قاعة الضيوف ففتحتها ثم سارت صوب البستان ، لم تكن تقصد سوى مشتل الزهور البيضاء ، وقفت أمامه فوجدت الزهور البيضاء قد لُطِخَت جميعها بالدماء فارتسمت على شفتيها ابتسامة كبيرة لكن ابتسامتها لم تدم للحظات حينما أدارت رأسها ، فقد كانت هناك زهرة بيضاء لم تلوثها سوى قطرة دم واحدة ، شعرت بغيظ شديد يعلو قلبها فقطفت تلك الزهرة بعصبية ملقيةً إياها أرضًا و سحقتها بكعب حذائها بكل حنق و حقد يملؤ قلبها
*****
بدأت خيوط الضوء تنجلي في عينيه حتى تلاشى الظلام ، فرك أوساجي عينيه فرأى أمامه ممرًا ضخمًا ملأته السلالم الطويلة و قد أحاطت بطرفي السلالم أشجار كثيفة بدت أنها امتدادات لغابة أضخم في الخلف ، و كانت قد نبتت بعض الزهيرات البنفسجية على زوايا عتبات السلالم فبدت و كأنها تحيي زوارها برقة و لطافة فأعطت المشهد رونقًا بهيجًا منعشًا مع خيوط الشمس المنسدلة بدلال على وريقاتها الصغيرة
حينما حاول تحريك رأسه شعر بألم فظيع و كأن رأسه قد سُحِقت
" هل استيقظت أخيرًا ؟" سمع أوساجي شخصًا ينطق بهذه الكلمات بصوت هادئ و ثابت يدغدغ الأذن لنقائه
رفع أوساجي رأسه و استند على مرفقيه محاولًا الجلوس و هو يتأوه من الألم ، و بعد لحظات استطاع أخيرًا أن يتبين وجه المتحدث بصعوبة بسبب نظره المشوش
"أنت هو؟" قال متفاجئًا بمظهر الشخص الغريب و قد بدا و كأنه ليس بوعيه الكامل بعد
" أنت من أشرت بيديك للسماء حينها ، أليس كذلك ؟" أردف بينما رأسه لا تزال تدور و كأنه ثمل
صمت قليلًا حين تذكر ما حدث ثم عاد ليتحدث ثانيةً و قد بدت على وجهه أمارات التعجب و قد شعر بأن الألم قد أصبح أخف قليلًا" لكن من المفترض أنني ميت الآن ، ك.. كيف حدث هذا ؟ و أيضًا كيف ظهر مثل ذلك التنين الضخم في قلب السماء دون أن يلحظه أحد ؟ "
كان ينتظر إجابة من الشخص الغريب لكن ذلك الشخص الجالس على أول عتبات السلم قد اكتفى بالابتسام
كان يبدو شخصًا غريبًا لكن في ذات الوقت شخصٌ ذو هيبة لا يمكن لأحد تجاهلها ، خلع الشخص الغريب قبعة الخيزران عن رأسه فظهر وجهه كاملًا
كان شديد البياض ، ذو عينان عسليتان و شعرٌ فاحم السواد ، كان ذا قسمات وسيمة قوية لكنها رزينة ، و قد كان يرتدي ثوبًا أسودًا مع قليل من اللون الذهبي على الأطراف بدا أنه صُنِعَ ببراعة و دقة على يد خياط ماهر
ظل أوساجي يحدق فيه ببلاهة فهو لم يرى شخصًا بهذه الوسامة من قبل حتى أنه قد نسيَ جميع تساؤلاته متأملًا ذلك الوجه الذي لم يرَ مثيلًا له من قبل ، حسنًا لنضع تلك التساؤلات جانبًا الآن فمن الواجب على الإنسان إن رأى شيئًا جميلًا أن يتأمله قليلًا احترامًا و تقديرًا لذلك الجمال
" سأجيبك لكن ليس الآن فعليك أولًا أن تأكل شيئًا " رد الشخص الغريب ثم أشار للسلم قائلًا " لكن علينا أولًا أن نصعد هذا السلم ، حاول أن تصل قبل غروب الشمس حتى لا يبرد الطعام " ثم وقف برزانة توافق قسامته و بدأ بالصعود معيدًا القبعة على رأسه فظهر أنه طويل القامة عريض المنكبين فاستنتج أوساجي أنه ربما قد تخطى الثلاثين عامًا على الأقل
" لكن ألسنا في الصباح الباكر ؟" سأل أوساجي متعجبًا بينما يتأمل قامة ذلك السيد الطويلة
التفت له الغريب ضاحكًا " بالضبط " ثم أكمل سيره دون الالتفات لوجه أوساجي المتعجب
بعد دقيقتين و حينما شعر أوساجي أن باستطاعته الوقوف على قدميه وقف مستندًا على ركبته ، و حينما رفع رأسه ليرى نهاية السلم ظن أنه يراه ممتدًا إلى عين الشمس و شعر بغصة في حلقه
*****
غربت الشمس و حل المساء و بمشقة بالغة وصل أوساجي أخيرًا لنهاية تلك السلام الملعونة ، لكنه وصل زاحفًا على يديه فقدماه لم تعدا قادرتان على حمله ، كان جسده بالكامل يتعرق و قلبه ينبض بسرعة كبيرة فأمسى صدره يعلو و يهبط بسرعة بليغة و أنفاسه تتلاحق بصعوبة
حينما تطلع بعينيه الغائرتين إلى المكان الذي وصل إليه وجد قصرًا عظيمًا منتصبًا أمامه يخيم عليه اللون الأسود و بداخله بعض الإضاءة التي كست الطابق الأول بالحمرة الخفيفة ، و في الخارج تجلت عدة شمعدانات طويلة مضيئة تحيط بالقصر و بعض الشجيرات العملاقة تسيّج القصر
بدا الطابق الأول من القصر منيرًا ، و صدرت منه أصوات أطفال يضحكون ، حاول الوقوف لكن قواه قد خارت فارتمى مرة أخرى على السلم ساندًا رأسه على عتبته الأخيرة و بالكاد يمكن لعينيه أن تبقيا مفتوحتان
و لكن فجأة و من اللامكان ظهرت أمامه فتاة صغيرة نظرت إليه شاهقةً ثم صرخت بصوت حادٍ و هي تحدق فيه برعبٍ قائلة " أختي !!! لقد جاء الميت!!!!! "
"هااا؟؟" لم يصدمه صراخها بقدر ما صدمه وصفها له بالميت
فُتِحَ باب القصر و خرجت منه فجأة فتاة شابة تركض نحوه بجزع
بدت في بداية العشرينات من عمرها ، رشيقة القوام حافية القدمين ترتدي ثوبًا تقليديًا عليه بعض النقوشات البسيطة و قد ربطت كمي ثوبها للأعلى كما تفعل الكثير من النسوة عند قيامهن بشؤون المنزل ، و كانت قد عقدت شعرها البني الطويل وربطته للخلف فبدت كأمٍ أكثر من كونها شابة في مقتبل العمر
"يا إلهي ! لقد ظننا أنك مت مرة أخرى " قالت و قد بدت عيناها البنيتان كحبات القهوة قلقتان بينما تتفحصانه بسرعة
"هااااا؟" شهق شهقة عالية ، لم يفهم ما الذي يجري و من هذه و من هؤلاء الأطفال غريبوا الأطوار الذين يراقبونه بذهول من خلف الباب
" أتستطيع الوقوف ؟"
لم يجبها و ظن أنه ربما قد أخطئ المسار إلى هذا المكان و قد شعر بالإعياء إزاء التفكير في أمر كهذا
"لا بأس من المؤكد أنك مرهق ، هيا يا أطفال قوموا بحمله للداخل " قالت ملوحة بذراعها النحيل للأطفال الذين وقفوا متلصصين خلف باب القصر
" لحظة واحدة ، ما الذي ؟!!"
كانت الصدمات تترامى عليه واحدة تلو الأخرى ، و بينما كانت أفكاره لاتزال مشوشة وجد مجموعة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و 15 عامًا يحملونه على أكتافهم و يسيرون به نحو باب القصر المفتوح و مجموعة أخرى لا تزال ترمقه بنظرات متفحصة متوجسة
"لحظة ، لحظة واحدة من فضلكم !!" قال مفزوعًا بينما الأطفال يحملونه بقوة متجهين به نحو القصر بسرعة و بخطوات منتظمة دقيقة و كأنهم جنود في الجيش ، و قد حاول النزول عن أكتافهم الصلبة لكنهم تمسكوا به بقوة غير آبهين بمحاولاته المستميتة
حينما أدخلوه للقاعة المفتوحة رأى أمامه السيد الغريب جالسًا يشرب الشاي بهدوء في قاعة ضخمة مملوءة بالأطفال مختلفي الأعمار ، و قد بدت حوائط القاعة مزينة بزخارف دقيقة ناعمة بينما استقرت بضع شمعدانات معلقة في زوايا القاعة فمنحت القاعة لونًا ذهبيًا ناعمًا ، و الأرضية قد فُرِشَت بحصير ناعم ذو لونٍ أخضر تقليدي ، و توسطت الغرفة طاولة كبيرة من خشب فاخر و قد برز جمالها لنظافتها الشديدة التي أظهرت لونها بأنقى صورة ، التفت الشخص الغريب نحو أوساجي مبتسمًا
"أهلًا بالطفل الجديد"
أجلسَ الأطفال أوساجي على الزايسو المقابل للشخص الغريب ، ظل أوساجي صامتًا من صدمة ما حدث له منذ قليل ، ظلت عيناه تتقلبان يمينًا و يسارًا تترقبتان حدثًا مفاجئًا آخر ، و فجأة وضعت الفتاة الشابة صينية مليئة بالطعام أمامه فانتفض جسده و قد حدق فيها برعب
"على الرغم من أنك قد وصلت متأخرًا إلا أنك اليوم في عداد ضيف لنا و من واجبنا أن نكرمك ، لكن لا تعتد على هذا " قالت مهددة إياه بإصبعها النحيل بينما هو قد دفن رأسه بين كتفيه كطفل صغير خائف من العقاب
حدق في الطعام بذهول ، كان الشك يملؤ قلبه لكن الجوع كان أقوى منه؛ لذلك لم يأبه بأي شيء و أمسك بعيدان الطعام و بدأ بحشو فمه بالأرز و اللحم
كان جميع الأطفال يحدوقون فيه بفضول شديد ، و قد لاحظ ذلك لكنه لم ينطق بحرف فالطعام الآن أهم خاصةً أنه كان شهيًا و شديد اللذة و رائحته قد دغدغت أنفه لطيب رائحته
بعدما أنهى تناول طعامه ، قامت فتاة صغيرة ترتدي أيضًا ثوبًا تقليديًا لكن مع رسومات أكثر طفولية و أكثر زهوًا بحمل الصينية و خرجت بها من القاعة ، ثم قدمت بعدها بلحظات بصينية أخرى عليها كوب من الحليب الساخن لتقدمه له
و حينما وضعت الصينية أمامه رفعت بصرها نحوه بعينيها الصغيرتين للحظة ثم خفضتهما سريعًا و قد تلونت وجنتاها الصغيرتين بالأحمر و كأن أزرهار الكرز قد تفتحت في وجنتيها ، فقدمت له الكوب في يده خافضةً رأسها ثم عادت لمكانها الذي كانت تجلس فيه و لا يزال خدها الصغير مزعفرًا
ظل أوساجي ممسكًا كوب الحليب بيديه ثم ارتشف منه رشفة صغيرة و لم يكن قد فهم مغزى نظرات الطفلة الصغيرة
و على الجانب الآخر كانت نظرات الأطفال لا تزال تخترقه بوقاحة لكنه تجاهلهم مستمتعًا بمذاق الحليب الساخن الذي كان يدلك عقلك برفق و لين حتى بدأ يغفو كالأطفال لكنه فجأة تذكر ما قد حدث في الصباح فتطاير النوم من بين أجفانه
" إذًا أيها السيد ألن تخبرني أين أنا و ماذا حدث ؟ " سأل و قد بدأ صبره ينفد
ثنى الغريب إحدى ركبتيه و أسند ذراعه عليها و رد قائلًا بهدوء و لا تزال ابتسامته كما هي لم تتزحزح
" أنت الآن في منزلك الجديد ، و جميع المتواجدين في هذه القاعة هم إخوتك من الآن فصاعدًا ، و أنا هو الشخص الذي أنقذك من الإعدام ، و إن كنت تتسائل كيف حدث هذا ففي الواقع أنا لم أقم سوى بشيء بسيط للغاية ، لقد أيقظت جزءًا من طاقتك و تلك الطاقة قد تشكلت على هيئة شبح تنين قام بسحبك من بين أنياب المشنقة "
" إخوتي ؟؟ تنين ؟؟" كان أوساجي متعجبًا مما سمعه ، لقد تشوش عقله الآن أكثر من السابق و تشابكت أفكاره ببعضها و لم يفهم شيئًا
"أجل إخوتك ، لكن في الواقع هناك شخص ينقصنا و لكنه أيضًا أخوك " قالت الفتاة الشابة بابتسامة لطيفة
" لحظة واحدة فقط دعوني أفهم ، ماذا تعني بإخوتي ؟؟ إن أخواي الوحيدان قد توفيا ، بل عائلتي بأكملها قد رحلت ، و أيضًا ما أمر التنين ؟؟ أنا لم أعد أفهم شيئًا " قال مستنكرًا و قد تجول بنظره بين جميع الأشخاص المتواجدين في القاعة و قد كانوا جميعًا أطفالًا من أعمار مختلفة ذوي تعبيرات باردة و منها الشاردة و من بينها لاحظ الفتاة الصغيرة التي لا يزال خدها مزعفرًا
أخذ الشخص الغريب نفسًا عميقًا ثم أجاب قائلًا بنبرة جامدة " استمع يا فتى ، الآن أنت في نظر العالم أجمع ميت ؛ لأن ذاك التنين الشبح قد اختطفك لكن ... لا أحد لاحظ ذلك لأنني استطعت استبدالك بدمية و بالتالي لم يلحظ أحد شيئًا ، و لعلمك فقد قاموا بحرق تلك الدمية دون أي رحمة و قد شهد جميع أهالي المدينة حرق تلك الدمية دون أن يذرف أحدهم دمعة على جثتك المزيفة و لم يكلفوا أنفسهم عناء بناء قبر لك"
صمت قليلًا ثم عاد ليستكمل قائلًا
"ثم قمت بإحضارك إلى هنا ، لمنزلي !! و بتعبير لطيف يمكنني أن أقول أن كل من يدخل هذا المنزل يصبح ابنًا لي ، و كل هؤلاء الأطفال الذين تراهم أمامك هم أطفالي و الآن أنت أصبحت فردًا منهم ... إلا إن كنت تود الرحيل فذلك الخيار متاح لكن تذكر خروجك من هنا يعني موتك .. لأنك باختصار لا تملك مكان تذهب إليه و سيتم كشف أمرك سريعًا ، أتعي ما أعني ؟"
مع آخر كلماته تغيرت معالم وجهه فهو لم يعد يبتسم و اكتفى بتعبير صامت لكنه في نظر أوساجي كان متجهمًا ، لقد أدرك أن بإمكان هذا الرجل أن يملك ابتسامة تبدو في غاية اللطف لكن بإمكانها أيضًا أن تكون مرعبة ، كان لذلك التغيير وقع مخيف على قلب أوساجي المتوتر سلفًا و قد بدأ يشعر بالضيق
حينما لاحظت الفتاة خوف و توتر أوساجي و ذلك الجو الخانق الذي أحاط به همت قائلةً " أعتقد أنك مرهقٌ كثيرًا بعد هذا اليوم الشاق يا سيد ، ما رأيك أن أقودك إلى غرفة نومك الجديدة ؟" كانت ابتسامتها ناعمة و لطيفة كابتسامة طفل بريء لا يحمل في قلبه ذرة من قذارة العالم الخارجي
"أجل أنا حقًا أحتاج للنوم" رد عليها محاولًا الهروب من هذا الموقف بينما عيناه لا تزالان تحدقان بتوجس في السيد الغريب الذي كان يرتشف من كوبه بعضًا من قطرات الشاي
*****
انطلقا معًا خارج القاعة عبر الباب الذي دخل منه أوساجي ، أخبرته أن الغرفة في الجزء الخلفي للقصر لذا عليهما الالتفاف حول القصر حتى يصلا
كانا يسيران في صمت فكان بإمكانهما سماع صوت صراصير الليل و أيضًا وقع خطواتهما على الأرض العشبية فقد ارتدت تلك الفتاة حذائها هذه المرة
و فجأة قطعت الفتاة ذلك الصمت قائلة
"ألن تخبرني باسمك ؟" كانت ابتسامتها لا تزال كما هي لم تتغير
"أوساجي ... هاجيوارا أوساجي ، هذا هو اسمي " رد و قد عاودته ذكريات كل ما حدث في اليومين الماضيين .. لا بل في السنوات الطويلة الماضية فاكتسحت أمارات الكدر قسماته ببأس
"امم أوساجي ، ياله من اسم جميل " كانت ابتسامتها قد ازدادت اتساعًا لكنه لم يبادلها الابتسامة فاكتفى بالنظر إلى ابتسامتها ثم سألها قائلًا
"ماذا عنك ؟"
"اسمي سوكي ، فقط سوكي " ردت ضاحكة
"فقط سوكي ؟ ألا تعرفين لقب عائلتك ؟" قال متفاجئًا
" آهه أجل ، هنا إن كنا نملك ألقابًا مختلفة فإذًا نحن لن نكون إخوة ، سنصبح مجرد أشخاص يعيشون مع بعضهم البعض بلا أي رابطة تجمعنا "
لم يجبها بل اكتفى بالتحديق بها مرة أخرى دون أن يفهم مغزى كلماتها و لم تتغير أمارات التعجب عن وجهه فأردفت قائلة
" لقد جئت إلى هنا حينما كان عمري 7 سنوات ، عشت في هذا المنزل لسنوات طويلة ، و لقد تعلمت الكثير كالتنظيف و الطبخ و الطب ...."
"الطب ؟؟!" قاطعها متفاجئًا أكثر من ذي قبل
فضحكت ضحكة خفيفة "أجل ، لقد تعلمت الطب من الكتب و بدأت أتقنه بعض الشيء ، الآن دعني أكمل ، في كل فترة كان معلمي يأتي بطفل جديد ، و في كل مرة كان يقول و السعادة تملأ وجنتيه
لقد أحضرت لكم أخًا أو أختًا جديدة
شعر أوساجي بالحزن لأجل أولئك الأطفال فقد أدرك من حديثها أن كل هؤلاء الأطفال الذين كانوا يملوؤن القاعة منذ قليل قد ولدوا في ظروف قاسية و ربما قد تخلت عنهم أسرهم لشدة فقرهم و عوزهم أو ربما قد ولدوا دون أن يتعرفوا على والديهم فمن المؤكد أن معظمهم يتامى لقدومهم لهذا المكان
فهم في تلك اللحظة أن طرقات المدينة الضيقة تحمل في طياتها الكثير من الأطفال المشردين الذين لا يملكون مأوى ، و ربما كنتيجة لذلك الفقر المدقع فإن هؤلاء الأطفال ينزعون عن أنفسهم ثوب الطفولة و يكتسون ثياب الكدح و الشقاء رغم صغر سنهم ، بل من المؤكد أن ذلك العالم ليس سطحيًا لهذا الحد ، فمن المؤكد وجود خبايا أعظم و أحلك سوادًا لا يعملها سوى من عاش حياته في أزقة الطرقات ، و ربما لولا قدومه لهذا المكان لبقيَ ذلك العالم متوارٍ عن ناظريه
وصلا لغرفة النوم التي بدت مظلمة و كبيرة للغاية ، فتحت سوكي الباب بهدوء شديد ، كانت غرفة شاسعة للغاية و أيضًا فارغة إلى حد ما ، و قد لمعت الأرضية تحت ضوء القمر الخافت فبدت كقاعة ضخمة فارغة
رفعت سوكي إصبعها إلى فمها ففهم أنها تطلب منه أن يتحلى بالصمت فظن أن هنالك شخصًا نائمًا بالغرفة ، فاستنتج أنها غرفة مشتركة
دخلت بهدوء و أشارت بيدها نحوه ليدلف هو أيضًا للغرفة ، فأطاعها و دخل بهدوء معتليًا السلمات الثلاث الصغيرات المؤديات للغرفة
تقدمت نحو خزانة كبيرة ملتصقة بالحائط ففتحتها و أخرجت منها فراشًا و غطاءً
و بينما كانت تقوم بفرشه على الأرض لاحظ أوساجي وجود شخص نائم بجوار الفراش الذي تقوم سوكي بتسويته ، فخطر على باله قائلًا
" ربما هو الشخص المتبقي الذي كانت تتحدث عنه إذًا "
وقفت سوكي مبتسمة و قد أنهت عملها ، اقتربت منه و همست في أذنه قائلة " سيأتي باقي الفتيان بعد قليل لذلك لا تخف إن سمعت صوت أحد ما "
ثم سارت نحو الباب بينما بقيَ هو محدقًا في سريره الجديد لكنها التفتت فجأة قائلة " آه تذكرت "
فعادت متجهة صوب الخزانة مرة أخرى بخطوات سريعة رشيقة ، فأخرجت منها شيئًا لم يتعرفه في البداية لظلمة الغرفة
سارت نحوه و وضعت ذلك الشيء بين يديه قائلة " يجب عليك أن ترتدي ثيابًا ساترة فلدينا فتيات صغيرات " ثم ضحكت ضحكة خفيفة
فهز رأسه ليخبرها أنه قد فهم ما قالته
فهمست له مرة أخرى قائلة
" ليلة سعيدة
أخي
كان هناك شعورًا غريبًا يختلج صدره ربما لأنها المرة الأولى التي يسمع فيها كلمة 'أخي' من فتاة أو ربما لأنه لم يسمع جملة " ليلة سعيدة
أخي
و لكن سوكي لم تنتظر منه جوابًا فقد انطلقت لخارج الغرفة و أغلقت الباب خلفها فأصبح المكان مظلمًا بعض الشيء ؛ لأن أضواء القاعة كانت تضيء جزءًا من الغرفة بخفوت
فاتجه صوب ذلك الجزء شبه المضيء واضعًا ثيابه الجديدة على الأرض ليقوم بتبديلها ، و حينما وضع ثيابه الجديدة تسائل في نفسه قائلًا
"من كان يظن أن ذراعي قد يفتن بعض الفتيات الصغيرات "
بعد انتهاءه من ارتداء تلك الثياب قرر الخلود للنوم على ذلك الفوتون ، و حينما استقر على سريره البسيط ذاك فكر في نفسه قائلًا
" يالها من فتاة بشوشه !!"