الفصل السابع عشر: مجزرة الظلال
تبدلت الأجواء كليًا، كأن العالم ذاته قد توقف عن التنفس ليراقب المواجهة القادمة. لم يكن انضمام النسختين الأخيرتين مجرد تعزيز عددي، بل كان كابوسًا يتجسد على هيئة جسدين مشحونين بطاقة لا تُوصف. ارتجفت الأرض تحت أقدامهم، وانقسم الميدان بين أطراف أربعة لا مجال للرحمة بينهم.
موراكس، بنظراتٍ اشتعلت بنيران الكبرياء، أدار عينيه بين النسختين اللتين بدأتا بالتحرك نحوه، فصك أسنانه وهمس كمن قرر إنهاء المسرحية. حوله انفجرت الطاقة دفعة واحدة، على شكل دوائر متتالية من النبضات الكثيفة التي مزقت الهواء، وكأن جسده صار مركز انفجار مستمر. النسختان لم تتراجعا، بل هاجمتا في آنٍ واحد، لتبدأ دوامة من الاشتباكات المعقدة: سيفٌ يصد سيفًا، وركلة تصطدم بكف، وشرارات تتطاير مع كل تصادم. السرعة كانت فوق الحد الطبيعي، والأرض تحتهم بدأت تتآكل تدريجيًا.
على الجانب الآخر، كان كروماتن أكثر صمتًا… وأكثر خطورة. النسختان اللتان هاجمتاه حاولتا تطويقه، لكن ما إن اقتربتا حتى توهج جسده بلون داكن كالفحم المتقد. تقدم للأمام بلا تردد، يضرب بأطرافه بقوة صادمة. لا حركات زائدة، لا استعراض، فقط دقة متناهية وقتلٌ صامت. إحدى النسخ تلقت ضربة مباشرة في العنق، طارت جسدًا بلا وعي، ارتطمت بجدارٍ حجري وانفجرت حولها الصخور.
كان القتال كمنظر جحيم يُرسم على أرض الواقع. الصخور تحطمت، الجدران المحيطة تمزقت، وحتى السماء بدت وكأنها تهتز من شدة العنف. كل دقيقة تمر كانت كفيلة بتغيير التضاريس من حولهم. ما كان طريقًا أصبح حفرة، وما كان جبلًا أصبح رمادًا متناثرًا.
ومع كل ذلك، ومع كل هذا التدمير والجنون، بقيت حقيقة واحدة تتكرر على شفاه كل من يشاهد: النسخ كانت تخسر.
كانت قوة كلاينفير الأصلية عظيمة، نعم، لكنها حين تنقسم، فهي تضعف. وموراكس وكروماتن… لم يكونا من النوع الذي يمنح خصمه فرصة ثانية. كانت كل ضربة من ضرباتهما تُقصّر أمد المعركة، وتُقرب النهاية.
أحد النسخ سقط أخيرًا، متفتت الجسد، مُهشم الملامح، ليتبعه الآخر بعد لحظات بصراخٍ مخنوق وصوت انفجار أخير أعلن سقوطه.
أما مَن بقي من النسختين الأخريين، فقد بدأتا بالتراجع، وبدا عليهما التعب. لم يكن الانسحاب خيارًا، بل الضرورة الوحيدة للبقاء.
لكن نظرات موراكس وكروماتن لم تكن ترحم. فحتى وإن كانت المعركة محسومة، فإن الكبرياء لا يسمح بترك شيء ناقص خلفهم.
وهنا... تقدم كلاينفير الأصلي خطوة.
ارتفعت سُحب من الغبار والنار، وكانت الأرض ما تزال تهتز من آثار الاصطدامات السابقة، بينما وقف كلاينفير في قلب الفوضى كأنه تجسيد للعاصفة ذاتها. انحنت الأرض تحته، وتشكلت شقوق عميقة في الصخور بسبب هالته وحدها. رفع رأسه قليلًا، وبنبرة متهكمة تقطر احتقارًا قال بصوتٍ كأنّ صداه ينخر العظام:
«أيتها النسخ… هل تحاولن الهرب؟»
لم يُمهلهن ثانيةً. لم يسمح لهن حتى بإدراك معنى كلماته. انطلقت منه دوامات حمراء نارية، دارت حول جسده كأنها أرواح مذبوحة، ثم قُذفت دفعة واحدة نحو النسخ الأربع. لم تصرخ، لم تقاوم، لم تسنح لهن الفرصة. لم يكن انفجارًا عاديًا، بل كأنه شمس صغيرة انفجرت وسط أجسادهم. اختفوا تمامًا… محوا، تبخروا في لحظة.
مسح فمه بيده، ثم قال بهدوء مرعب، كأن الدماء حوله لا تعنيه:
«لم تكن تستحققن إهدار قوتي… والآن، أعتقد أن وقت التسلية انتهى… آن أوان القتل الحقيقي.»
في لحظة، اتسعت ابتسامته حتى ظهر الجنون في عينيه. حرك جسده للأمام واختفى كوميضٍ أحمر، ثم…
بووووم!!
لكمته انفجرت في وجه كروماتن، نارٌ هائلة التفّت حول قبضته، وكأن بركانًا قد وُضع في قفاز، ثم أُطلق بلا رحمة. لم يملك كروماتن أي فرصة للتصدي، طار جسده كقذيفة، عبر الهواء كأنه وزنٌ معدوم. صرخات الرياح حوله كانت شاهدة على السرعة الرهيبة، حتى ارتطم بجبل ضخم مزقه من منتصفه، بعنفٍ جعل الصخور تتناثر كالعصافير. لكنه لم يتوقف… لا، بل واصل طيرانه حتى اخترق قرية كاملة كانت خلف الجبل.
صرخات، دماء، دخان…
مبانٍ سقطت فوق رؤوس ساكنيها.
أطفال لم يجدوا من يحتضنهم في اللحظة الأخيرة.
رجال ونساء تمزقوا تحت الأنقاض.
كان كروماتن مجرد شظية قاتلة أُطلقت من يد مجنون، لكنه حمل معه الموت في رحلته.
أما موراكس، فقد رأى كل شيء… ودوّى اسمه في داخله كصرخةٍ:
"كفى!"
لكن لم يُترك له مجالٌ للتفكير. ظهرت أمامه ركلة، لا تُشبه أي ركلة. كانت مكسوة بهالة سوداء صافية، داكنة لدرجة أنها بدت كفراغ حيّ يبتلع الضوء. اندفعت نحوه بسرعةٍ جعلت الزمن يتباطأ، فتفاداها بانزلاقٍ خاطف، ثم… وبكل قوةٍ متبقية لديه، رفع سيفه العالي وهبط به على عنق كلاينفير.
صوت القطع كان مرعبًا. انفصل الرأس عن الجسد، وتدحرج على الأرض كدميةٍ بائسة.
لكن قبل أن يشعر موراكس بالانتصار، تلاشى الجسد أمامه… كان وهمًا. مجرد خدعة… نسخة مزيفة.
وفجأة، شعر بنفسه يُسحب إلى الخلف. صوت الريح خلف أذنه… ثم الألم.
لكمةٌ صامتة، لكنها أقوى من زلزال. من خلفه، من مكانٍ لم يتوقعه، جاءت قبضة كلاينفير الأصلية، اخترقت حاجز الزمن ذاته. ضربته في منتصف ظهره، فتشنج جسده، وطار كالكرة، ملتحقًا بزميله كروماتن.
اصطدم الاثنان معًا في عمق الدمار، وسط الحطام والدماء، والجثث، واللهب المتصاعد.
أما كلاينفير… فوقف وسط السكون، يتنفس ببطء، يتأمل فوضى خلقها بيديه، ويبتسم.
كانت ابتسامته خالية من الحياة، كمن ذاق طعم الموت مرارًا… ثم قرر أن يطعمه للعالم.
طار كلاينفير بسرعة مخيفة نحو القرية، والريح خلفه كانت تصرخ كما لو أنها تهرب من ظله. ما إن وصل، حتى توقفت خطواته فجأة فوق سقف محطّم، وبدأت عيناه تمسحان الخراب الذي حلّ بالمكان.
الجثث متناثرة، جدران المنازل تحولت إلى رماد، والسماء رمادية كأنها حزنت على ما حدث. وسط هذا الجحيم، كان كروماتن واقفًا، ظهره مستقيم لكن قبضته ترتجف، وهالته تضرب الأرض تحته كأمواج غاضبة من الضوء الأبيض المصفر.
"كل هؤلاء… لم يكونوا طرفًا في صراعك، ومع ذلك قتلتهم... لن أسامحك."
أما مواركس، فلم يتكلم. كان قد اختفى بالفعل، وظهر خلف كلاينفير في لمح البصر، يلوّح بذراعه المغطاة بالنيران الزرقاء.
لكن كلاينفير لم يكن غافلًا.
استدار بزاوية مستحيلة، ومرّت الضربة من أمام وجهه بملليمترات، ثم ردّ بهجمة مضادة، لكن مواركس انزلق للخلف وتفاداها. لم تمضِ لحظات حتى عاد من جديد، وهذه المرة تمكن من ضرب كتف كلاينفير فقطع ذراعه اليمنى من منتصفها.
الدم تناثر كالسهم، لكن كلاينفير لم يتألم، بل نظر إلى موضع القطع بهدوء، ثم قال:
《جيد، لم أتوقّع هذا.》
في لحظة، بدأت خيوط سوداء تخرج من كتفه وتتشابك، لتعيد بناء الذراع وكأنها لم تُقطع.
《لكن الآن... دوري.》
اختفى.
ظهر خلف مواركس، وضربه بكفه في ظهره، فخرج من الضربة ظلّ أشبه بالشبح انفجر في جسد مواركس، جعله يصرخ ويسقط على ركبتيه، كأن شيئًا من داخله انكسر.
في ذات الوقت، التفت كروماتن، ورفع سيفه المصنوع من الضوء، ثم اندفع بقوة جعلت الأرض تحت قدميه تتحطم. صرخ وهو يهاجم:
"انتهى وقتك!"
لكن كلاينفير ابتسم، ثم أشار بيده.
خيوط حمراء تشكّلت فجأة حول كروماتن، طافت في الهواء مثل النحل، ثم اندفعت بسرعة غير طبيعية، واخترقت جلده لتنفجر داخله بانفجار مكتوم، جعله يتراجع وهو يتنفس بثقل.
《لا تتحامق. هذه ليست معركة متكافئة.》
لكن كروماتن لم يتراجع، بل قال:
"قد لا أكون الأقوى... لكنني لن أسمح لك بتكرار هذا الخراب في مكان آخر."
هالة كروماتن ازدادت، وانطلق نحو كلاينفير وهو يطلق ضوءًا كاد يعمي السماء.
لكن كلاينفير لم يتحرك، حتى أصبح كروماتن أمامه تمامًا.
وفجأة... تكرّر نفس الموقف.
ظلال كثيفة سوداء خرجت من جسد كلاينفير، شكلت دوائر حوله، ثم اختفت.
وفي نفس اللحظة، ظهر من كل اتجاه ظل مختلف، ستة ظلال، كل واحد يهاجم من زاوية، ضربات موجّهة بدقة قاتلة. مواركس تلقى واحدة في الصدر، والثانية في الفخذ، كروماتن أصيب في كتفه وساقه وضلوعه، والظل السادس خرج من تحت الأرض ووجه ضربة ساحقة في منتصف المسافة بينهما.
توقّفت الأجساد.
ثم فجأة، انفجر الألم فيهما معًا، وجثيا على الأرض، عاجزين عن الحركة.
كلاينفير وقف وحده، في الهواء، جسده نظيف، نظر إليهما، وهمس:
《كنتما جيدين... لكن هذا لا يكفي.》
توقفت الرياح. الزمن نفسه بدا وكأنه انكمش حولهم، مجمدًا في لحظة صمت تام.
رأس كروماتن ارتفع في الهواء، ما زالت عيناه متسعتين بالذهول، ثم سقط على الأرض ببطء غريب، يصطدم بالحطام كأن الجاذبية ترفض ابتلاعه سريعًا. لحظة سقوط الرأس، هوى جسده المقطوع على الأرض بلا روح، بلا هالة، بلا وعد آخر.
موراكس شهق وهو يرى أخاه يسقط، لكنه لم يتح له الوقت للحزن.
كلاينفير كان قد تحرّك بالفعل.
بغمضة عين، وجد مواركس نفسه مرفوعًا لأعلى، قبضات كلاينفير تخترق بطنه كما لو كانت نصلًا يغوص في الوحل، لم يكن هناك صوت، فقط صمت مؤلم، تلاه صوت تمزق الأحشاء ببطء.
كلاينفير سحب يده، فتدفقت الدماء الحمراء الساخنة كنافورة مكسورة، وموراكس سقط على ركبتيه، ثم على وجهه.
ظنّ كلاينفير أن الأمر انتهى، فاستدار ليغادر.
لكن خلفه… صدر صوت متقطع، صوت مجروح بالكاد يخرج من بين شفاه مكسّرة:
"سوف… أنتقم منك… سأقتل كل من تحب…"
كان موراكس يتحدث، ودمه يختلط بالتراب، يداه ترتجفان، وعيناه شبه مغلقتين.
توقف كلاينفير.
لم يلتفت.
لم يُظهر أي رد فعل.
فقط قال بهدوء بارد، بصوت منخفض سمعه موراكس بوضوح:
《ليس لديّ ما أحب. وأيضًا... إذا استطعت النجاة من هذا الجرح، فمرحبًا بك في الانتقام مني.》
سقطت جملة كلاينفير بثقل الجبال.
ثم اختفى في الفراغ، تاركًا خلفه جثة... وأخرى تنزف... ووعدًا عالقًا في الهواء.