الفصل الثاني عشر: قناع بلا قلب.
تسللت خيوط الضباب الخفيف بين جذوع الأشجار، تلف المكان كوشاح خافت من الرماد. جلس كلاينفير تحت الصخرة، عيناه نصف مفتوحتين، تتأملان العدم، وذراعه اليمنى مسترخية على الأرض، تقبض ببطء على مقبض سلاحه الفضي، وكأنه يبحث في ملمسه عن نقطة ارتكاز للعقل.
أما إيدن، فكان لا يزال يحدق به، ملامحه مرتبكة، أصابعه تعبث بلا وعي بالحجارة الصغيرة على الأرض. مرت دقائق دون أي كلمة… حتى بدأ صوت خافت يقترب.
كان صرير الحديد على الأحجار.
خطوات ثقيلة.
منتظمة.
كروماتن.
لم يكن يركض، بل يمشي. وهدوءه هذا، كان أكثر رعبًا من أي صراخ.
وقف كلاينفير فورًا، تنفسه عميق، جسده ما زال مثقلًا، لكن عيناه استعادتا شيئًا من الجنون القديم. التفت إلى إيدن، وقال بهدوء عجيب:
《اتركني وحدي. الآن.》
همّ إيدن بالاعتراض، لكن نظرته كانت كافية.
ركض نحو الغابة دون أن يلتفت.
وقف كروماتن على مسافة، بين الأشجار، وجهه لا يزال مغطى بتلك الخوذة السوداء، وسيفه متدلٍ على جانبه، لكن جسده مشدود كوتر.
قال بصوتٍ بارد:
"أنت… قتلتها."
أجاب كلاينفير بصوت منخفض:
《نعم.》
سكت كروماتن لوهلة، ثم تقدم خطوة وقال:
"لقد تجاوزت حدودك… لا يوجد شيءٌ يبرر ما فعلته."
لكن كلاينفير رفع إصبعه بهدوء، وكأنه يطلب الصمت.
قال بنبرة ناعمة:
《أنت تفكر بعاطفة. وأنا أفكر بنتيجة.》
توقف كروماتن، قبض على سيفه، لكن لم يهاجم.
تابع كلاينفير:
《الفرق بيني وبينك أنك تنظر للأحداث من الأعلى، من برجك العالي المسمى "العدالة". ترى الأمور كأنها خطوط مستقيمة: شر هنا، خير هناك. لكن البشر… لا يتحركون بهذه الطريقة. نحن كائنات رمادية، نكذب ونحن نحب، ونقتل ونحن نؤمن أننا نحمي.》
اقترب خطوة أخرى، وبصوت خافت كالخنجر:
《وأنت يا كروماتن… كم كذبة قلتها لنفسك لتستمر في كونك بطلًا؟》
زمجر كروماتن:
"أنت تحاول التلاعب بي مجددًا."
لكن نبرة صوته لم تكن واثقة.
قال كلاينفير وهو يسير نحوه بهدوء:
《هل تعرف لما قتلتها أمامك؟ لم يكن ذلك استعراضًا. بل كان مرآة. لأريك من أنت حقًا. لقد وقفت هناك، وشاهدت كل شيء. لم تحرك ساكنًا. لم تنقذها. كل قوتك… وكل سيفك… لم يمنع موتًا واحدًا.》
صمت قصير، ثم همس:
《مرعبٌ، أليس كذلك؟ أن ترى نفسك عاجزًا؟ تمامًا كما كنت يوم قُتل والدك.》
توقف كروماتن فجأة.
شيء في داخله كُسر.
لا أحد يعرف تلك الحادثة… إلا شخصٌ واحد.
الشخص الذي راقبه طويلًا قبل أن يبدأ كل شيء.
قال بصوت مختنق:
"أنت… أنت كنت هناك…"
ابتسم كلاينفير، تلك الابتسامة التي لا تحمل سعادة، بل انكشافًا:
《كنت هناك عندما انهار العالم من حولك… وشاهدت كيف صرت فارسًا فقط لتحمي نفسك من الشعور بالذنب، لا لتحمي الآخرين》
قبض كروماتن على سيفه بقوة أكبر، صرير المعدن انطلق من قبضته، لكن عينيه كانتا مترددتين.
قال كلاينفير:
《أنت لست هنا لتحقق العدالة، بل لتنتقم من نفسك… بقتل نسخةً أخرى منك. وها أنا، أقف أمامك. لا لأنني عدوك… بل لأنني أنت… بدون القناع》
ارتبك كروماتن، تراجع خطوة، ثم قال بصوتٍ لا يشبه صوته:
"اصمت..."
لكن كلاينفير لم يصمت.
اقترب أكثر، أصبحت المسافة بينهما أقل من ثلاثة أمتار.
قال:
《الفرق الوحيد أنني أعترف أنني مكسور. أنني لست بطلًا. أما أنت… فتتخفى وراء قوسٍ مذهب من المبادئ التي لم تطبقها يومًا.》
ثم مد يده، ليس نحو سيفه، بل إلى صدره، حيث قلبه.
《اضربني إن شئت… لكنك لن تقتلني. ستحاول قتل الرجل الذي فشلت أن تكونه.》
ارتعشت يد كروماتن.
لكنه لم يضرب.
السكين التي غرسها كلاينفير في داخله… لم تكن حديدًا. كانت حقيقة.
ولا أحد ينجو من الحقيقة دون جراح.
قال كروماتن بصوت خافت… لأول مرة خافت:
"أنت… شيطان."
أجابه كلاينفير بابتسامة ساكنة:
《بل أنا مجرد مرآة… وأنت فقط تكره ما تراه فيها》
ثم استدار ببطء، دون استعجال، وبدأ يسير مبتعدًا بين الأشجار.
ترك كروماتن واقفًا، سيفه لا يزال مرفوعًا… لكن روحه مثقلة بما لا يستطيع قطعه.
في كل خطوة خطاها كلاينفير، كان الظلام في الغابة يزداد، ليس لأنه يهرب… بل لأنه كسر رجلًا دون أن يلمسه.
وهذا… أعظم من القتل.
خلّفت الغابة صمتًا غريبًا… صمتًا لم يكن طبيعيًا. حتى الطيور بدت وكأنها خرساء، تراقب المشهد دون صوت.
كان الهواء ثقيلًا، وكل نفسٍ يسحبه كروماتن يشعر وكأنه ابتلع وزنًا من الحديد.
يده ما زالت مشدودة على مقبض سيفه، لكنه لم يعد يشعر بالسيف، ولا بيده.
كل شيء داخله كان يرتجف… لا من الخوف، بل من التصدّع.
مرّت ثوانٍ، أو ربما دقائق، وهو واقف في مكانه،
ينظر إلى الأرض، حيث سقط ظل كلاينفير للمرة الأخيرة قبل أن يختفي في عمق الغابة.
كلاينفير لم يهرب هذه المرة.
كلاينفير مشى بهدوء المنتصر.
وأما كروماتن؟ فلم يعد يعرف من هو بعد الآن.
على بعد كيلومترين، جلس كلاينفير قرب جدول ماء صغير، تحت جسرٍ خشبي متهالك.
كان قد نزع معطفه الأسود وتركه على الحجر، فبانت ذراعه اليمنى، المغطاة بالندوب والوشوم الصغيرة.
عيناه الخضراوان، تلك التي لا تكتمل خضرتهما، كانتا الآن نصف مغمضتين.
إحدى عينيه كانت تحتها آثار ضربة.
شَعره الأبيض الطويل تناثر على كتفيه، يتماوج بخفة مع نسمات الهواء الدافئة.
اغترف قليلاً من الماء بيده، شرب، ثم تنهد ببطء.
كان إيدن قد لحق به منذ دقائق، لكنه جلس على بعد أمتار، يراقبه في صمت.
وأخيرًا، قال إيدن:
"لقد كسرتَ الرجل دون أن تلمسه…"
ضحك كلاينفير، ضحكة قصيرة، شبه خاوية، وقال:
《ذلك لأنه لم يكن هو من كنتُ أخاطبه… كنتُ أخاطب الشك القابع بداخله.》
"ولكن لماذا؟ لماذا دائمًا تفضّل أن تكسرهم قبل أن تقتلهم؟"
بقي كلاينفير صامتًا، ثم همس:
《لأنك عندما تقتل جسد إنسان، فهو يرحل… أما إن كسرتَ روحه قبل ذلك… فإنه يعيش، لكنه لا يعود كما كان أبدًا.》
صمت، ثم أكمل:
《لستُ مجنونًا يا إيدن… ولكن هذا العالم لا يُطاق بالعقل السليم.》
اقترب إيدن أكثر، جلس بجانبه، وركّز عينيه فيه.
وسأله بهدوء:
"هل كنت تحب ميريكو؟ حبًا حقيقيًا؟"
أغمض كلاينفير عينيه للحظة، ثم فتحهما.
《كنت أحبها أكثر من أي شيء…》
"فلماذا إذًا؟"
رفع كلاينفير رأسه ببطء، ونظر نحو السماء التي بدأت تتحول إلى لونٍ ذهبي باهت بانعكاس الشمس، ثم قال:
《لأن الحب الحقيقي هو الشيء الوحيد القادر على كسر الإنسان فعليًا… وأنا لا يُمكنني أن أنكسر، يا إيدن، ليس الآن… ليس قبل أن أنهي كل شيء.》
سكت لثوانٍ، ثم أكمل بصوتٍ متماسك كالصخر:
《لم أقتلها كي أرتاح… بل قتلتها كي أعيش.》
هز إيدن رأسه، وملامحه مشوشة بين الفهم والرفض، ثم قال:
"وماذا عن كروماتن؟ حين يعود إليك مجددًا؟"
ابتسم كلاينفير، لكنها كانت ابتسامة بلا سم، بلا جنون…
كانت ابتسامة رجل عرف قواعد اللعبة جيدًا.
《لن يعود ليطاردني كما كان… الآن، سيطارد نفسه.》
أمسك معطفه الأسود، وارتداه ببطء، ثم وقف.
نظر إلى إيدن، ثم قال:
《دعنا نتحرك… لديّ أُناس آخرون يجب أن أراهم.》
"لتقتلهم؟"
ابتسم:
《أو… لأُريهم أنفسهم. والباقي متروكٌ لهم.》
ومع بداية اختفاء الشمس خلف الأشجار، بدأ كلاينفير وإيدن يمشيان على الطريق الترابي، متجهين نحو المدينة التالية…
وخلفهما، في صمتٍ مطلق، ظل كروماتن واقفًا في مكانه… سيفه مغروسٌ في الأرض، وخوذته ملقاة بجانبه…
ينظر إلى شيء لا يراه أحد… سوى هو.
نفسه.
كان الطريق الترابي ضيقًا، تحدّه أشجار عالية يابسة الأغصان، كأنها سيوف نُصبت لتراقب المارين بصمت.
خطوات كلاينفير كانت ثابتة، متزنة، تُحدِث صوتًا خافتًا مع كل خطوة، وكأن الأرض تحفظ آثار أقدامه.
أما إيدن، فكان يسير خلفه بقليل، وعيناه لا تفارقان ظهر الرجل الذي ما عاد يعرف إن كان صديقًا… أم شيئًا آخر.
"إلى أين نذهب؟" سأل إيدن وهو يلهث قليلًا.
لم يلتفت كلاينفير، بل أجاب بصوت منخفض لكنه صارم:
《إلى مكانٍ يظن الجميع أنه لا يُقهر.》
"من؟"
《الحاكم روستاف.》
توقف إيدن فجأة، ملامح وجهه تغيرت بالكامل، الذهول ارتسم في عينيه:
"روستاف؟! مستودع الحديد؟ القلعة السوداء؟ أتريد مهاجمته بنفسك؟!"
استدار كلاينفير أخيرًا، ونظر إلى عيني إيدن نظرة باردة، لكنه ابتسم ابتسامة صغيرة، خالية من أي تردد:
《لا أهاجم القلاع يا إيدن… بل أهدم من بَنَوها.》
ابتلع إيدن ريقه بصعوبة، لكن لم يتكلم.
استأنفا المسير، وبين الصخور وتعرجات الطريق، كانت أصوات حوافر خيول بعيدة تقترب بسرعة.
توقف كلاينفير فجأة، أدار رأسه ببطء.
"إنهم يتبعونك… ليس من القصر فقط، بل من المدينة كلها." قال إيدن بصوت مضغوط.
قال كلاينفير بهدوء:
《دائمًا ما يخطئون في عدد من يحتاجون للإمساك بي.》
خرج من داخل معطفه أسطوانة معدنية صغيرة، فتحها، وأخرج منها شفرة قصيرة، غير معتادة، تشع ببريقٍ غريب.
"هل هذه…؟"
《نعم. شفرة الحُكم… صنعت لأجل لحظة كهذه.》
على قمة تلٍ ترابي قريب، ظهر خمسة فرسان، يرتدون دروعًا ثقيلة سوداء، وخوذاتهم تحمل شعار النسر الذهبي.
كل فارس منهم يحمل سيفًا أطول من المعتاد، ووجوههم لا تُرى.
قال أحدهم بصوت عالٍ:
"كلاينفير! بأمر من محكمة جاردانو، أنت مُدان بجرائم القتل والتحريض والخيانة! سلّم نفسك!"
لم يجب كلاينفير، بل تقدّم خطوة واحدة للأمام.
قال الفارس: "أعطيناك فرصة واحدة فقط."
نظر كلاينفير إلى إيدن وقال بهدوء:
《ابتعد…》
وقبل أن يرد إيدن، اندفع كلاينفير.
ركض كالسهم، بين الصخور، بين الرمال، جسده ينحني ويقفز ويهاجم في حركة واحدة متصلة.
الفارس الأول لم يرَ سوى ومضة بيضاء… ثم سقط.
السيف قطع من كتفه حتى وركه، والدم انطلق كنافورة حمراء.
الفارس الثاني رفع سيفه، لكن كلاينفير انزلق تحت حصانه، وطعنه من الأسفل، خرج النصل من عنقه، وسقط.
أما الثالث والرابع، فقد هجموا معًا.
لكن كلاينفير، بخفة مفترس، قفز في الهواء، دار مرة واحدة، وسيفه دار معه، تقاطع السيفان في الهواء، وعند نزوله، كانت خوذتا الفارسين قد سقطتا، تلاها رأسيهما.
أما الخامس… فقد تجمّد.
ارتجفت يداه، لم يستطع الهجوم.
اقترب منه كلاينفير ببطء، مسح الدم عن شفرته بقطعة قماش، ثم قال:
《لست بحاجة إلى قتلك. عد… وقل لهم أنني قادم.》
ارتجف الفارس، ثم انطلق هاربًا على ظهر جواده دون أن يتفوه بكلمة.
إيدن ركض نحو كلاينفير، وجهه مشوش بين الدهشة والرعب، وقال:
"لقد… لقد ذبحهم كما لو كانوا أطفالًا!"
أجابه كلاينفير وهو يعيد الشفرة إلى مكانها:
《إنهم ليسوا أطفالي.》
"وماذا عنك؟ من تكون الآن؟"
وقف كلاينفير في مواجهة الشمس المنخفضة في الأفق، عيونه اللامعة تلمع ببريقٍ أخضر غامض، وقال:
《أنا؟… أنا الشيء الذي يأتي بعد فوات الأوان.》
ثم استدار وأكمل السير نحو الغرب.
نحو القلعة السوداء.
نحو روستاف.