الفصل الثامن: لقاء الشياطين
في شوارع مدينة روزاني، كانت الغيوم تتلبد في السماء، والهواء بارد رغم أن الوقت لم يكن شتاءً. الناس ينتنقلون من حوله، حياتهم تمضي وكأن شيئاً لم يحدث. لكنه وحده، مختلف. يسير كمن يحمل العالم كله فوق كتفيه. نظراته زائفة، عيناه محمرتان من البكاء وملامحه باهتة، كأن روحه سُحبت منه قبل ايام، وترك خلفها جسداً تائهاً لا يعرف الى اين يتجه.
هذا هو إيدن. لم يتبقى له شيء. الفتاة التي احبها، ضحكتها، صوتها، دفء يديها، خططهما الصغيرة للغد، حتى اكواب القهوة التي كانا يشربانها سوياً على سطح منزلهما القديم... كل ذالك صار ذكرى. بل اكثر من ذكرى، صار ألما لا ينتهي.
كان يمشي دون ان يرى، رأسه منخفض، خطواته ثقيلة، وعيناه تتركان اثراً خلفه من الدموع التي لم يجففها.
وفجأة، اصطدم بشخص ما.
قال الشخص بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة تأنيب: 《انت انظر امامك وانت تسير.》
رفع إيدن رأسه ببطء، نظر الى وجه الشخص الذي اصطدم به. شاب اطول منه قليلا، شعره ابيض، ملامحه حادة، وعيناه تلمعان بحدة غريبة. كان يبدو قوياً، واثقاً، لكنه لا يحمل اي اهتمام للعالم من حوله. بدا وكأن لا شيء يمكن ان يؤثر عليه.
إنه كلاينفير.
كان إيدن لا يزال ينظر إليه بصمت، وكأنه لم يستوعب بعد ما حدث.
لكن كلاينفير نظر في عينيه، رأى الحزن، رأى الانكسار، رأى الحقد العميق الذي يغلي في داخله. ابتسم داخلياً، لكنه لم يظهر تعبير على وجهه لكنه في داخله شعر بشيء مثير للاهتمام.
قال بنبرة ناعمة غير مبالية:《تعال معي. يبدو ان لديك قصة تريد ان تحديها لأحد. أليس كذلك؟》
لم يرد إيدن فقط تبعه.
مشيا سوياً في صمت. المدينة كانت صاخبة حولهما، لكن بينهما كان هدوء غريب. لم يكن كلاينفير يتحدث، زلم يكن إيدن يسأل. فقط يتبع خطواته كأن هناك شيئاً داخله يجبره على ذالك.
وصلا إلي بيت صغير في أحد الأزقة الخلفية. لا يبدو مهجوراً، لكنه بعيد عن الأنظار. دخل كلاينفير أولا، ثم تبعه إيدن بتردد. كان المكان بسيطاً غير مرتب كثيراً، لكنه لا يشبه الأماكن البائسة. جلس كلاينفير على الأريكة وكأن البيت ملك له منذ سنوات، وأشار لإيدن ان يجلس بجانبه. جلس إيدن، وألقى بجسده ككن سقط من السماء للتو.
سأله كلاينفير بنبرة ثابتة: 《هيا، اخبرني. ماذا حدث لك لتبدو هكذا؟》
أخذ إيدن نفساً عميقاً. بدا وكأنه يقاتل نفسه حتى لا ينهار. ثم قال بصوت منخفض، ثقيل:
"كنتُ اعيش مع الفتاة التي احبها... كنا نخطط للزواج. كنا نحلم... انا وهي فقط. كنتُ اذهب للعمل كل يوم لأجلنا. لكنها... في احد الأيام... عدتُ من العمل فوجدتها... ميتة. ملقاة على الأرض. وملامح الخوف مرسومة على وجهها. ركضتُ نحوها، احتضنتها، بكيت، لم اصدق ما اراه... لكن... القاتل... كان لا يزال هناك... لم يكن قد غادر بعد... ضربني من الخلف... على رأسي... بخشبة كبيرة... غضبي... لم اتحمله. ثم قطعتُ رأسه."
ساد الصمت.
ثم قال كلاينفير، بنبرة خالية من المشاعر: 《اذن...كنتَ تعيش مع حبيبتك؟》
لم يجب إيدن.
فقال كلاينفير: 《ماهو اسمك؟ انا كلاينفير أثغارث》
رد إيدن بهدو:" إيدن ثورنويل"
سأل كلاينفير فجأة، دون تردد: 《هل تعرف الناثريم؟》
نظر إليه إيدن بسرعة، وتردد للحظات، ثم قال:" اجل... اعرفهم."
اقترب كلاينفير قليلًا وقال بنبرة حادة هذه المرة: 《هل انتَ من الناثريم؟》
تجمد إيدن. هذا السؤال لم يوجهه احد له مم قبل. لم يخبر احد بالحقيقة، لا حتى الفتاة التي أحبها. كان يخفي هذا السر طوال حياته. لكنه، لا يعرف لماذا، قالها: " نعم... انا من الناثريم"
ابتسم كلاينفير لأول مرة، ثم قال: 《جيد. والأن، استمع لي جيداً.》
سحب نفساً عميقاً، ونظر ألى عيني إيدن مباشرة، كأن ما سيقوله اهم من اي شيء اخر.
《من الجيد أنها ماتت》
تسمر إيدن. صدمة. عيناه اتسعتا، فمه فُتح قليلًا، لم يستوعب ما سمعه.
لكن كلاينفير اكمل:《لأن الحب عديم القيمة. وهم. خداع. ضعف. تجعلكَ تثق بشخص، تفتح له قلبكَ، ثم ماذا؟ يموت، يختفي، يخون، يكذب، او يضعف. أنتَ محظوظ يا إيدن، أنك رأيتَ الحقيقة مبكرًا.》
إيدن لم يرد، كان مذهولًا، لكنه لم يقاطعه.
《القوة، يا إيدن، هي الحقيقة الوحيدة. من يمتلك القوة، يصنع القواعد. من لا يمتلكها، يُسحق. الحب؟ لا قيمة له. إنه سلاح يستخدمه الضعفاء لخداع أنفسهم. لكنك الآن... أقوى من قبل، أليس كذلك؟ عندما قطعت رأس القاتل، شعرت بالقوة، شعرت بالسيطرة، شعرت أنك موجود. أليس كذلك؟》
إيدن... صمت. لم يجب، لكنه شعر بشيء داخله يتحرك. شيء خطير. كان يعرف أن كلام كلاينفير مظلم، شرير، لكن جزءًا منه... صدّق.
أكمل كلاينفير: 《إذا كنت ناثريم، فهذا يعني أن داخلك طاقة عظيمة. طاقة خام، غير مشروطة. وأنت الآن بلا قيود. بلا حب. بلا هدف. إذن، حان وقت صنع هدف جديد. هدفك سيكون: أن تفرض قوانينك. أن تبني عالمك، الذي لا مكان فيه للضعف. فقط القوة، فقط البقاء للأقوى.》
ثم قال وهو ينهض: 《اختر، يا إيدن. إما أن تبكي إلى الأبد، على فتاة ماتت ولن تعود، أو أن تتحول إلى شيء جديد. شيء لا يُقهر.》
إيدن ظل جالسًا. رأسه إلى الأرض. عيناه لا تتحركان، لكن عقله... يشتعل.
ساد صمت ثقيل في أرجاء الغرفة الصغيرة، لا يسمع فيه سوى صوت أنفاسهما المتقطعة. الهواء كان ركاداً وكأن الجدران نفسها تستمع للحديث الذي دار لتوّه بينهما. ملامح إيدن بدت وكأنها تتحول من الإنكسار الى الجمود. عينيه اللتان كانتا قبل دقائق كئيبتين، بدأت تنطفئ فيهما بقايا ما تبقى من الإنسان القديم الذي كان عليه. وكأن كلمات كلاينفير قد بدأت تنهش شيئا ما في أعماقه.
نظر إيدن الى الأرض بصمت، قبض بيديه على ركبتيه كأنه يحاول احتضان نفسه للحظة، ثم رفع رأسه ببطء شديد، وكأن هذا القرار يخرج من أعماق روحه المكسورة، وقال بصوت خافت لكنه مليء بالحسم: " انت محق يجب ان اكون أقوى وأقوى وأصنع قوانيني الخاصة.
كلاينفير، الذي كان يراقب تعابير وجه إيدن عن كثب، كاد ينفجر ضاحكاً كانت شفتاه ترتجفان بشدة، وعيناه تلمعان بنشوة غريبة. لكنه قاوم تلك الرغبة، قاوم ضحكته المجنونة بشدة، وضغط على اسنانه على بعضها البعض بصوت مسموع حتى كاد أن يجرح لسانه.
نهض من على الأريكة بحركة حادة، عدّل معطفه الأسود الطويل الذي كان ملتصقاً بجسده بسبب الرطوبة البسيطة في الغرفة، ثم مرر يده عبر شعره الأبيض الطويل الذي سقط على عينيه، وقال بنبرة فيها نبرة سخرية، ونظرة تحمل خبثًا لا يخفي على من يراقبه:
《اذا، اتبعني، أنت ستكون معي من الأن فصاعدًا، هيا... لدينا بعض الأعمال الخيرية هاهاها》
قال كلامته الأخيرة وهو يفتح الباب الخشبي الذي كان يصرّ صريرًا مزعجًا كلما تم فتحه، كما لو أن هذا الباب لم يُفتح منذ سنين. لم ينظر الى إيدن حين قالها، بل خروج بهدوء وهو يضع يديه في جيوبه. وكأنه يثق تمامًا ان إيدن سيتبعه دون تردد.
أما إيدن، فبقى جالسًا لثوانٍ، ينظر الى الأرض، لم يتحرك، لكنه شعر بشيء ما يتبدل داخله. إحساسٌ حارق يتسلل الى صدره، شيء يشبه الكراهية القديمة التي دفنها يومًا تحت ركام حبه لحبيبته، لكنه الأن... يشعر بأن هذه الكراهية بدأت تزدهر.
نظر الى المكان الذي جلس في كلاينفير، ثم نهض ببطء، دون ان يقول شيئًا، وتبع خطواته خارجًا من الباب ذاته. الهواء البارد صفع وجهه فور خروجه، لكنه لم يرتجف. فقط سار خلفه، كأن عقله أعيد برمجته للتو.
كلاينفير لم يلتفت، لكنه ابتسم بزاوية فمه ابتسامة خفيفة مليئة بالرضا. فهو يعلم أن اول خطوة نحو تدمير إيدن قد بدأت.
كان كلاينفير يسير بخطوات هادئة، يرافقه إيدن الذي بدا عليه شيء من الشرود. فجأة، توقفت أنظارهما على صوت نحيب خافت. كانت طفلة صغيرة تجلس القرفصاء على الأرض، تهزها شهقات متقطعة، وجهها الصغير غارق في الدموع. اقترب منه كلاينفير ببطء، ثم انحنى على ركبتيه، وإبتسامة هادئة ارتسمت على شفتيه.
《لماذا تبكين يا صغيرة؟》سأل كلاينفير بصوت حنون، يحاول أن يزيل عنها الخوف.
رفعت الطفلة رأسها الملطخ بالدموع وقالت بصوت متهدج: 《أمي ضربتني...》
قبل ان يضيف كلاينفير أي كلمة، ظهرت والدة الطفلة فجأة، تتجه نحوهما بخطوات كبيرة، وعلى وجهه علامات الغضب. أمسكت بيد ابنتها بقوة، وسبتها نوحها وهي تقول بنبرة حادة:《ألم أقل لكِ ألا تتحدثي مع الغرباء؟》
لم يبدو على كلاينفير أي انزعاج من حضور الأم المفاجئ. بل على العكس، اتسعت ابتسامته قليلا. التفت إلى الطفلة مرة اخرى، وعيناه تحملان نظرة غريبة.
《يا صغيرة، هل تريدين أن تتركي والدتكِ؟》
سأل كلاينفير بنبرة هادئة ومريبة في آن واحد.
ردت الطفلة، وعلى وجهها نظرة من البراءة المخلوطة بالإرتباك: 《اجل》
في تلك اللحظة حدث شيء غير متوقع. اهتز الهواء من حولهم للحظة، ثم انمحت علامات الشارع التي كانت تحيط بهم، ووجد الأربعة نفسهم فجأة في قلب غابة كثيفة. الأشجار الشاهقة تحيط بهم من كل جانب، وأشعة الشمس بالكاد تتسلل بين أغصانها المتشابكة ، مخلفة ظلالاً طويلة ومخيفة. لم يكن هناك اي سابق أنذار، ولا صوت ولا حتى حركة تدل على هذا الإنتقال الغريب.
قبل ان تنطق الأم بكلمة واحدة، او حتى تدرك ما يحدث، تحرك كلاينفير بسرعة مذهلة. انفتحت بوابة صغيرة بجانب يده اليمنى، صغيرة بما يكفي لتمرير سيف. ومن تلك البوابة، سحب كلاينفير سيفًا طويلًا لامعًا كالفضة، يعكس الضوء الخافت المتسلل بين الأشجار. في حركة واحدة سلسة ومروعة، رفع السيف عاليًا وأنزل به بقوة على عنق الأم. دوت صرخة مكتوبة ثم انقطع رأسها عن جسدها، ليسقط على الأرض كدمية مقطوعة الرأس، وتتبعثر الدماء على الأرض الرطبة
تسمرت الطفلة في مكانها، وعيناها الواسعتان تحملان رعبًا خالصًا لم تشهده من قبل. صرخت بصوت عالٍ، صرخة ممزوجة بالصدمة واليأس، وحاولت الركض بعيدًا، بكل قوتها الصغيرة. لكن كلاينفير كان اسرع. دون تردد، رفع سيفه مرة اخرى، وقسم الطفلة الى نصفين، لتسقط جثتها الصغيرة بلا حراك بجانب والدتها.
تغيرت ملامح كلاينفير بالكامل. اختفت ابتسامته الهادئة، وحلت محلها ضحكة مجنونة، بدأت خافتة ثم ارتفت لتملأ أرجاء الغابة المظلمة. ضحكة مجنونة، بدت وكأنها تخرج من أعماق جنون لا حدود له، كادت ابتسامته تتسع لتصل الى أذنيه.
《طفلة غبية!》قال كلاينفير بصوت عالٍ، لازال يضحك، 《كنتُ احاول مساعدتكِ، لكنكِ غبية! لكن اكن اخطط لقتلها لكنها كانت ستخبر الشرطة.》
ثم التفت إلى إيدن الذي كان يقف صامتًا طوال المشهد المروع، وعلى وجهه تعابير لا يمكن قرائتها.
《مارأيك بهذا العمل الخيري؟》سأل كلاينفير، وعيناه تلمعان بنظرة جنونية، ثم ارتسمت على وجهه تلك الابتسامة الملتوية التي تكاد تصل الى أذنيه، ابتسامة تثير القشعريرة وتكشف عن جنون عميق.
لم يستطع إيدن أن يتمالك نفسه، وبدأ بالضحك هو أيضًا وابتسامته توسعت لدرجة كبيرة.