الفصل الرابع عشر: العيون القرمزية
بينما كان كلاينفير يسير على الطريق الترابي، يضع يديه في جيوبه، ويتأمل الأرض التي تمتد أمامه بلا هدف واضح، لمح في الأفق قرية صغيرة. بدت كأنها خرجت من صفحة منسية في كتاب قديم. منازلها الخشبية كانت منخفضة، أسقفها مهترئة، والدخان الخفيف المتصاعد من بعض المواقد كان باهتًا لدرجة تكاد لا تُرى.
اقترب بهدوء، خطواته لا تُسمع على التربة الناعمة، وعيناه تتحركان بتأني، تراقب كل شيء.
ما إن دخل حدود القرية حتى لاحظ علامات البؤس: الأطفال بملابس ممزقة يلعبون بأحجار على الأرض، رجال بنظرات متعبة يجلسون على درجات البيوت، ونساء يحملن دلاء الماء من بئر متهالك وسط الساحة.
الروائح كانت خليطًا من الخشب المحترق والغبار وبعض الخبز الرخيص.
لم يُظهر كلاينفير أي اهتمام. لا شفقة، ولا فضول. كان تركيزه كله موجهًا لأمر واحد فقط... هل يوجد أحد الناثريم هنا؟ كان يبحث عنهم منذ أيام، أولئك الذين يحملون طاقة نادرة يمكنه امتصاصها لتعزيز قوته.
بدأ يتجول بهدوء، يسأل هنا وهناك، يراقب أعين الناس، يبحث عن أي أثر يدل على وجود قوة غريبة.
لكن...
ما رآه فجأة جعله يتوقف تمامًا.
على بُعد أمتار، قرب شجرة صغيرة بجانب أحد المنازل، كانت هناك فتاة تقف. كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا بلون رملي، شعرها طويل يتدرج من البني الداكن إلى الأحمر عند الأطراف، لكن ما جذب انتباهه... كان عيناها.
عينان قرمزيتان بالكامل، بلا بياض، بلا حدقة، فقط قرمزي صافي… كأنها منبع طاقة خالصة.
وقف كلاينفير في مكانه، ملامحه لم تتغير كثيرًا، لكنه ابتسم… ابتسامة صغيرة، خفيفة، لكن خلفها معنى ثقيل.
《لم أتوقع أن أجد أحدهم هنا...》
همس في داخله، عيناه لا تفارق الفتاة.
《إنها ليست فقط أفضل من الناثريم... بل هي شيء آخر تمامًا.》
ظل ينظر إليها لعدة ثوانٍ، ثم أدار وجهه بهدوء، وبدأ يبتعد.
《لا أريد القتل بلا داعٍ…》
فكر ببرود وهو يخطو بعيدًا عن الساحة:
《لذا... سأحتاج لإبعادها عن أنظار الناس أولًا.》
كانت خطته قد بدأت تتشكل بالفعل.
قال هينراثير بصوت داخلي هادئ لكن محذّر:
"كيف ستفعلها؟ هذه الفتاة، فور أن تراك ستشعر بوجودي بداخلك… سترى روحي، وستصرخ، وستهرب… وربما تجذب الجميع نحوك."
أدار كلاينفير رأسه قليلًا نحو صوت داخله، وعيناه ثابتتان على الأفق:
《معك حق… لكن لديّ فكرة بسيطة》
صمت للحظة، ثم أكمل بتفكير واضح:
《يمكنني أن أرسل أحد الأطفال إليها… نعم، طفل صغير، لا يُثير الشك، فقط يذهب إليها برسالة، يقول لها إن هناك من ينتظرها في الغابة. ثم يعود إلى القرية كأنه لم يفعل شيئًا》
ثم ابتسم، وتابع:
《لحظة… لقد تذكرت… عندما مررتُ بتلك القرية الصغيرة البارحة، وجدت بعض الطعام الجيد. لا يزال محفوظًا في الحقيبة. سأعطيه للطفل كمقابل… الأطفال الجائعون لا يرفضون عروضًا كهذه بسهولة》
ألقى نظرة على أحد الأزقة الضيقة، فرأى طفلًا صغيرًا يجلس وحيدًا بجانب برميل فارغ، يحرك قطعة خشبية بعصا، وعيناه مليئتان بالجوع والصمت.
تابع كلاينفير المشي نحوه ببطء، ونبرة صوته الداخلية هادئة:
《المسألة ليست قتلًا… على الأقل ليس الآن. أنا فقط أحتاجها بعيدًا عن الأنظار… لكي أقرر ماذا أفعل لاحقًا》
وكانت خطته قد بدأت تتحرك في الظل… خطوة بخطوة، كما أراد تمامًا.
وضع كلاينفير الحقيبة أمام الطفل على الأرض المغبرة، وجلس القرفصاء أمامه. نظراته، رغم براءتها الظاهرة في هذا الجسد الجديد، كانت تحمل شيئًا مريبًا لا يستطيع طفلٌ جائعٌ إدراكه.
قال بصوت هادئ، نبرته بين الود والسلطة:
《سأعطيك هذا الطعام بشرط》
رفع الطفل رأسه ببطء، عيناه الكبيرتان المتسختان التمعتا حين رأى الحقيبة، ثم نظر إلى الشاب الذي أمامه. لم يكن يبدو خطيرًا، بل شكله كان أقرب لفتى ضائع أو أخ أكبر ضحوك… لكن شيئًا داخله تردّد.
سأل الطفل بخفوت:
"ما هو الشرط؟"
ابتسم كلاينفير ابتسامة قصيرة، وأمال رأسه قليلًا وهو يقول:
《كل ما عليك فعله… هو أن تذهب لتلك الفتاة ذات العيون القرمزية … أخبرها أن هناك من ينتظرها في الغابة، عند الشجرة الكبيرة، وحين تسألك من، فقط قل: "ستعرفين حين ترين"》
نظر الطفل إلى الحقيبة مرة أخرى، ثم إلى الفتى. التوتر في عينيه لم يختفِ، لكن معدته كانت أقوى من خوفه. مدّ يده ببطء نحو الحقيبة، ثم توقف.
قال بهمس:
"لن أُؤذى… صحيح؟"
أومأ كلاينفير برأسه بإيجاب، وقال بنبرة ثابتة:
《لن يمسكَ أحد بأذى… إن فعلتَ ما قلته حرفيًا》
أخذ الطفل الحقيبة، وقف، ثم بدأ بالركض نحو الجزء الآخر من القرية، حيث كانت الفتاة تقف تتحدث مع امرأة عجوز.
أما كلاينفير، فوقف مكانه، وضع يديه في جيبه، ثم همس داخله:
《والآن، لنرَ كيف ستتصرفين… أيتها الغريبة》
ضحك هينراثير داخله، وقال:
"أنت لا تفقد لمستك أبدًا…"
رد كلاينفير بنفس الهدوء:
《أنا فقط… لم أبدأ بعد.》
وقفت الفتاة في منتصف الغابة، حذاؤها الصغير غاص قليلاً في التربة الرطبة بين الأعشاب، تنظر حولها بتوتر. الأشجار كانت صامتة، والهواء ساكن بشكل غير مريح. كانت تشعر أن هناك شيئًا لا يسير على ما يرام، شيئًا يجعل قلبها ينبض بقوة دون سبب واضح.
ثم، دون صوت… ظهر.
التفتت فجأة، وعيناها القرمزيتان اتسعتا عندما رأت الفتى يقترب منها. لم يكن هو ما أرعبها، بل ما رأته خلفه… تلك الروح.
روح سوداء قاتمة، تتماوج حول جسده بخفة خانقة، كأنها دخان حي، ينبض بالكراهية القديمة. كانت الروح تنظر إليها. نعم… كانت تحدّق بها وكأنها تعرفها… أو بالأحرى، وكأنها جائعة لها.
شهقت، تراجعت خطوة، ثم صرخت بكل قوتها، لكن صوتها اختنق بين الأشجار، وابتلعته المسافة الطويلة إلى القرية.
اقترب كلاينفير ببطء، لا يحمل سيفًا ولا سلاحًا، يديه في جيبيه، ملامحه لطيفة، لكنها مشوشة بشيء لا يمكن فهمه… شيء داخله لا ينتمي لهذا العالم.
قال بنبرة هادئة لا تخلو من الثقل:
《اهدئي… لن أقتلك، ولن أؤذيك. لكن بشرط.》
تراجعت خطوة أخرى، تنظر إليه بعينين مرتجفتين، بينما الروح السوداء بدأت تتحرك خلفه كأنها تتأهب للهجوم.
تابع بصوت أكثر رصانة، وعيناه مثبتتان على عينيها:
《سوف أمتص قوة عينيك القرمزيتين… ثم سأتركك وشأنك، وكأن شيئًا لم يحدث. ستعيشي، لكن عيناك ستعودان طبيعيّتين، لن يبقى شيء من القوة داخلك.》
سكت للحظة، ثم انحنى قليلًا إلى الأمام، ونظر إليها من زاوية أدنى، كأنه يخاطب طفلة خائفة:
《لن تشعري بالألم. ولن يعلم أحد. فقط… موافقتك.》
الفتاة صمتت. أنفاسها سريعة، يداها ترتجفان، لكن لم تكن هناك دموع… كانت خائفة، نعم، لكنها كانت تفكر أيضًا.
كلاينفير لم يتحرك خطوة إضافية، فقط وقف مكانه، ينتظر الجواب. خلفه، الروح تدور ببطء، تلتف حول جسده وتحدق في عيني الفتاة… تلك العيون التي كانت هبةً نادرة، والآن أصبحت هدفًا.
《هل… أنتِ موافقة؟》 قالها مجددًا، هذه المرة بنبرة لا تحمل تهديدًا… لكنها لا تسمح بالرفض أيضًا.
وقفت الفتاة ساكنة، يداها ما زالتا ترتجفان، وعيناها القرمزيتان تتأملان تلك الهالة السوداء التي تحوم حول الفتى. كانت تشعر وكأن الظلام يتنفس من حوله، لكن رغم كل ذلك… لم تشعر بالخطر منه مباشرة، بل من شيء آخر… شيء أقدم… أعمق.
اقترب خطوة صغيرة دون أن يحدث صوتًا، رفع يده بهدوء كأنه يطمئنها، ثم قال بصوت منخفض، لكن حازم:
《لا تقلقي من هذه الروح… لن تفعل لكِ أي شيء بدون إذني.》
ثم نظر إليها مباشرة، ملامحه لطيفة، لكن عينيه تخفيان شيئًا كثيفًا، كأنهما تحملان وزن قرون من الكتمان والغضب المكبوت.
تابع بنبرة مهدئة، لكنها لم تخلُ من حافة باردة:
《لذا… أسرعي وأجيبي، فأنا أكره الانتظار.》
الفتاة ابتلعت ريقها، قلبها يخفق بقوة. شعرت لوهلة أن تلك اللحظة ستمتد إلى الأبد إن لم تنطق. نظرت إليه، ثم إلى الروح… ثم عادت تنظر إليه مجددًا.
قالت بصوت مرتجف، لكنه واضح:
"…هل ستؤذيني لو قلت لا؟"
صمت كلاينفير للحظة… ثم أغمض عينيه ببطء، وتنهد، كأن السؤال كان مزعجًا، لكنه متوقع.
فتح عينيه ونظر إليها مجددًا، وقال:
《لن أقتلك… لكني لن أسمح لكِ بالاحتفاظ بقوة لا تقدّرين معناها.》
ثم ابتسم، ابتسامة خفيفة، لكن ليس فيها دفء، فقط حسم.
《الاختيار لكِ. طواعية… أو بالقوة. لكن النتيجة واحدة.》
الهواء بينهما أصبح أثقل. الطيور ما زالت صامتة. الشمس لا تزال ترسل ضوءها عبر أغصان الأشجار… لكن كل شيء بدا متجمّدًا، منتظرًا الكلمة التالية من شفتيها.
قالت الفتاة بصوت ضعيف وهي تشيح بعينيها: "حسنًا… لكن عدني أنك لن تؤذيني."
أجاب كلاينفير بصوته الهادئ، الذي لم يكن يحمل أي انفعال:
《بالطبع.》
ثم اقترب منها بخطوات ثابتة، ورفع يده، ووضعها على كتفها برفق. للحظة، لم يحدث شيء. ثم بدأت الفتاة تشعر أن شيئًا ما يُسحب منها، كأن طاقتها تتلاشى، كأن ضوءًا داخليًا يُنتزع بهدوء. ارتجفت، حاولت التماسك، لكن جسدها لم يستجب، وسقطت على الأرض مغشيًا عليها.
تأملها كلاينفير لثوانٍ، ثم نظر إلى كفه، وابتسم بخفة:
《رائع… قوة هذه العيون… رائعة.》
انحنى، وحمل جسدها الخفيف بين ذراعيه، دون أن يظهر أي انفعال على ملامحه. خطا عبر الأشجار بهدوء، وعاد إلى مشارف القرية، حيث وضعها أمام أحد البيوت، دون أن يطرق الباب، ودون أن ينظر خلفه. ثم رحل.
كانت الشمس لا تزال تسقط بأشعتها الذهبية على الطريق الحجريّ الطويل المؤدي إلى مدينة روان… المدينة التي شهدت موته الأول في هذا العالم.
كلاينفير كان يسير ببطء، عيناه نصف مغمضتين، وملامحه مطموسة بالبرود.
لكن من بعيد… رأى ظلًا واقفًا، يحمل سيفًا ضخمًا على كتفه، كأن الطريق نفسه ينتهي عنده. توقف، ثم أخرج سيفه من بوابته السوداء الصغيرة، تلك التي تفتح فقط حين يتوق قلبه إلى الصراع.
اقترب… خطوة بخطوة… حتى وقف أمامه مباشرة.
كروماتن.
كان الدرع مختلفًا، أقسى من ذي قبل، لكن الهالة… الهالة مألوفة.
نظر كروماتن إليه بعينين ضيقتين، لا أثر للود فيهما، وقال بصوت متماسك:
"من أنت؟"
رد كلاينفير بابتسامة جانبية، فيها خليط من الاستخفاف والذكريات:
《هممم؟ ألا تتذكرني؟ أنا كلاينفير أثغارث. لقد نقلتُ روحي إلى هذا الجسد… قبل أن تقتلني.》
لم ينتظر كروماتن أي تفسير. اندفع بسيفه بسرعة خارقة، يشق الأرض تحته، كأن خطواته تعلن الحرب.
لكن كلاينفير تراجع بخفة، وهو يضحك ضحكة قصيرة:
《هوه؟ هل أيقظتَ قوة الشيطان الذي كان بداخلك؟ سيكون هذا… مثيرًا للاهتمام.》
ثم رفع نظره إليه، وسأله بنبرة لا تخلو من التحدي:
《هوي، كروماتن… لماذا تخاطر بحياتك من أجل الناس؟》
أجاب كروماتن وهو يشد على سيفه:
"أنا لست مثلك، يا قاتل. أنا… هو بطل العدالة. أدافع عن الناس، ومستعد لأضحي بحياتي في أي وقت من أجل العالم… وشعبي."
ضحك كلاينفير ضحكة ساخرة، قصيرة، ثم قال:
《أنت أحمق. تذكرني بنفسي… حين كنت أقاتل من أجل شعبي، والعالم أيضًا. ظننتُ أن التضحية تصنع الفرق. لكنهم… خانوني. أما أنا؟ فأقسمت أن أضحي بالجميع من أجل أهدافي. كلهم. بدون استثناء.》
توقف لبرهة، نظر إلى هالة كروماتن… ثم ابتسم بتسلية:
《لكن هذا غريب… الشيطان القديم الذي كان بداخلك اختفى… والآن… أصبحتَ تحمل روح "نائب الشياطين"؟ بل وأيقظتَ قوته أيضًا؟ هذا… رائع.》
رفع سيفه ببطء، وضوء غريب بدأ يتسلل من عروق يده، كأن القوة تستيقظ بتأنٍ.
ثم قال بصوت منخفض، مخاطبًا أعماقه:
《هوي، هينراثير… يبدو أننا سنقاتل نائبك.》
ضحك هينراثير داخله، وقال:
"وأخيرًا… مواجهة تستحق."
وامتدت الظلال تحت قدمي كلاينفير… بينما الهواء بدأ يثقل.
كأن المعركة التالية… لن تكون مجرد معركة.
بل بداية ما لن يُغفر.