الفصل الخامس عشر: الهاوية المشتعلة

انفجرت الأرض تحت قدمي كروماتن حين اندفع، وسيفه يندفع بخطٍ مائل من الأسفل نحو كتف خصمه. لم يكن هجومًا بسيطًا؛ بل كان إعلانًا عن جدية القتال. لكن كلاينفير لم يتراجع هذه المرة، بل مال بجسده إلى الجهة المعاكسة في اللحظة الأخيرة، حتى شعر بحرارة نصل السيف تكاد تمزق قميصه.

رد كلاينفير بطلقة سريعة من مسدسه، استهدفت صدر كروماتن مباشرة، لكن كروماتن حرك جسده نصف دورة في الهواء وتفاداها بانسيابية محارب خبير، هبط على الأرض وانزلق إلى الجانب بسرعة ليعيد تشكيل المسافة بينهما.

في لحظة، وجدا نفسيهما يدوران حول بعضهما ككواكب متوترة تبحث عن الاصطدام. لم يكن هناك كلمات. لا هتاف، لا سباب، فقط نظرات من نار وصمت كالصوان.

انطلق كروماتن مجددًا، لكن هذه المرة كانت ضربته من الأعلى إلى الأسفل، بقوة هائلة. كلاينفير صد الضربة، وتصادمت قوتاهما بقسوة جعلت الأرض تتشقق تحت أقدامهما. لم يتراجع أيٌّ منهما.

ضغط كروماتن بكل ثقله، لكن كلاينفير، بابتسامة هادئة، دفع السيف جانبًا بحركة من كتفه، واستدار بسرعة ليضرب ركلة خاطفة في جانب كروماتن. اهتز جسد الأخر، لكن قبض على قدم كلاينفير قبل أن يسقط، وجذبه نحوه، ليضربه بكوعه في صدره.

اندفع كلاينفير للوراء مترًا كاملًا، لكنه لم يسمح لجسده أن يسقط. قام بحركة خفيفة بيده اليمنى، وظهر خلف كروماتن في لحظة، ثم أطلق طلقة أخرى، لكن كروماتن انحنى في اللحظة المناسبة، وأتبعها بلكمة إلى فك كلاينفير.

تراجع كلاينفير نصف خطوة، ابتسم وهو يمسح الدم من زاوية فمه، وقال بنبرة هادئة:

《جميل… لم أتوقع أنك ستصيبني فعلاً.》

كروماتن لم يرد، بل اندفع مرة أخرى، وفي هذه المرة، بدا الهجوم أكثر انضباطًا، أكثر تركيزًا.

ضربة من اليمين. صدها كلاينفير. ضربة من الأسفل. قفز عنها. رفعة مفاجئة بالسيف من الخلف. دار جسده وتفاداها بصعوبة، ثم لكم كروماتن في بطنه بقوة كافية لإرجاعه مترين للخلف.

لكن كروماتن لم يسقط، بل انزلق بقدميه وأوقف جسده بقوة احترافية، ثم انطلق مجددًا كالسهم.

تلاحقت الضربات، واحدة تلو الأخرى. صوت الحديد يملأ الفراغ من حولهما، دون توقف. يداً على يد. عين على عين. لا مجال للخطأ. لا فرصة للندم.

دوران. انزلاق. قفزة في الهواء. تصادم في المنتصف. كل منهما يستخدم كل ما يملك، كل تدريبه، كل غضبه، كل ما بقي من إنسانيته.

أخيرًا، ابتعد الاثنان في نفس اللحظة، وجسديهما مثقلان بأنفاس متسارعة، لكن نظراتهما لم تهتز.

كانت تلك الجولة الأولى… ولم يكن أحد منهما مستعدًا للتراجع.

والمعركة… لم تبدأ بعد فعليًا.

قال كلاينفير وهو يرمي سيفه ومسدسه أرضًا، ناظرًا إلى كروماتن بعينين تلمعان بنذير العاصفة:

《حسنًا… الجولة الأولى انتهت بالتعادل. الآن، ما رأيك بأن نقاتل بقوة شياطيننا؟》

صمت للحظة قصيرة، ثم ابتسم بخفة:

《أم أنك تخشى أن تُبتلع؟》

ارتجف الهواء المحيط بكلاينفير فجأة، كما لو أنّ شيئًا آخر قد استيقظ فيه. ارتفعت من خلفه موجات من الطاقة السوداء، تتلوى كأنها ألسنة حية، تتنفس… تهدر… تهدّد.

عروقه بدأت تتوهج بلون أحمر داكن، وظهر وشم خافت على جانب رقبته، يمتد تدريجيًا حتى يده. عينه اليمنى بدأت تتحول، أصبحت تلمع بتوهج شيطاني لا علاقة له بالبشر، الحدقة تتقلص، وكل شيء فيه… تغيّر.

قال هينراثير داخله بصوت خافت كهمس قديم:

"قوتي بين يديك الآن… فقط لا تَفقد نفسك."

ضحك كلاينفير بخفة وهو يفتح ذراعيه وكأنّه يستقبل عاصفة:

《فقدت نفسي منذ زمن يا هينراثير… والآن، سأُريك ماذا يعني أن تقاتل شيطانًا لا يملك شيئًا ليخسره.》

في تلك اللحظة، لم يكن كروماتن واقفًا فحسب، بل كان هو الآخر يرفع يده إلى السماء.

بدأت سحب من الطاقة الحمراء تتجمع حوله، ثم اندفعت مباشرة إلى قلبه، وظهر خط عمودي من الضوء الناري على خوذته، قبل أن تنقسم إلى نصفين وتسقط أرضًا، كاشفةً وجهه لأول مرة منذ زمن.

وجهه كان متجهمًا، عينيه تشعّان بلون أحمر مشوب بالذهب، وعلى جبينه وُلدت علامة منحوتة، كأنها ختم قديم يعود لقرون.

صوته خرج هادئًا… ولكن كالسيف المسلول:

"أنت لست الوحيد الذي عقد صفقة مع الظلمة، يا كلاينفير. روحي ليست ملكي وحدي بعد الآن…"

ثم همس:

"استيقظ… يا نيرافيل."

تغيرت الأرض من تحته، تشققت بدوائر صغيرة، وطاقة ضخمة اندفعت من جسده كأنها موجة زلزالية لا تُقارن.

جسده ازداد صلابة، عروقه امتدت عليها آثار لهبٍ حارق، وسيف طيفي من النور الجهنمي تشكل في يده اليمنى، لا سيف حديد… بل طاقة حية من الغضب.

تبادل الاثنان النظرات، وكل منهما يشعر بضغط شيطاني يكاد يُسحق فيه الآخر.

الأشجار القريبة بدأت تتمايل، التراب يرتفع، والهواء بينهما يُسحق ويتجدد مرارًا.

قال كروماتن بصوت بارد:

"قوة نيرافيل لا ترحم… لا تنسى ذلك."

رد عليه كلاينفير بابتسامة مجنونة:

《ولا تنسى… أن هينراثير لم يُهزم قط في حياته.》

ثم اندفع الاثنان في لحظة واحدة، لا سيوف… بل أذرع تشع بالطاقة، قبضات تحمل غضب شياطين وآلام بشر.

واصطدما في المنتصف…

الأرض انفجرت تحت أقدامهم.

ضرب كروماتن بلكمة مباشرة في بطن كلاينفير، لكمة كانت مشبعة بطاقة نيرافيل النارية، قوية بما يكفي لتفجير صخرة بحجم منزل. ارتد جسد كلاينفير للخلف للحظة قصيرة، لكن كروماتن لم يمنحه وقتًا ليتوازن.

بيده اليمنى التي تمسك سيفه الطيفي، اندفع كروماتن إلى الأمام بحركة خاطفة، وبتقاطع دقيق ومميت، قطع ذراع كلاينفير من الكتف، فتناثر الدم كالشلال، ساخنًا وثقيلاً في الهواء.

لم يكن هذا كافيًا، ففي نفس اللحظة، وبتكتيك أقرب إلى الإعدام، قفز كروماتن في الهواء وأدار جسده بدقة، ثم قطع رأس كلاينفير بضربة قاطعة وسريعة… سقط الرأس على الأرض وتدحرج أمامه.

لكن…

ما إن ظنّ كروماتن أنه انتهى من خصمه، حتى توقفت عينيه عند ذلك المشهد غير المنطقي.

رأس كلاينفير… كان يبتسم.

ابتسامة باردة، مائلة، خالية من الألم، مشبعة بالسخرية.

ثم فجأة، امتد خيط أسود كالشريان، ينبثق من عنق الجسد ويخترق الأرض بسرعة، حتى التقط الرأس وسحبه بسرعة مريعة، أعاده إلى مكانه بدقة لا تصدق. لم يمر أكثر من ثانية، حتى كان رأس كلاينفير قد عاد، واتصل بعنقه مجددًا.

صوت طقطقة عظام تجدد الذراع تبع ذلك مباشرة، ليتكون العظم ثم اللحم، ثم الجلد، في مشهد يتحدى قوانين الطبيعة والموت معًا.

نهض كلاينفير ببطء، الغبار يتطاير حوله، لكنه لم يقل شيئًا.

فقط… رفع قدمه اليمنى، ثم ركل الأرض برعب.

الركلة كانت خارقة، تفجرت تحتها التربة وتفتحت الأرض على امتداد عشرات الأمتار.

وصلت قدمه إلى جانب كروماتن مباشرة، ووجه له ركلة كادت تحطم الواقع نفسه.

ضربته أصابت جانب كروماتن بقوة جبارة… القوة لم تكن تتخطى فيزيائية فقط، بل كانت مشبعة بكراهية سوداء عميقة.

طار جسد كروماتن كطلقة مدفع، انطلق إلى آلاف الأمتار، مخترقًا كل شيء في طريقه.

أشجار… صخور… حتى المباني القديمة المتناثرة على حواف السهول… كلها تحطمت، تبخرت، اختفت.

الصوت الذي خلّفته الضربة كان كالرعد المتفجر تحت الأرض، امتد دويه لمسافة لا تُقاس، وتبعه سكونٌ غريب.

وقف كلاينفير، رأسه مائل قليلاً، يده المقطوعة قد عادت وكأن شيئًا لم يحدث، وعيناه تشعان بشيء أعمق من القوة… كان الغضب، وكان الجنون.

قال بصوت منخفض لا يسمعه إلا من اقترب من الموت:

《لقد تماديت يا كروماتن… والآن، دوري.》

تفاجأ كلاينفير بوميض خاطف أمام عينيه، لم يكد يميّز مصدره حتى شعر بالعظام تحت وجهه تنكسر.

لكمة مدمّرة، اندفعت بقوة لا تقل عن قوته، بل كانت مساوية لها على نحو مفزع.

اصطدمت اللكمة مباشرة بأنفه وجبهته، فارتد رأسه بعنف، وانفجر الهواء من حوله كقنبلة غير مرئية.

تراجع جسده للخلف كالسهم المرتد، قدماه حفرتا الأرض تحتها بينما تُركت خلفه سلسلة من الانفجارات الترابية الناتجة عن شدة الارتداد.

اصطدم جسده بجذع شجرة عملاقة، فتحطمت الشجرة بأكملها وتناثرت جذوعها كالهشيم، وواصل جسده التحرك إلى الخلف حتى انغرس في صخور الجبل على بعد عشرات الأمتار.

خرج الغبار… وهدأ كل شيء للحظة.

داخل السكون، سُمِعَ صوت تنفّس ثقيل… ثم خطوات.

كان كروماتن يمشي بثبات، وجهه متجهم، وعيناه مشتعلتان بطاقة حمراء داكنة.

نظر إلى مكان الاصطدام، حيث تجمعت طبقات من التراب والحجارة.

وفجأة…

انفجرت الصخور، وخرج منها كلاينفير كالمقذوف، يداه مشدودتان للخلف، والدم يتدفق من فمه، لكن… كان يضحك.

ضحكة مائلة… مجنونة… متوترة.

قال وهو ينظر إلى كروماتن:

《يبدو أنك بدأت تأخذ الأمر بجدية… ممتاز.》

ثم مسح الدم من فمه، واستدار بجسده كاملاً، وضع قدميه بثبات، وفتح ذراعيه.

صرخ:

《أرِني المزيد، أرِني كل ما تملكه يا فارس العدالة… لأنني أعدك، أنني سأُعيد إليك كل ضربة… مضاعفة!》

كروماتن لم يرد.

لكنه اختفى.

وفي أقل من رمشة عين… ظهر أمام كلاينفير، ووجه له ركلة في خاصرته كانت كفيلة بإسقاط جبل من مكانه.

الهواء تمزّق، والصوت تحطّم… والمواجهة لم تعد بين رجلين… بل بين طاقتين، بين وحشين، بين لعنتين تتصادمان في صراع لا مكان فيه للرحمة.

والأرض؟ بدأت تتشقق من تحت أقدامهما…

قال كلاينفير وهو يزيح الدم عن زاوية فمه، وقد عاد يقف بثبات بينما الرياح الخفيفة تمرّ بجانبه وتحرك أطراف سترته:

《أخبرني يا كروماتن… ما الذي أحضرك إلى هذا المكان من الأساس؟》

كان كروماتن يقف على بعد أمتار، يده لا تزال مشدودة بعد الضربة الأخيرة، وعيناه تراقبان كلاينفير دون أن يرمش.

ثم أنزل ذراعه ببطء، وأجاب بصوت منخفض لكنه مشحون بالغضب:

"لقد... تم طردي من مدينة روان."

رفع كلاينفير حاجبه بدهشة متصنّعة:

《أوه؟ بطل العدالة يُطرد؟ هذه جديدة…》

لم يرد كروماتن فوراً، بل تابع بصوت أكثر حدة:

"بسبب إيدن. لقد كرهني… لأني قطعتُ رأسكَ.

"فأطلق شائعة… تهمة… جعلتني في نظر الجميع خائناً."

سكت لحظة، ثم أكمل بخيبة لم ينجح في إخفائها:

"وهكذا، طُردت. كنتُ أتجوّل بلا هدف، بلا غاية… حتى أوصلتني قدماي إلى هنا."

ثم شدّ قبضته، وانحنى جسده قليلاً للأمام وكأن جسده يتأهب للانقضاض، وصاح:

"لكن الآن، لا داعي للكلام يا كلاينفير! لقد كان كل ذالك بسببك انت وإيدن! والآن… سأقتلك بيدي ثم سأقتل إيدن!"

ابتسم كلاينفير، لكن عينيه ظلّتا فارغتين من المشاعر:

《هيه… لا تُسيء فهم الأمور، كروماتن…》

ثم مدّ يده إلى الجانب، لتشتعل طاقة سوداء من كفه وتصعد على ذراعه ببطء، وتخترق الأرض تحته.

《أنا ممتن لأنك طُردت… لأنك الآن أمامي. ولأنني الآن… سأريك من هو الذي سيموت.》

وبينما ارتجّت الأرض تحتهما، بدأ الجو حولهما يهتز مجدداً، وكأن الهواء نفسه يهرب من بين قبضتي وحشين لا يشبهان البشر.

المعركة الثانية... على وشك أن تشتعل.

2025/07/28 · 3 مشاهدة · 1516 كلمة
نادي الروايات - 2025