الفصل الثالث عشر: كفن الأوفياء
كانت الأرض مكسوة بطبقة من التراب الجاف، لونها بين البني الداكن والرمادي، كأنها مرّت بسنوات من الصراع والهدوء بالتساوي. الحصى الصغيرة المتناثرة على الطريق كانت تلمع تحت ضوء الشمس المنخفضة، وكأنها شظايا من زمن مضى، شاهدة على ما حدث وما سيحدث.
الأشجار المحيطة بهما لم تكن كثيفة، لكنها طويلة، مستقيمة، تُشبه الحراس الصامتين. أوراقها صفراء مائلة للذهبي، تتحرك بخفة مع نسمات خفيفة تمرّ بين الأغصان، ولا يصدر عنها سوى خشخشة خفيفة بالكاد تُسمع.
على جانب الطريق، كانت هناك صخرة ضخمة، ناتئة من الأرض كأنها نبتت بدلًا من أن وُضعت، يجلس فوقها طائر أسود صغير، يراقب من بعيد، لا يتحرك، كأن وجوده نفسه رسالة.
وقف كلاينفير وسط هذا المشهد، يده اليمنى متدلية بجانبه، واليسرى مضمومة على مقبض سيفه المربوط بحزامه الجلدي المتشقق. معطفه الأسود الطويل يتمايل مع الهواء، حوافه ممزقة قليلاً، لكنها لا تُنقص من هيبته شيئًا.
شَعره الأبيض الطويل كان يتدلى على كتفيه، بعض خصلاته تلتف حول عنقه، ووجهه مائل قليلًا إلى اليمين، كأنه ينصت لصوت لا يسمعه سواه.
عَيْناه الخضراوان، غير المكتملتين في خضرتهما، كانتا ثابتتين على الأرض أمامه، وكأن بهما مرآة لما في داخله… اضطراب، صراع، وعزم لا ينكسر.
《هينراثير، كيف أوقظ قوتي كاملة؟》 قالها بصوت داخلي، لم يحرّك شفتيه، لكن صوته كان كالصدى في كهف مهجور.
جاء الرد من الداخل، من أعماق نفسه، من الكيان الساكن فيه الذي لم يكن يومًا صامتًا تمامًا:
"هناك طرق كثيرة… لكن أسهلها، وأكثرها فاعلية، هو الغضب."
رفع كلاينفير حاجبه قليلًا، لم يكن يتوقع إجابة بسيطة، لكنه لم يندهش.
《هممم؟ الغضب إذن؟》
صمت لحظة، ثم تنهد ببطء، كأنه يحاول احتواء ما لا يمكن احتواؤه، ثم أكمل:
《حسنًا… سأنتهي من مهمتي، ثم سنتحدث عن باقي الطرق.》
أدار رأسه ببطء نحو الأفق، حيث تلوح في البعيد قُبة المدينة التالية، تظهر كظل غامض يربض فوق سهلٍ خالٍ من الحياة.
بدا الطريق إليها طويلاً، لكن كلاينفير لم يكن ينظر للمسافة، بل للوجوه التي سيلتقيها، للدماء التي سيختبر بها نفسه، وللألم الذي سيفتح له أبوابًا جديدة من قوته.
رفع رأسه أكثر، أغلق عينيه لثوانٍ، وكأنّه يتذوق الهواء، لا من أجل الراحة… بل ليعرف ما ينتظره.
في الداخل، صمت هينراثير من جديد، لكن ذلك الصمت لم يكن سلامًا.
كان صمتًا كثيفًا، يُشبه ما قبل الانفجار.
أما إيدن، فكان يسير خلفه، لا يقول شيئًا، عيناه تراقبان ظهر كلاينفير، وكأنّهما تخشيان اليوم الذي سيقف فيه هذا الرجل… ويقرر ألا يرحم أحدًا.
كان الطريق مستمرًا، والسماء صافية، والشمس لم تغب بعد. لكن الظلال بدأت تطول.
والأرض تعرف أن الخطوة القادمة… ستترك ندبة.
طلقة قادمة من الجهة اليمنى تفاداها كلاينفير، ولكن طلقة أخرى من الجهة اليسرى، تفاداها كذلك، ثم أخرج كلاينفير سيفه ومسدسه ونظر حوله. تفاجأ حين رأى من حوله ما لا يقل عن ألف رجل، جميعهم مسلحون بالسيوف والمسدسات.
لم يستطع كلاينفير حتى أن يبتسم، لكنه لم ينتظر. بل اندفع بسرعة، يطلق النار من مسدسه ويضرب بسيفه في ذات الوقت. خلال لحظات، أسقط خمسين رجلًا على الأرض جثثًا هامدة.
لكن طلقة جاءت من خلفه وأصابته في يده التي تمسك بالسيف، فسقط السيف من يده. تراجع بسرعة، وقال بصوت مرتفع:
《حمقى... أنا أستطيع التجدد!》
لكن حين نظر إلى صدره، تجمد مكانه.
كان هناك سيف يخترق قلبه.
بصق كلاينفير الدم من فمه، وأدار رأسه ببطء ليرى من طعنه.
لقد كان إيدن.
نظر إليه والدموع تتساقط من عينيه، ثم قال:
"آسف، كلاينفير... لكنني خفت... خفت أن أتركك تذهب في طريق لا رجعة منه."
قال كلاينفير ببرود مخيف:
《فهمت... إذاً أنت من أحضر هؤلاء الأشخاص، صحيح؟》
لكن إيدن لم يجب، لم يتكلم، فقط ظل ينظر إلى صديقه بصمت.
بدأت عروق كلاينفير تنتفخ، كأنها تكاد تنفجر من شدة الغضب، ثم انفجر ضاحكًا... ضحكة جنونية، عالية، تهتز لها النفوس.
ثم قال بنبرة مملوءة بالتهديد، وصوته كأنما يخرج من جوف جحيم:
《شكراً لك، إيدن... بفضلك، أيقظتُ كامل قوتي. يا أيها البشر جميعًا، استمعوا إليّ... سأعود، وسأقتلكم جميعًا... وأولهم... أنت، يا إيدن!》
ثم صرخ فجأة، صرخة ارتجت لها الأرض من تحت أقدامهم:
《تبديل الجسد!》
وفي اللحظة التالية، ظهر كروماتن، كالشبح المنبعث من الظلال، وتقدم بسرعة البرق.
وفي ومضة، رفع سيفه... وقطع رأس كلاينفير.
ثم سقط الرأس على الأرض، وتدحرج، حتى استقر بجانب قدم إيدن.
وساد الصمت.
أمسك إيدن جسد كلاينفير قبل أن يسقط تمامًا، سقط على ركبتيه وهو يضم الجسد الذي بدأ يبرد شيئًا فشيئًا، يداه ترتجفان، ودموعه تتساقط بصمت فوق وجه صديقه.
ضمّه إلى صدره، وصوته متقطع، كأن الكلمات تخنقه:
"آسف، كلاينفير... أنا آسف... لم أكن أريد هذا..."
كان الجسد ساكنًا تمامًا، والعينان المفتوحتان تنظران إلى اللاشيء، شفتاه شبه مبتسمتين، وكأن الموت لم يسلبه كبرياءه الأخير.
"لم أكن أريد أن أخونك... لم أكن أريد أن أطعنك من الخلف..." قالها إيدن، بينما تنفلت منه شهقة مؤلمة، "لكنك كنت تغرق، وكنت أرى ذلك، وكلما حاولت أن أمسكك، كنت تبتعد أكثر... وكلما صرخت باسمك، كنت تصرخ بصوت أعلى..."
"كنت خائفًا... خائفًا أن أفقدك... خائفًا أن يتحول من أحببته كأخ إلى شيء لا يمكن إيقافه... شيء لا يمكن أن يُشفى..."
غمره الصمت مجددًا، سوى أنفاسه المتقطعة، وحشرجة صوته، ويداه الملطختان بدم صديقه.
ثم همس، وكأن العالم كله لم يعد موجودًا:
"كنت آخر ما تبقى لي... والآن، أنا وحدي."
ظل محتضنًا الجسد الهامد، غير مبالٍ بالدم، أو بمن حوله، أو بما قد يأتي لاحقًا.
لقد خان صديقه...
لكنه لم ينقذ أحدًا.
على بُعد 2000 كيلومتر، في سهلٍ ناعمٍ تغطيه الأعشاب القصيرة، وتحيط به تلال خضراء تتلوى برفق تحت ضوء شمس دافئة، كان هناك فتى مراهق نائم على العشب.
فتح عينيه فجأة، وهو يلهث، أنفاسه سريعة كأنه خرج من أعماق كابوسٍ ثقيل. رفع جسده دفعة واحدة وجلس، يداه ترتجفان، ثم…
ضحك.
ضحكة خفيفة أولًا، ثم ارتفعت تدريجيًا حتى أصبحت ضحكة ممتلئة بالانتصار.
《لقد... لقد نجحت. لقد انتقلتُ إلى جسد آخر، وقوتي ما زالت كما هي.》
كان صوته شابًا مراهقاً، لكنه لا يحمل نبرة المراهق المعتادة، بل شيئًا أكثر عمقًا... شيئًا قادمًا من روح أكبر من هذا الجسد.
صمت الفتى قليلاً، ثم ضاقت عيناه بنظرة حادة كأنها تقيس الهواء من حوله، ثم تمتم:
《هينراثير، هل ما زلت في داخلي؟》
أتى الصوت مباشرة إلى ذهنه، هادئًا وباردًا كالعادة:
"أنا في داخل روحك، لا جسدك، فبالطبع ما زلتُ معك."
ابتسم الفتى، ثم ضحك مجددًا، هذه المرة بابتسامة تحمل نكهة انتقام مؤجل.
《أخيرًا... لديّ القوة للعودة إلى عالمي... للانتقام، وأيضًا للانتقام من هذا العالم نفسه... وأخيرًا.》
رفع يده أمام عينيه، تأملها، كانت يدًا صغيرة بلون بشرة نقيّ، لا تشوبها ندوب، وبدت لطيفة وناعمة كأنها لم تحمل سلاحًا يومًا.
ثم عبس قليلًا، كما لو أنه يتفحص شيئًا داخله، تمتم:
《ذكريات هذا الجسد... تبدو مأساوية. عائلته قُتلت وتم نبذه... حسنا، ليس وكأني مهتم.》
وقف الفتى بهدوء، نفض الغبار من ملابسه البسيطة، بنطال رمادي نحيف، وقميص أبيض بأزرار صغيرة، فوقه سترة بلون أزرق بارد تحيطها خيوط فضية ناعمة.
شعره كان طويلاً، لونه لونٌ نادر، بين الرماد الفاتح والأزرق الهادئ، كأنه لون ضوء القمر المنعكس على زجاج قديم. كان شعره يلمع برقة في الشمس، خصلاته تتماوج برفق كلما تحرك النسيم.
وجهه مستدير قليلًا، عيناه واسعتان بلون زمردي مشرق، تحيط بهما رموش طويلة، تعطي ملامحه مظهرًا هادئًا وعذبًا إلى درجة تجعل من يراه لا يتوقع أبدًا أن بداخله نية واحدة للدم.
بدا كفتى مراهق بريء، مراهق ضاع من لوحةٍ فنية، يحمل في مظهره كل ما يجعل البشر يطمئنون له بلا وعي.
لكن ابتسامته...
كانت ابتسامة شخص يعرف أكثر من اللازم.
اقترب من حافة التلة، نظر بعيدًا، حيث الأفق يتلاشى خلف التلال، ثم عقد ذراعيه خلف رأسه وقال بهدوء:
《الآن... لنرَ من في هذا العالم يستحق أن يعيش.》