الفصل الحادي عشر: دم على الحرير البنفسجي

في اللحظة التي دوّى فيها صوت الحارس صائحًا "هناك دخيل! احموا السيدة ميريكو!"، كانت ممرات القصر تضج بحركة الأقدام المرتجفة وصليل الدروع المعدنية. أضواء المصابيح الغازية تتراقص على الجدران الملبسة بورقٍ مزخرف بنقوشٍ لندنيةٍ ناعمة الطابع، وتنعكس ظلال الدروع والأسلحة على الأرضية الرخامية الداكنة التي تلمع كما لو كانت مدهونة بزيتٍ أسود، بينما الهواء نفسه امتلأ برائحة المعادن والعرق والتوتر.

فُتِح باب الغرفة المزخرف بحواف ذهبية بعنف، وانطلقت ميريكو خارجة وهي تلهث، أنفاسها سريعة، خصلات شعرها البني المتدرج تنفلت من تسريحتها المحكمة، عيناها واسعتان بلون العسل الداكن، ترتجفان بحيرةٍ وعدم تصديق. كانت ترتدي فستانًا بنفسجيًا قاتمًا من حرير مطرز بنقوش دقيقة من اللون الفضي، ينسدل على جسدها الرشيق برقة ويعانق خطواتها المرتبكة بخفة مرعبة.

نظرت خلفها، متوقعةً أن ترى أحد الحراس، لكن ما رأته جعل قلبها يسقط في جوفها كحجرٍ ضخم رُمي في بئرٍ معتم. كان هناك رجل واقف خلفها، جسده طويل ونحيف، يرتدي معطفًا طويلاً أسود، أطرافه متموجة كألسنة دخانٍ صاعدة من موقدٍ مشتعل. وجهه شاحبٌ كشبح، وكأن الدم لا يمر فيه منذ قرون، عيناه… آه عيناه، لم تكن خضراء بالكامل، بل كانت تحدق من خلف خصلات شعره الأبيض الطويل بنظرةٍ تحمل ظلالًا من الجنون والغرق. الجزء الداخلي من عينيه أخضر زمردي كالسم، لكن الأطراف كانت تتلون بأطياف داكنة أقرب إلى السواد، وكأن الخُضرة فيهما تحاول أن تحافظ على نفسها من التلاشي في الظلام.

قال بصوتٍ منخفض، لا يشبه نبرته المعتادة المتقلبة:

《 آسف، ميريكو 》

أحست ميريكو أن الزمن تجمد للحظة. لم تكن قد رأت كلاينفير منذ المحاكمة التي اختفى بعدها دون أثر، لا رسائل، لا كلمات، لا شيء سوى الفراغ الذي تركه. شَعره الطويل الأبيض كان ينسدل الآن على جانبي وجهه، يلمع تحت ضوء المصابيح، وذقنه غير حليقة، كما لو أنه لم يهتم بمظهره منذ أيام طويلة.

لم تكن قد فهمت ما يقصده باعتذاره، إلا أن شيئًا غريبًا فتح بجانبه، بوابة صغيرة بعرض كف رجل ظهرت فجأة في الهواء كما لو شُقّ الزمان نفسه، ومن داخلها، سحب سيفًا أسود اللون، غير لامع، حافته مموجة كاللهب المتجمد، مقبضه يبدو وكأنه من عظامٍ محترقة.

رفع السيف بهدوء، يده ثابتة كأنها يد قاتل مخضرم، ثم هوى به نحوها. لم يكن لديها وقت لتفكر، لكن أحد الحرس قفز أمامها، ذراعه المرتجفة ما زالت ممدودة ليبعدها، وفي لحظةٍ واحدة، انقسم جسده إلى نصفين. دمه تفجّر كنافورة حمراء على الأرض البيضاء، وتناثرت أحشاؤه وسط صراخ الجنود، صوت ميريكو اندفن وسط الفوضى، كانت واقفة تحدق فيه غير قادرة على الحركة.

شهقت، صدرها ارتفع بقوة ويدها ارتجفت وهي تضعها على فمها، فستانها تناثر عليه الدم الحار، وفي عينيها اتسع الذعر حد الجنون.

قال كلاينفير بهدوء كمن يسكب سُماً في ماءٍ راكد:

《 كيف حالكِ أنتِ وخطيبكِ؟ 》

صوته كان ثابتًا، لكن تعبير وجهه لم يكن كذلك. لم يكن مبتسمًا، لم يكن يضحك، لم يكن مجنونًا كما اعتاد… كان جامدًا، كوجه ميت نُحت من حجر لم يبتسم بجنون لم يضحك بجنون كما يفعل عندما يقتل احد.

بكت ميريكو، عيناها لم تعدا قادرتين على النظر إليه دون أن ترتجف، وقالت بصوتٍ مختنق:

"كلاينفير... لماذا؟"

ثم سُمِع صوت رجل آخر، قوي، مشبع بالغضب:

"أنت! توقف!"

التفت كلاينفير ببطء وكأنه لم يهتم أبدًا. قبضته ما زالت على السيف الملطخ بالدماء، لكنه لم يرفع يده حتى حين هوت قبضة على وجهه. كان ذلك الرجل هو خطيب ميريكو، جراردن، حاكم مدينة فورزواني جاردانو. كان يرتدي بزة حمراء ملكية مغطاة بسترة سوداء مشدودة من الخصر، وبدا كمن خرج للتو من اجتماعٍ دبلوماسي.

جراردن هو حاكم مدينة فورزواني جاردانو قبل شهرين رأى جراردن فتاة جميلة وهو في زيارة لمدينة بارمين التي تعيش فيها ميريكو. الفتاة الذي رئاها الحاكم جراردن كانت ميريكو. وقع في حبها وتقدم لها لكنها رفضته حاول مرارا وتكرارا حتى وافقت عليه بسبب انها بدأت تتعود على وجوده بجانبها وبدأت تحبه قليلا.

لكن جراردن لم يُحرّك كلاينفير. لم تهتز حتى شعرة من رأسه الطويل، فقط حدق فيه للحظة ثم رفع سيفه.

صرخت ميريكو من بعيد:

"انتبه!"

لكن الصرخة جاءت متأخرة. في حركة واحدة، خاطفة، غير مرئية تقريبًا، طارت رأس جراردن في الهواء، واندفعت الدماء من عنقه كسلسلةٍ من اللآلئ القرمزية. ارتطم الرأس بالأرض، تدحرج ببطء حتى توقف أمام قدمي ميريكو، عيناه ما زالتا مفتوحتين، تنظران للأمام دون أن ترى شيئًا.

تجمدت أطراف ميريكو. فمها انفتح بصمت، والدماء على خدّيها بدأت تجف. لم تصرخ، لم تركض، لم تسقط. فقط كانت هناك، كتمثالٍ من الألم والرعب.

أخرج كلاينفير من معطفه مسدسًا أسود اللون، غلافه معدني قديم كأنه من عصرٍ مظلم، ورفعه ببطء نحو وجه ميريكو. أصبعه على الزناد، والمسدس يلمع تحت وهج المصباح الزيتي كعَينٍ باردة لا ترمش.

وجهه ما زال جامدًا.

لا ضحك. لا ابتسامة. لا جنون. فقط الصمت.

كانت خطوات إيدن تتسارع على أرضية القصر المصقولة، صدى أقدامه يرتطم بالجدران الخشبية العتيقة، يركض بكل ما أوتي من سرعة، وقد تلطخ معطفه الرمادي الطويل برذاذ الدماء المتطايرة في الردهات التي امتلأت بجثث الحراس والجنود الذين لم يتمكنوا من إيقاف المجزرة.

صاح بصوتٍ مرتفع وهو يلهث:

"كلاينفير! الفارس كروماتن قادم!"

في تلك اللحظة، كان كلاينفير لا يزال واقفًا، يده ممدودة، المسدس موجه مباشرة إلى وجه ميريكو التي تجمدت عيناها على وجهه، لا تصدق أن الإصبع التي كانت تمسح دموعها ذات مرة، أصبحت الآن تستعد لسحقها.

أدار كلاينفير رأسه ببطء إلى إيدن، ثم عاد ببصره إلى ميريكو التي كانت ترتجف دون أن تملك القدرة على الهرب. لم يكن في وجهها غضب ولا صراخ، فقط خيبة ناعمة مختلطة بتوسّلٍ صامت.

انزلقت دموع من عيني كلاينفير، بصمتٍ شديد، لم تصدر منه شهقة، لم يتألم، فقط سقطت الدموع على وجنتيه الشاحبتين، وبلّلت جزءًا من فمه المطبَق. عيناه، بعُروقهما الخضراء الغريبة، انعكست فيهما صورة ميريكو للمرة الأخيرة، وتجمّد فيها الزمان.

قال بصوتٍ خافتٍ بالكاد سُمِع وسط صمت الدهاليز:

《وداعًا ميريكو》

ثم، بلا تردد…

ضغط الزناد.

بووووووم!

اهتز أرجاء القصر، ارتد الصوت في الممرات المغلقة كأن المدافع قد أطلقت. رأسها انفجر دفعة واحدة، شعرها، وجهها، كل ملامحها اختفت وسط الضباب الأحمر الكثيف الذي تناثر في الهواء كزخات جحيمٍ معلّق.

سقط جسدها فورًا على الأرض، بلا حركة، بلا صوت، بلا حياة.

قطرات من دمها التصقت على حواف ثريا معلقة فوقهما، وانزلق بعضها ببطء كدموعٍ حمراء على الزجاج.

وقف إيدن مدهوشاً، كاد أن يتحدث، كاد أن يصرخ، كاد أن يفعل أي شيء… لكن كلاينفير لم يمنحه الفرصة، أدار جسده وبدأ يركض، معطفه الأسود يتموج خلفه، وخطاه تدوس فوق دماء السيدة التي أحبها.

قال كلاينفير وهو يجري دون أن ينظر الى إيدن:

《أسرع… بقوتي الحالية، لن أستطيع هزيمة كروماتن》

لم يسأل إيدن شيئًا. الجواب كان أسبق من السؤال.

مرّا عبر بوابات القصر، أقدام الحراس تتردد في ملاحقتهما، والخوف ينتشر في الأرجاء كعدوى قاتلة. لا أحد منهم تجرأ على اعتراض طريق رجلٍ قتل خطيب السيدة أمامها… ثم قتلها هي.

كان الليل قد بدأ يسدل أستاره حين خرجا من البوابة الخلفية الموصلة إلى الغابة، الأشجار العارية تلوح بأغصانها الحادة في الريح الخفيفة، صمتٌ ثقيل خيّم على كل شيء، لا صدى خطوات، فقط أنفاس متقطعة.

توقفا عند صخرة كبيرة، نبتت بجوارها نباتات منخفضة وسيقان زهورٍ مهترئة. جلس كلاينفير بصمت، ساقاه ممدودتان وظهره مستند إلى الصخرة.

كانت الدماء قد جفّت على وجهه، لكن آثار الدموع لا تزال واضحة، طريقان متعرجان على وجنتيه البيضاء، وكأن الحزن نفسه أراد أن يترك بصمته عليه.

نظر إليه إيدن للحظة، ثم جلس على الأرض المقابلة له وقال بهدوء يشوبه الغضب:

"لماذا قتلتها؟ بما أنك تحبها لهذه الدرجة؟"

رفع كلاينفير عينيه إليه ببطء، لم يظهر عليه أي انفعال، لا ندم، لا وجع، لا شيء.

قال بنبرة باردة كالنصل:

《مشاعر حبي لها... كانت ستعيقني عن التقدم، لذا كان يجب عليّ وضع حد لهذه المشاعر》

صمتت الغابة، واستقر الليل، وبقي كلاينفير ينظر إلى الفراغ، كأن شيئًا فيه قد مات مع تلك الطلقة.

2025/07/28 · 4 مشاهدة · 1205 كلمة
نادي الروايات - 2025