الفصل الثامن عشر: تبنٍّ تحت ضوء القمر
كان الليل قد ألقى بسكينته على المكان، والنجوم تتلألأ بخفوت خلف غيوم خفيفة. جلس كلاينفير تحت شجرة ضخمة، مغمض العينين، والهدوء يلف جسده كأن لا شيء في الوجود يمكن أن يوقظه.
صوت بكاء.
لم يكن صراخًا ولا نحيبًا، بل كان ضعيفًا، مكسورًا، كأن من يبكي خائف من أن يسمعه أحد، لكنه لا يستطيع كتم الألم أكثر. فتح كلاينفير عينيه ببطء، رفع رأسه وحدّق في الظلام، ثم وقف وتحرك بصمت كظل يسير بين الأشجار.
اقترب من ضفة نهر هادئ، وهناك… رآى فتاة.
كانت تجلس على الأرض، ركبتيها معقودتان إلى صدرها، وذراعاها تطوقان نفسها كأنها تحاول ألا تتفكك.
شعرها كان طويلاً ينسدل حتى خصرها، بلون وردي باهت يميل قليلاً للفضي في ضوء القمر. خصلاته مبللة قليلاً وكأنها كانت تبلل وجهها بماء النهر أو سقطت فيه من شدة البكاء. هذه الفتاة بدت منهكة، متسخة، كأن الحياة أخذت منها الكثير.
وجهها ناعم الملامح، شاحب كضوء الصباح الباكر، وعيناها الزرقاوان كانتا واسعتين لكن ذابلتين، فيهما شيء من تلك النظرة التي لا تُنسى… نظرة تملأها الحيرة والانكسار. شفتيها الصغيرتين كانت ترتجفان دون أن تنبس بأي كلمة.
طولها لم يكن أكثر من 155 سم. صغيرة، لكن فيها نوع من الرقي الصامت، كأنها تنتمي لعالم بعيد، عالم انكسر لكنه ما زال يترك على ملامحها آثار النبل.
كانت ترتدي ثوبًا بسيطًا بلون رمادي فاتح، مصنوع من قماش خفيف لكنه ممزق من عند الأطراف. لا زخرفة عليه، ولا شيء لافت. فقط شريط أزرق مربوط حول خصرها كأنها حاولت إصلاح تمزق بسيط في الفستان. قدماها كانتا حافيتين، مغطاتين ببعض الطين، وكتفاها مكشوفان قليلاً، ترتجفان من البرودة أو الخوف.
كانت وحيدة.
مكسورة.
لكنها كانت جميلة بطريقة لا يمكن تجاهلها.
وشيء ما في قلب كلاينفير تحرك للحظة…
ولم يعرف لماذا.
عندما رأت الفتاة كلاينفير واقفًا بين الأشجار، تجمدت في مكانها، اتسعت عيناها، وسحبت جسدها للخلف بخوف واضح، كأنها رأت شيئًا غامضًا لا تستطيع تفسيره.
وجهها الشاحب ارتجف قليلًا، وارتفعت أنفاسها، لكن كلاينفير لم يهتم بخوفها.
اقترب منها بهدوء، خطواته ثابتة، لا تحمل أي تهديد، حتى جلس أمامها مباشرة دون أن ينبس بكلمة، ثم نظر لعينيها نظرة مباشرة لكنها خالية من أي مشاعر.
《لماذا تبكين؟》
قالها بنبرة هادئة، صافية، لا يوجد فيها خبث ولا تعاطف… فقط هدوء بارد.
قالت الفتاة بصوت منخفض، مرتجف:
"امي وابي ماتو"
《ما اسمك؟》
سألها بنفس النبرة، دون أن يغير ملامحه أو يظهر أي ردة فعل.
"هان..."
قالت ذلك بنبرة هادئة مترددة، وبدأت علامات التوتر تظهر عليها أكثر، كأنها بدأت تشعر أن غموضه أكثر رعبًا من أي شيء آخر.
لكن كلاينفير لم يعطها مجالًا للسكوت.
《كيف مات والديكِ؟》
ارتعشت شفتاها، لكنها أجابت:
"انا اعيش في قرية قريبة من هنا ولكن امس هجم علينا اشخاص من قرية اخرى طامعين في قريتنا فقامو بقتل كل من في القرية حتى يسرقو القرية بكل راحة لكني استطعت بأن اهرب دون ان يلاحظوني"
ظل صامتًا للحظة، كأن الكلمات لم تحرك فيه شيئًا.
ثم سألها أخيرًا:
《ماهو عمرك؟》
"عمري عشر سنوات"
قالتها بهدوء، وهي تخفض رأسها، لا تجرؤ على النظر في عينيه مرة أخرى.
صمت كلاينفير قليلًا، ثم نظر للنهر خلفها، دون أن ينبس بكلمة.
كانت اللحظة ثقيلة، هادئة، والغموض لا يزال يحيط به كما لو كان جزءًا من الضباب المحيط بالمكان.
في وسط القرية، كان الناس مجتمعين حول نيران مشتعلة، يأكلون ويضحكون وكأن لا شيء في العالم يقلقهم. الجو مليء بالضحك والسكينة، حتى جاءهم صوت مفاجئ... صراخ من أحد الحراس عند أطراف القرية وهو يصرخ: "هناك دخيل!!"
توقف الجميع، وصمت المكان فجأة. سحب كل شخص مسدسه بسرعة واتجهوا نحو مصدر الصوت. وعند حافة القرية، رأوه… كان ذلك هو كلاينفير.
لم يكن يتحدث، لم يصرخ، لم يهدد. فقط يسير ببطء ويقتل كل من يقترب منه بلا رحمة. كل من يراه يسقط خلال لحظة. أطلق عليه الجميع الرصاص من كل الجهات، لكن الطلقات لم تخترق جسده… لم تمسه حتى.
رفع كلاينفير إصبعه بهدوء، وكأن لا شيء يحدث حوله، وأطلق موجة طاقة من طرف يده. تحركت تلك الموجة بسرعة خارقة، لتدمر كل شيء أمامها… المنازل، الأشجار، الأشخاص… لم تبقِ شيئًا. خلال دقيقة واحدة فقط، لم تعد القرية موجودة.
أما هان، فكانت تقف عند الجبل، ترى النيران تشتعل، والحريق يزداد كل لحظة، وألسنة اللهب ترتفع نحو السماء. ارتجفت من الخوف، واستدارت محاولة الهرب، لكن...
كلاينفير كان يقف خلفها.
صرخت بذعر ووقعت على الأرض، لكنه جلس على ركبتيه أمامها، وضع يده على رأسها وقال بنبرة هادئة
《لا تقلقي، لن يؤذيكِ أحد مجددًا》
ثم نهض واستدار ليغادر. مرّ الوقت، وسارت ساعتان، وكلاينفير ما زال يتنقل بين الطرق، لكنه شعر بخطوات خلفه. التفت بهدوء، ليجد هان تتبعه، تختبئ خلف الأشجار.
قال بنبرة خافتة
《انا أراكِ، اخرجي》
خرجت هان من خلف الشجرة وهي تمسك بطرف فستانها، تنظر إليه بتوسل وقالت
"ارجوك، خذني معك"
أجابها كلاينفير بسرعة
《لا》
ثم استدار، وألقى نظرة أخيرة وهو يقول
《ولا تتبعيني》
تابع طريقه مبتعدًا، لكنه بعد خمس دقائق فقط… توقف.
استدار من جديد، ليجدها لا تزال تتبعه، تمشي بخطى صغيرة وخائفة. زمّ شفتيه وكتم غضبه وقال بنبرة حادة
《توقفي عن ملاحقتي》
هان كانت على وشك البكاء، عيناها امتلأتا بالدموع، وشفتيها ترتجفان.
تنهد كلاينفير وقال أخيرًا
《حسنا… لكن قد لا تتحملي ما سترينه في رحلاتي》
ردت هان بسرعة وهي تبتسم
"لا بأس"
ثم ركضت نحوه واحتضنت قدمه بقوة، وكأنها وجدت الأمان الوحيد في هذا العالم. تنهد كلاينفير من جديد، وحدّث نفسه بصوت داخلي
《تبا… كم هذا مزعج》
وفجأة سمع صوتًا في رأسه، صوت هينراثير يقول بسخرية
"هل أصبحتَ أبًا دون علمي؟"
رد عليه كلاينفير بحدة
《اخرس》