الفصل السابع: ممرات من القسوة.
كان الطفل يمشي بخطوات متعثرة بين أزقة المدينة الموحشة، الشوارع كانت ضيقة ومتعرجة، تكسوها بقايا القمامة وأوراق الشجر اليابسة التي تقذفها الرياح بين الحين والآخر. الجدران المتداعية للمباني القديمة كانت مغطاة برسومات باهتة وألوان متقشرة، وصدى صوته المبحوح يتردد بين الجدران كأنه نداء ضائع. الهواء كان ثقيلاً برائحة العادم والغبار، وكل شيء حوله كان يعكس قسوة الحياة التي فرضتها عليه المدينة.
الطفل كان صغير السن، لا يتجاوز العاشرة من عمره، جلده شاحب ومليء بالوشوم والخدوش، ملابسه مهترئة ومتسخة تعبر عن حياته الصعبة. شعره الأشعث الأسود يتناثر على جبهته بشكل غير مرتب، وعيناه كانتا زرقاوين، لكنهما تحملان وهجاً غريباً يشبه حرارة نار خافتة، تحملان في داخلهما قصصاً من الحزن والتمرد على الواقع.
في إحدى الزوايا، لمح خبزة طازجة موضوعة على منضدة خشبية أمام محل صغير، فاقترب منها بخفة وابتسامة خجولة، ثم حاول سرقتها بسرعة لكن أحد الحراس قبض عليه فوراً.
انتفض الحارس بضراوة، وصوت ضرباته كان مدوياً، وجسد الطفل اهتز مع كل ضربة، لكنه لم يبكِ، بل صمت متحاملاً على الألم.
بعد أن تركه الحارس ملقى على الأرض، نهوض الطفل كان بطيئاً ومرهقاً، وهو يحاول جاهداً أن يجمع بقايا كبريائه الممزق.
حين استدار ليواصل طريقه وسط أضواء الشوارع الخافتة، ظهر أمامه رجل غريب الملامح، يقف بثبات كأنه جزء من الظلال، وجهه مبهم تعلوه هالة من الغموض، وملابسه الداكنة تضفي عليه وقاراً مخيفاً.
اقترب الرجل منه وقال بصوت هادئ لكنه حازم:
"هل أنت جائع؟"
نظر الطفل إليه بعيون واسعة، وكأن السؤال يدهشه لكنه يحمل في جوابه شيئاً من الرجاء.
"نعم... أنا جائع."
قال الرجل وهو يبتسم ابتسامة بسيطة لا تصل إلى عينيه.
"تعال معي، سأطعمك، لكن عليك أن تأتي معي."
تردد الطفل للحظة، يحدق في الرجل وكأنه يقيس مدى صدقه، ثم تحرك ببطء نحو الظل الذي رسمه الرجل بخطواته.
كانت السماء تغطيها سحب داكنة، والرياح تحرك أثواب الطفل الممزقة، لكنه لم يشعر بالبرد، فقط كان قلبه ينبض بخوف وأمل مختلطين.
المشهد ظل ساكناً، إلا من صدى خطواتهما على أرضية الحجارة القديمة، وابتسامة الرجل الغامضة التي لم تفارق وجهه.
في زقاق ضيق مظلم، كان المنزل الذي اقترب منه الطفل يبدوا وكأنه مبنى قديم من طين وحجر، نوافذه مغطاة بألواح خشبية مهترئة، والأبواب تبدو ثقيلة ومغطاة بطبقات من الغبار والعفن. الجو داخل المنزل كان بارداً ورطوبته تخترق الجلد، رائحة عفنة عفّت المكان، وصدى خطوات الرجل والطفل يتردد بين الجدران الباهتة.
دخل الرجل الغريب والطفل خلفه، وداخل البيت كانت الإضاءة خافتة، مصابيح زيتية معلقة على الجدران تنبعث منها وهجات ضعيفة من الضوء الأصفر، تحركت الظلال على الأسقف والجدران بشكل مخيف. الأرضية كانت من خشب مهترئ يصدر صريراً مع كل خطوة، والهواء محمل برائحة الرطوبة والغبار، وأصوات قطرات ماء تتساقط من سقف مهجور.
توقف الرجل فجأة ولفّ وجهه إلى الطفل، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة، كانت كأنها سكين باردة تلمع في الظلام.
قال بصوت منخفض وبارد:
"آسف يا فتى، لكن كلابي لم تأكل منذ أيام..."
ثم أشار بيده نحو باب في نهاية الغرفة، كان يؤدي إلى القبو، صوت خطوات ثقيلة نزلت نحو الدرج الحديدي الضيق، وداخل القبو كان الظلام دامساً، لكنه سمع أنين وكلاب تنهش الهواء، عيونها تتلألأ كالنجوم الحمراء في العتمة.
"كلابي في القبو... تعال معي لنطعهم معاً."
حاول الطفل أن يبتعد بسرعة، لكن الرجل قبض على ذراعه بقوة، عضلات يده كانت كالصخر، وألقى به مجدداً نحو الداخل، بينما نظراته كانت تشع بالتحكم والقسوة.
وفجأة، تحول المشهد بالكامل.
استيقظ شاب في غرفة صغيرة، بالكاد تدخل إليها أشعة الشمس من نافذة صغيرة مغطاة بجزء من الستائر الباهتة. الغرفة كانت مليئة بالفوضى، ملابس مبعثرة، وأوراق متناثرة على الأرض، وسرير قديم من الخشب مع مرتبة رقيقة تهتز مع حركة الشاب. الجدران مغطاة ببقايا ورق الحائط المقشر، والهواء يعبق برائحة العرق والغبار.
الشاب كان يرتدي قميصاً بسيطاً وقماشاً رقيقاً يغطي جسده النحيل، عيونه الزرقاء تلمع بخوف وقلق، وجهه الشاحب يتصبب عرقاً، شعره الأسود غير المرتب مبلل بالعرق، وكان يتنهد بعمق وكأنه يحاول طرد كابوسه المرعب.
قال بصوت مرتجف، وكأنه يهمس لنفسه:
"هذا الحلم... مجدداً؟"
سمع صوتاً من خارج الغرفة، كان صوتاً ذكورياً واضحاً، يحمل في نبرته أمرٌ وهدوء.
"يا إيدن، هيا، حان وقت الإفطار."
كان الصوت من غرفة المعيشة المجاورة، حيث كانت الأبواب مفتوحة على مصراعيها، ويمكن سماع صدى الأكواب وصوت خطوات تمشي على الأرضية الخشبية.
أجاب الشاب الذي اسمه إيدن ثورونيل بصوت خافت لكنه يملك قوة في كلماته:
"حسناً... أنا قادم."
خرج إيدن من غرفته بخطوات مترددة، الغرفة الثانية كانت أكبر وأكثر ترتيباً، بها طاولة خشبية صغيرة عليها أطباق تحتوي على خبز بسيط، زبدة، وبعض الفواكه المجففة، وكأس من الماء.
المنزل، رغم فقره الواضح، كان نظيفاً إلى حد ما، النوافذ القديمة تسمح بنفاذ ضوء الصباح، مما أضاف دفئاً خفيفاً إلى أجواء الغرفة.
جدران المنزل كانت مزينة ببعض الصور القديمة لإيدن مع عائلته، لكنها باهتة وممزقة، تحكي قصة غياب ووجع خلف الأبواب المغلقة.
وفي المطبخ القريب، سمع صوت حركة أو طبخ خفيف، بينما رائحة الخبز المحمص بدأت تتسلل إلى الأجواء، تشق طريقها نحو أنفاس إيدن المرتعبة، محاولاً أن يترك وراءه ظل ذلك الحلم المظلم، رغم أن أثاره ما زالت حاضرة في عينيه.
كانت الغرفة هادئة إلا من صوت الأطباق وهي تُوضَع بلطف على الطاولة الخشبية، يد الفتاة الصغيرة تتحرك بحذر، وكأنها تخشى أن توقظ شيئًا ما في المكان. الطاولة كانت متواضعة، فوقها صحنان من الحساء الدافئ، وبعض قطع الخبز اليابس، ورائحة خفيفة من الأعشاب المجففة.
إيدن جلس بصمت، عيناه الزرقاوان تراقبان البخار المتصاعد من الطعام، لكنه بدأ يأكل بهدوء، كأنه يأكل شيئًا لا طعم له، فقط ليسدّ جوعًا قديمًا، لا علاقة له بالجسد.
وقفت الفتاة أمامه، كانت ترتدي فستانًا بسيطًا باهت اللون، شعرها البني الطويل مربوط بشريط قماشي، وملامحها الطفولية تحمل شيئًا من الحزن المختلط بالرجاء.
قالت بصوت ناعم لكنه متهدج، كأنها تخفي خيبة:
"متى سنتزوج؟"
رفع إيدن رأسه ببطء، نظر إليها بعينيه اللامعتين، الزرقتين اللتين تحملان داخلهما طبقات من التعب والخوف القديم، ثم قال بصوت منخفض وهو يضع الملعقة بهدوء على الطاولة:
"الحالة سيئة حاليًا... وأنتِ تعرفين ذلك، يا موري. انتظري قليلًا فقط."
نظرت إليه موري بعينين لامعتين، شفتاها ترتجفان وهي تحاول أن ترسم ابتسامة، لكنها لم تكتمل، ثم قالت:
"حسنًا... سأنتظر، لكن عليك أن تُسرع. لقد انتظرتكَ طويلاً..."
ثم جلست أمامه بصمت، تراقبه وهو يأكل، وكأنها تخشى أن يختفي لو رمشت بعينيها.
كان الهواء بارداً في الخارج، والشوارع مغطاة بطبقة خفيفة من الضباب، ضوء الشمس بالكاد يتسلل عبر الغيوم الرمادية التي تملأ السماء. خطوات إيدن كانت هادئة وهو يخرج من المنزل، يحمل على كتفه حقيبة صغيرة ممزقة الأطراف، وبيده اليمنى قطعة خبز جافة يأكلها على عجل.
لم يلتفت خلفه، لكنه كان يعلم أن موري كانت تراقبه من النافذة، كعادتها كل صباح. وجهها الناعم، وملامحها البريئة التي تحمل الأمل، كانت الشيء الوحيد الذي يمنحه الصبر كل يوم، رغم الجوع، رغم الألم، رغم الحلم الذي ما زال يطارده.
الطريق إلى العمل كان طويلاً، مليئًا بالحفر، والناس الغاضبين، والكلاب الضالة. الشوارع مكتظة بالفقر والبرد، والروائح العفنة التي تخرج من الأزقة كانت تخنق كل من يمر، لكن إيدن لم يتوقف، لم ينظر لأحد، فقط كان يمشي بثبات وكأنه مربوط بخيط غير مرئي يقوده.
مرّ الوقت...
الليل بدأ يسدل ستاره، والسماء تحولت إلى لون رمادي داكن، تتخلله نجمات قليلة بالكاد تُرى. عاد إيدن متأخراً، خطواته كانت متعبة، وظهره منحني من الإرهاق. فتح الباب الخشبي المتهالك، ودخل إلى المنزل.
لكن...
تجمد في مكانه.
رائحة الدم ضربت أنفه كصفعة. الغرفة مضاءة بنورٍ خافت، المصباح الوحيد يتأرجح في السقف، يصدر صوت طقطقة خفيف مع كل حركة. عيونه الزرقاء توسعت، ووجهه شحب بالكامل.
على الأرض...
كانت موري.
ملقاة كدمية ممزقة، شعرها مبعثر على الأرض، ووجهها مغطى بالكدمات. ملابسها ممزقة، ودماؤها تسيل بهدوء من تحت جسدها الصغير، ترسم خطوطًا حمراء على الأرضية الخشبية المتشققة.
ركض نحوها.
ركبتيه اصطدمتا بالأرض بقوة، لم يشعر بالألم، كان كل شيء داخله ميتًا.
مد يده يرتجف، وضع أصابعه على رقبتها.
لا نبض، لا حرارة، لا حياة، كانت ميتة.
احتضن جسدها الصغير، ضغطها إلى صدره وكأن قلبه يحاول أن يعيدها، أن يُدفئها، أن يطلب منها أن تفتح عينيها... لكنها لم تتحرك.
صرخة خرجت من حلقه، كانت مختنقة، مكسورة، صرخة من لا يملك شيئًا... ولا أحد.
"موووووري!!!"
---
وفجأة...
ضربة عنيفة سقطت على مؤخرة رأسه، شعر بالألم ينتشر كصاعقة، لكن جسده قاوم السقوط. استدار بسرعة، يده ما زالت ترتعش من الصدمة.
رأى رجلاً.
رجلًا في منتصف العمر، شعره أشعث، عيناه مجنونتان، يمسك بخشبة سميكة، طرفها ملطخ بالدم.
سأل إيدن ببرود قاتل: "هل انت من فعلها؟"
ابتسم بخبث.
قال بصوت عفن، مليء بالقذارة:
"نعم... أنا من فعلها."
ضحك بخفة، ثم أكمل:
"كانت جميلة... لكنها ظلّت تقاوم حتى النهاية."
---
إيدن لم يتكلم.
عيونه الزرقاء لم تَرمش.
هدوء قاتل انبعث منه، وكأنه تحوّل إلى تمثال من حجر.
خطا خطوة للأمام.
ثم أخرى.
الرجل تراجع دون وعي، ابتسم بتوتر وقال:
"ه... هي كانت تصرخ... كان الأمر مسلياً..."
لكن لم يكمل كلمته.
رأسه...
تدحرج على الأرض، بسرعة، كما لو أنه انفصل عن جسده قبل أن يستوعب حتى ما حدث.
جسده سقط بجوار موري، بدون حراك.
وإيدن...
كان واقفاً فوقه، عيناه الزرقاوان تغليان بصمت، ويداه ترتجفان، وصدره يرتفع وينخفض، لكن وجهه... لم يحمل أي تعبير.
الدم كان يتساقط من طرف يده اليمنى، يقطر على الأرضية ببطء.
نقطة...ثم نقطة...ثم صمت.
بالمناسبة يا شباب إيدن من الناثريم. واتمنى ان يكون الفصل اعجبكم
وشكرا!☺️☺️