الفصل الثاني: أسرار خفية

مرت الشهور ثقيلة حتى وصل كلاينفير إلى عمر الثلاث سنوات. كانت حياته في الظاهر تمر بهدوء طفل نبيل مدلل… يبتسم حين يجب، يبكي حين يتطلب الأمر، ويتظاهر بالنعاس حين تبدأ الدروس التي لا يريد حضورها، لكنه من الداخل… لم يكن إلا قنبلة تنتظر الانفجار.

كما يقول المثل

لا تجري الرياح كما تشتهي السفن.

في إحدى الليالي الباردة، حيث كانت الأجواء هادئة لدرجة تُسمع معها أنفاس الخدم في الطابق الأرضي، تسلل "كلاينفير" بصمت إلى المكتبة الواسعة. شمعة صغيرة في يده، وضوءها يرتجف مع كل خطوة. مشى على أطراف أصابعه بين الرفوف المليئة بالكتب حتى وصل إلى كتاب مغبر، مهترئ الحواف، كُتب عليه

"معتقدات الشعوب: تاريخ الأديان منذ فجر الزمان."

جلس على الأرض، وفتح الكتاب بصبر.

قلب الصفحات بعينيه المتعطشتين للمعرفة.

《ممم... حسنًا، الأديان الموجودة حاليًا هي "دين الملك جربيان"، و"دين الطائر السماوي"، و"دين الشمس المستعرة"... كل هذه الأسماء تبدو وكأنها طقوس تافهة، عبادة لأشياء لا تستحق… لكن… لا يجب أن أقلل من شأنهم. هؤلاء الطوائف خطرين… لو اكتشف أحدهم أن بداخلي شيطان، فسأودع هذه الحياة فورًا.》

حلّ صمت ثقيل.

هدأ كل شيء….وسُمِع صوتٌ...صوت عميق، خافت، ممتزج بالظلال والرماد

"يا فتى… هناك شيء مهم أنت بحاجة لمعرفته."

لم تتغير تعابير كلاينفير، لقد اعتاد على صوت هينراثير بالفعل. لقد كان يسمع صوت هينراثير كثيرا حتى اعتاد على هذا الصوت المرعب.

《شيء مهم؟》

سأله داخليًا وهو يغلق الكتاب ببطء، وصدره يخفق رغم أنه لا يبدو عليه شيء.

"هناك أشخاص يستطيعون رؤية الأرواح… بما فيهم أرواح الشياطين. عليك أن تحذر من هؤلاء، لأنهم يمتلكون القدرة على رؤيتي بداخلك، حتى لو لم تتكلم… حتى لو لم تتصرف بشيء غريب. وجودي وحده يكشفك."

صوت هينراثير كان جدياً، بل مرعبًا.

كأنه تحذير من موتٍ قادم لا محالة.

《ك-كيف أميزهم؟ كيف أعرفهم؟ لا يمكنني فقط تجنب كل الناس…》

بدأ جسد كلاينفير يرتجف من فكرة انه قد تنتهي حياته اذا قابل احد هؤلاء النوع من البشر.

"تمييزهم ليس صعبًا… لأنهم لا يشبهون البشر العاديين… عيونهم تفضحهم."

《عيونهم؟ ما بهم؟》

"عيونهم قرمزية. بالكامل. لا بياض فيها. لا سواد… فقط وهج قرمزي، كأن النيران تشتعل خلف أعينهم. هم ليسوا كثيرين، لكنهم موجودون. والأنكى؟ لا أحد يعرف من أين جاءوا أو كيف اكتسبوا هذه القدرة… حتى أنا."

سكت للحظة

"هناك إشاعة أنهم يحملون دماءً مختلطة… نصف بشري، ونصف من... شيء لا يمكن تسميته."

كلاينفير بلع ريقه، وهو يحدّق بالفراغ

《هذا سيء… هذا سيء جدًا. إن قابلت أحدهم… سينتهي كل شيء.》

"لهذا قلت لك… احذر. حافظ على برودك. لا تقترب ممن لا تثق بهم. وإذا رأيت عيونًا قرمزية…"

توقف الصوت للحظة

"اركض."

في تلك اللحظة، سمع "كلاينفير" خطوات خفيفة تقترب من المكتبة. شمعة أخرى ظهرت خلفه.

"سيدي الصغير؟ ماذا تفعل هنا في هذا الوقت؟"

كانت الخادمة موراتاين، فتاة شابة تعمل في القصر منذ عام. شعرها الأحمر المجدول، ووجهها الطفولي، جعلا الجميع يظنونها أختًا كبرى له.

كلاينفير أخفى توتره ببراعة، ورفع رأسه إليها كطفل بريء.

ابتسم بلطف طفولي

"لم استطع النوم... فقررت ان اقرأ قليلا ..."

ضحكت إيلين برقة:

"في هذا العمر؟ من علّمك القراءة أصلاً؟ أظنّك عبقري صغير."

ثم اقتربت منه... وجلست بجانبه لتأخذه، لكن حين اقترب وجهها من وجهه… التقت عيونه بعينيها…

و... فجأة...

توقف الزمن في عقل كلاينفير، تلك العيون… لم تكن طبيعية، كانت قريبة جدًا من أن تكون قرمزية، لكنها ليست بالكامل... فقط الأطراف، فيها وهجٌ غريب، كأن لونًا أحمر يختبئ تحت السطح وينتظر أن يُكشَف.

ارتجف قلبه.

《لا... مستحيل... هل يمكن أن تكون...؟》

لكن موراتاين ابتسمت

"هيا نرجع إلى الغرفة، وإلا ستغضبت السيدة مازرين."

أومأ كلاينفير، وسمح لها بحمله.

لكنه لم يغلق عينيه…

بل ظل يحدّق في وجهها، يبحث، يحلل، يتأكد، لأن الأمر الآن… لم يعد لعبة

قامت موراتاين بوضع كلاينفير على سريره ثم غادرت الغرفة، وفور أن أُغلِق الباب خلفها، جاء صوت هينراثير من الظلام:

"يا فتى… هذه الخادمة لديها عيون قرمزية، لكنها لا تزال في بدايتها… لذا لن تراني حاليًّا. علينا قتل هذه الخادمة قبل أن تكتشف أني بداخلك."

ارتجف كلاينفير قليلًا، لكنه تمسك بشجاعته.

《ماذا؟ نقتلها؟ هل تطلب مني حقًا أن أقتلها؟》

غضب هينراثير. "أيها الغبي… إما نقتلها… أو تقتلنا! في هذا العالم، عليك أن تتعلم كيف تقتل بلا رحمة. من يتردد… يُدفن."

أصبح كلاينفير بين خيارين:

إما أن يُصبح قاتلًا…

أو ضحية.

ومع حلول منتصف الليل… كانت موراتاين تغفو على كرسي خشبي في غرفتها، رأسها يتمايل بنعاس ثقيل. لم تكن تعلم أن تلك هي آخر ليلة لها.

فتح كلاينفير عينيه بهدوء، نزل عن السرير بخفة، واقترب منها كظلٍّ خافت.

ثم…طعنة في الظهر، استيقظت موراتاين من الألم ونظرت الى كلاينفير بصدمة لكنها لم تسنح لها الفرصة للصراخ_ طعنة في عنقها اخرست كل شيء.

سقط جسد موراتاين بلا صوت تقريبًا، وابتسامة خفيفة ارتسمت على شفاه الطفل القاتل.

ضحك هينراثير بصوتٍ شرير

"هاهاهاهاهاهاها! يا فتى… لماذا أنت مبتسم؟"

كان كلاينفير يبتسم بسعادة، وضحكة خفيفة خرجت من صدره قبل أن يعود إلى سريره، كأن شيئًا لم يحدث.هذه لم تكن المرة الأولى الذي يقتل كلاينفير فيها احدا ففي حياته السابقة قام بقتل والديه وكان سعيدا بفعلته هذه.

في صباح اليوم التالي…صرخت إحدى الخادمات "هــنـــاك جـثـــة!"

تجمع الجميع بسرعة. كلاينفير خرج من غرفته بهدوء، لكنه ما إن رأى الجثة حتى ركض نحو والدته وهو يبكي، واحتضن قدمها.

《ماما... ماما... أنا خائف...》

احتضنته مازرين سريعًا، تربّت على رأسه بلطف. "لا تقلق يا حبيبي... كل شيء سيكون على ما يرام."

اقترب لورباين من الجثة وهو يغلي من الغضب. "من الذي يجرؤ على ارتكاب جريمة قتل في قصري؟!"

وهنا… بدأ كلاينفير خطته، رفع رأسه ببساطة وقال وهو يتلعثم

《م-ماما… أنا رأيت كل شيء… البارحة… كنت عطشان، فقمت من سريري، وفتحت عيني... فرأيت هذه الخادمة وهي تهمس لموراتاين… ثم… ثم… طعنتها!》

صرخت الخادمة المتهمة برعب.《سيدتي! لم أفعل ذلك! إنه يكذب! كنت نائمة في غرفتي!》

لكن كلاينفير لم يتوقف، بل استمر بإضافة أدلته المفبركة

《وأنا... وأنا لاحظت أنها كانت تمسح يديها بمنديل أحمر، رميته في الزاوية خلف الأريكة… وهناك بقع دم عليه!》

ركض أحد الحراس، ووجد المنديل تمامًا كما وصف كلاينفير — منديلًا أحمر وعليه آثار دم خفيفة.

《كما أنني... رأيت سكينًا مفقودة من مطبخ الخدم، وهي نفس نوع السكين اللي كانت في ظهر موراتاين… لقد رأيتها تخفي شيئًا في كيس التنظيف خاصتها!》

بحث الحرس داخل الكيس… ووجدوا سكينًا مطابقة للسكين التي قُتلت بها موراتاين.

انهارت الخادمة على الأرض، تبكي وتحاول الدفاع عن نفسها، لكن كل الأدلة كانت ضدهًا… رغم أن كلاينفير هو من زرعها كلها.

صرخ لورباين بغضبٍ عارم "كيف تجرؤين على ارتكاب جريمة قتل في قصري؟ أيها الحرس… اقتلوها فورًا!"

وفي الخلفية…

كان كلاينفير يبتسم بجنون، يخفي ضحكته خلف يده الصغيرة، قبل أن ينظر للخادمة وهي تُسحب. هي الوحيدة التي رأت وجهه الحقيقي، ورأت يده الصغير تشير لها…وداعًا.

2025/07/28 · 25 مشاهدة · 1037 كلمة
نادي الروايات - 2025