الفصل السادس: ولادة الحاكم الأسود

سمع كلاينفير صوت صراخ يشق سكون القصر القديم، الصوت كان حاداً ومليئاً بالغضب، كان يرتد بين جدران الحجر الباردة والرخام المتصدع الذي يغطي أرضية الغرفة الكبرى. الضوء الخافت للشموع المعلقة على الجدران يبعث بظلال طويلة ومرعبة، والغرفة كانت مليئة برائحة الغبار والدم التي بدأت تفوح بقوة.

"ايتها العاهرة اتجرؤين على خيانتي؟"

خرج كلاينفير مسرعاً من الممر الضيق، خطواته الثقيلة على الأرضية الخشبية المهترئة تردد صدى في المكان، وجهه كان جامداً بلا تعابير، لكن عينيه كانت تلمعان بالغضب والارتباك، صعد الدرج نحو غرفة المعيشة التي تعج بالتوتر.

وجد والده لوبراين في حالة هيجان، يقف أمام مازرين، زوجته، والهواء مشحون بالصراخ والاتهامات، وكان يبدو كأنه على وشك الانفجار.

قال لوبراين بغضب:

"كيف تجرؤين على خيانتي بعد كل سنين الحب هذه؟"

كانت كلمات لوبراين مثل السكاكين، تمزق أجواء الغرفة، فيما كانت مازرين تتنفس بصعوبة، تحاول الدفاع عن نفسها رغم الخوف الذي يملأ عينيها.

ردت مازرين:

"انا لم اخنك من قال اني فعلت هذا؟"

لكن لوبراين لم يصدقها، صوته اشتد وأصبح أشبه بالصرخة:

"اصمتي ايتها العاهرة القذرة فلتموتي"

انقض لوبراين على مازرين بسيفه البراق، الحركة كانت سريعة ومليئة بالعدوانية، لكن كلاينفير تدخّل بسرعة، أمسك بقدم أبيه بقوة وصارخ:

"ابي توقف هل ستقتل امي حقا؟"

لكن لوبراين دفع كلاينفير بعنف، دفعه بقوة خارقة حتى كاد أن يخترق الحائط خلفه، أسقطه على الأرض، فبصق كلاينفير دماء، جسده كان منهاراً وغير قادر على الحركة، وعيناه تتألم من الألم والخوف.

في تلك اللحظة، لوبراين طعن مازرين في حلقها، والدماء انهمرت بغزارة، الحزن والغضب في عيني كلاينفير توسع حتى كاد قلبه ينفجر، كان يحب أمه بجنون، لأنها كانت تلاطفه بلطف لم يعهده من قبل.

لم تظهر أي تعابير على وجهه الجليدي، لكن عينيه اتسعتا حتى سالت دموع، دموع صامتة لكنها مليئة بالألم.

وقف كلاينفير يحدق في جثة أمه، لا يكاد يصدق ما حدث، أفاق فجأة بصراخ مدوٍ، صدى صرخته ملأ الغرفة، شعره بدأ يتحول إلى الأبيض كثلج الشتاء، وهالة سوداء مظلمة خرجت منه ببطء، تغلفه كغيمة من الغضب والانتقام.

ظهرت بوابة صغيرة بجانبه، يده اليمنى مدّت داخلها، أخرج منها سيفاً لامعاً ينبعث منه ضوء قاتم غريب، انقض على لوبراين بقوة غير متوقعة، الهجوم كان عنيفاً ومدوياً، لكن لوبراين تفادا الضربة ببراعة، وعندما حاول الرد، تغير كل شيء حوله، بدأ يرى العالم من حوله مقلوباً.

فجأة، اكتشف أن جسده قُسم لنصفين، النصف العلوي يطير في الهواء، قبل أن يسقط بقوة مدوية على الأرض، صمت قاتل عمّ المكان.

سمع كلاينفير صرخة خافتة، التفت سريعاً ورأى خادمة تدخل الغرفة بخوف، لكنها لم تقدر على قول كلمة واحدة قبل أن يسقط رأسها على الأرض وتتدحرج، مسقطاً دماءه على البلاط البارد، وكان كلاينفير واقفاً صامتاً، يحدق بالمشهد بعينيه المتلألئتين بالغضب والبرود.

في النهاية، دوّى صوت القاضي في قاعة المحكمة بحُكم واضح، حاسم، لا يقبل النقاش:

"كلاينفير... بريء من جميع التهم الموجهة إليه."

ساد صمت ثقيل على المكان. مزيج من الدهشة والاستغراب والحيرة ارتسم على وجوه الحاضرين. بعضهم صمت من الصدمة، وبعضهم همس بكلمات غير مفهومة، والبعض الآخر بدأ يهم بالخروج، غير قادر على استيعاب ما حدث.

أما كلاينفير، فلم يظهر عليه أي تعبير. لم يبتسم، لم يتنهد، لم يرتجف. فقط... حدق أمامه، ثم بدأ يسير بخطوات ثابتة، مهيبة، نحو باب القاعة الكبير الذي انفتح له كما لو كان يفتح طريقًا نحو فجرٍ جديد... أو ربما ظلامٍ أعمق.

خرج من قاعة المحكمة، ومشى في شوارع المملكة العامة. الشوارع كانت هادئة، مبللة ببقايا مطر خفيف نزل في الليل، والأرض تفوح منها رائحة التراب المبلول. كانت أصوات الباعة، صراخ الأطفال، وصوت عجلات العربات الخشبية فوق الحصى الرطب، تُكوّن خلفية عادية لعالمٍ لا يعرف ما يدور في رأس ذلك الشاب الذي يسير بصمت في قلبه الجحيم.

مباني المملكة كانت مرتفعة، مزينة بنقوش حجرية تنطق بتاريخ طويل. الأعلام ترفرف فوق الأبراج، والمارة ينظرون إلى كلاينفير نظرات غريبة... بعضهم عرفه، بعضهم خاف منه، وبعضهم تجاهله تمامًا.

في تلك اللحظة... دوّى صوت في رأسه. كان صوتًا مألوفًا... خبيثًا... ساخرًا... ممتلئًا بالبهجة القاتلة.

"أنت خططتَ لكل ذلك، حقًا؟"

صوت هينراثير، الكيان المظلم الذي يسكن أعماقه، تسلل بسخرية إلى ذهنه، يضحك وهو يتحدث كمن اكتشف للتو أن صاحبه أشد منه ظلمة.

"قبل أيام، كنتَ ترسل الخادمة إلى غرفة مازرين باستمرار، لتجعل باقي الخدم يشتبهون بها... والآن هي مختفية، لأنها ببساطة في إجازة أرسلتها أنت إليها... وها هم يعتقدون أنها هربت بعد ارتكاب الجريمة!"

"هاهاهاهاهاهاهاهاها! أنت شيطان أكثر مني يا كلاينفير!"

كلاينفير لم يتوقف عن المشي، عيناه تحدقان إلى الأمام، دون تعبير، لكن صوته خرج باردًا، ميتًا من أي عاطفة، كمن يشرح نتيجة تجربة كيميائية:

《الإحتياط واجب... لقد رأيتُ نظرات والدي إلى أمي، كانت مليئة بالشك، منذ أيام. لم أكن مطمئنًا، فبدأتُ بإعداد خطة صغيرة. لم أكن أنوي استخدامها، لكن... الأمور انفجرت أسرع مما توقعت.》

《في النهاية... حدث ما كنت أخشاه، لكن... لا بأس، فقد أفادني هذا كثيرًا.》

صمت للحظة، قبل أن يضيف بصوت أثقل:

《كنت أحب ميريكو... نعم، وكنت أتردد في قتلها... فقط لأني أحبها.》

《لكن اليوم... عرفت الحقيقة.》

《في لحظة انهياري... عندما كنتُ أحتاج إلى نظرة، إلى خطوة واحدة منها فقط نحوي... أدارت وجهها بعيدًا. لم تكلّف نفسها حتى النظر إليّ. لم تسأل، لم تقترب، لم تتردد.》

《أي حب هذا؟》

الريح هبّت من أحد الأزقة، فارتفعت عباءته السوداء قليلاً، وهو يواصل المشي. الناس تفرقوا من طريقه دون وعي، كأنهم شعروا بهالة مظلمة تحيط بجسده، تهدد كل من يقترب.

عند زاوية أحد الأبنية القديمة، توقف للحظة، نظر إلى السماء الرمادية، ثم... ارتفعت زاوية فمه ببطء، في ابتسامة خبيثة، لا روح فيها.

《حسنًا...》

قالها بصوت خافت كأنها نذير موت.

《أنا موافق على عرضك، يا هينراثير...》

《لنكن معًا حكام الدمار لهذا العالم.》

وفي تلك اللحظة، مرّت سحابة كثيفة أمام الشمس، وأظلمت السماء فوقه قليلاً، كأن العالم نفسه ارتجف مما سمع.

الأصوات خفتت، الهواء أصبح أثقل، وكأن شيئًا وُلد للتو... شيء لا يشبه البشر... ولا يشبه الشياطين.

كان هذا... بداية كلاينفير الحقيقي.

2025/07/28 · 12 مشاهدة · 911 كلمة
نادي الروايات - 2025