الفصل التاسع: انا القانون
الضباب الكثيف كان يغطي الأزقة الضيقة في أحياء لندن الخلفية، لكنه بدأ ينقشع شيئًا فشيئًا مع اقتراب النهار. الشوارع، المرصوفة بالحجارة الرمادية المبللة، تعكس بصيصًا خافتًا من نور المصابيح الغازية التي لم تُطفأ بعد. عربات الخيل تمر ببطء، والخيول تنفث أنفاسها في الهواء البارد، والباعة الجوالون ينادون على بضائعهم بأصوات مبحوحة، لكن بين هذه الحياة اليومية… كان هناك ظلّان يسيران بخطى هادئة، كأنهما أشباح لا تنتمي لهذا العالم.
"ماهو هدفك يا كلاينفير؟" سأل إيدن بفضولٍ وهو يضع يديه في جيب معطفه المصنوع من الجلد الأسود، فوقه وشاح رمادي طويل يتمايل خلفه، وقبعته مائلة قليلاً على رأسه.
كلاينفير، ذو السترة القاتمة المخملية، ذات الأزرار النحاسية المنقوشة، والتصميم الملكي المتقن، توقف قليلًا، نظر نحو السماء الرمادية، ثم قال بصوت مبحوح وكأنه يبتلع جمرة:
"هممم؟ هدفي؟ هدفي هو الانتقام من أشخاص ليسوا من هذا العالم. أشخاص… كانوا الأعز عندي."
ضحك ضحكة متكسّرة، مجنونة، تتصاعد من صدره بتدرج مرعب، ثم تابع وهو ينظر إلى المجهول أمامه:
"كم أتوق لرؤية تعبير وجههم عندما يروني…"
تابع السير بخطى ثابتة، وبجانبه إيدن الذي كان يُلقي نظرات حذرة على كلاينفير بين الحين والآخر. دخلا شوارع أوسع، بها مبانٍ شامخة، نوافذها طويلة مقوسة، وحديدها المصقول يلمع برهبة. وصلوا أمام قصر فخم، ارتفاعه لا يقل عن أربعة طوابق، واجهته مزينة بنقوش ذهبية، وسلالم حجرية واسعة تقود إلى باب مزدوج ضخم مزين بشعارات ملكية.
هذا الفصر هو القصر الذي تعيش فيه ميريكو الفتاة التي كان يحبها كلاينفير.
بخطوات واثقة، دخل كلاينفير وحده، تاركًا إيدن في الخارج. تنقل داخل القصر كظل قاتم. الممرات كانت مضاءة بثريات معلقة، تتدلى من الأسقف الخشبية المزخرفة. الأرضية كانت من الرخام الأسود، وجدرانها مغطاة بلوحات زيتية ضخمة.
تسلل حتى اقترب من غرفة بابها مزين بخيوط ذهبية وأحجار كريمة صغيرة، وسمع من الداخل صوت خادمة تقول:
"سيدتي ميريكو، عليك أن ترتدي ملابس جميلة، فاليوم هو يوم خطوبتك."
ابتسم كلاينفير، لكن تلك الابتسامة لم تكن طبيعية… كانت متقوسة، متوترة، تحمل جنونًا خفيًا.
قال في نفسه:
"هينراثير… هل تفكر في ما أفكر فيه؟"
ردّ الصوت داخله بنبرة خبيثة:
"أنا بداخلك، يا فتى… من الطبيعي أن أفكر في ما تفكر به."
تراجع كلاينفير بسرعة، خرج من القصر، أمسك بيد إيدن بقوة، وسحبه نحو زقاق ضيق خلف القصر يؤدي إلى حديقة مهجورة. الحديقة، ذات الأعشاب العالية المتروكة، والمقاعد الخشبية المهترئة، وأغصان الشجر التي تلامس الأرض، كانت مكانًا لا يقترب منه أحد.
جلسا هناك، تحت شجرة ضخمة جذعها مشقق، وانتظرا ساعات بصمت.
قال كلاينفير أخيرًا وهو ينظر إلى إيدن بعينين مليئتين بالجمر:
"يا إيدن، انت ستشتت انتباه الحراس. أبعدهم عني قدر الإمكان. فهمت؟"
رد إيدن بحزم:
"أجل، فهمت."
في اللحظة التالية، اقتربا من القصر مجددًا، لكن هذه المرة من البوابة الخلفية. فجأة، ركض إيدن إلى الساحة، وأطلق كرة طاقة صغيرة زرقاء من كفه، انفجرت بقوة متوسطة عند أقدام الحراس. أحدهم صرخ:
"انتبهوا! أحد الناثريم هنا! اقتلوه فورًا!"
ركض إيدن بسرعة، وتبعته مجموعة من الحراس المدرعين، تركوا البوابة خلفهم.
في ذلك الوقت، اقترب كلاينفير من الباب الضخم المزين بزخارف نحاسية، يمد يده نحوه، لكن فجأة…
"هاي! توقف عندك!"
صوت عميق، ثقيل، مليء بالسلطة، جعله يلتفت.
رجل طويل، يرتدي درعًا أسود براقًا، عليه نقوش حمراء نارية، يضع خوذة تغطي وجهه بالكامل عدا عينيه، وفي يده اليمنى سيف طويل مستقيم، أما اليسرى، فكانت تحمل مسدسًا بلمعان فاحش.
قال هينراثير بسرعة:
"انتبه، يا فتى. هذا الفارس… يوجد بداخله أحد الشياطين العشرة."
كلاينفير زم شفتيه وقال في عقله:
"هممم؟ تقول أحد الشياطين العشرة موجود بداخله؟ إذًا، هل هو قوي؟"
رد هينراثير:
"إنه أضعف شيطان من بين العشرة، لكن لا تستخف به. فهو قوي حتى لو كان الأضعف… وأنت، لست قويًا جدًا بعد."
لم يرد كلاينفير، فقط نظر بتحدٍ للفارس الذي اندفع فجأة كوحش هائج، رافعًا سيفه.
ضربة أفقية بسرعة البرق!
انخفض كلاينفير في اللحظة الأخيرة، شعر بالهواء يقطع شعره. لكنه لم يكن مستعدًا للرصاصة التي أطلقها الفارس فجأة من مسدسه.
رصاصة معدنية استقرت في كتفه الأيسر، دوت صافرة الألم في جسده، تراجع بضع خطوات للخلف، ويده تضغط على الجرح، والدم يتساقط على أرضية الرخام الداكن.
"هوه؟ هذا مثير… أنت تستخدم السيف والمسدس؟ هممم؟ حسنًا… ليس لدي مسدس. لكن لدي سيف."
ظهرت بوابة أرجوانية صغيرة بجانب يده، كأنها ثقب في الواقع ذاته، وسحب منها سيفًا عريضًا بلون الفحم، حوافه حادة بزاوية غير مألوفة.
اندفع نحو الفارس، وضربه بقوة لكن الفارس صد الهجمة، شرارة ضخمة نتجت عن التصادم، وسُمع صوت احتكاك المعدن بالمعدن.
لكن من الجهة اليمنى، جاءت ضربة مفاجئة!
تفاداها كلاينفير في اللحظة الأخيرة، قفز للوراء، ووقف بثبات، ليجد خمسة حراس يقفون بجانب الفارس. دروعهم أقل سمكًا، وأسلحتهم متنوعة بين السيوف والخناجر والمسدسات.
قال هينراثير بنبرة هادئة:
"يا فتى… هؤلاء الحراس الخمسة، يوجد بداخلهم شياطين أيضًا… لكنها شياطين عادية. ليسوا من الشياطين العشرة."
فجأة…
بوووووم!
طلقة نارية! رصاصة تخترق جبهة كلاينفير من الجانب!
جسده ارتجف، ثم سقط أرضًا.
ضحك الحراس، خفضوا أسلحتهم، بعضهم قال:
"انتهى الأمر."
لكن الفارس، ظلّ واقفًا، مسدسه لا يزال موجهًا نحو جسد كلاينفير.
رمش بعينيه. ثم اختفى الجسد. لمح شيئًا خلفه. استدار بسرعة.
وجه كلاينفير كان أمام وجهه مباشرة. عيون مفتوحة بشكل جنوني. ابتسامة متوترة تمتد حتى أذنيه. لم يكن جرح الرأس موجودًا!
رفع الفارس مسدسه بسرعة، أطلق رصاصة، لكن كلاينفير تحرك بمرونة لا تصدق، كأنه دخان حي، تفادى الطلقة، وركل يد الفارس بقوة حتى سقط السلاح.
قفز إلى الخلف، سيفه يتوهج بلون أحمر الآن، كأنه يستجيب للدم.
لكن الحراس أيضًا رفعوا أسلحتهم… وبدأت معركة حقيقية.
انطلقت أولى الطلقات من مسدسات الحراس الخمسة، صوت الرصاص تمزج مع صوت الريح بين أعمدة القصر، الشرر يتطاير كلما اصطدمت الرصاصات بجدران الرخام أو تمزقت عبر الستائر الحريرية العتيقة.
كلاينفير لم يركض.
هو فقط… مشى.
خطوته بطيئة، واثقة، كأن الرصاص لا يعني شيئًا.
مرّت رصاصة بجانب رأسه، وأخرى مزّقت حافة سترته، لكنه لم يرمش.
رفع سيفه في اللحظة التي اقترب فيها أول حارس.
ضربة عمودية مباشرة للأسفل!
لكن كلاينفير انحرف بجسده نصف انحراف، وضرب السيف من جانب، فأفقد الحارس توازنه، ثم دار حوله بسرعة لا تصدق، وغرس سيفه في خلفية عنقه.
صرخة مكتومة.
ثم صوت ارتطام جسد بالموزاييك البارد.
لم ينتظر البقية.
قفز إلى الأمام، سيفه يقطع الهواء بخفة وخطورة، هاجم الثاني من الأسفل للأعلى، الضربة مزّقت الدرع النحاسي كأنه ورق، الحارس تراجع، لكنه لم يسقط، رفع خنجره في محاولة يائسة، لكن كلاينفير استدار بشكل نصف دائري، ركل ركبة الحارس لداخل جسده، فسمع صوت كسر خافت، ثم وجه ضربة قوية بقبضة يده الأخرى على فك الحارس حتى طار للخلف واصطدم بالجدار الحجري.
"ما هذا بحق الجحيم؟!" صرخ الثالث وهو يصوب مسدسه.
لكن قبل أن يضغط الزناد، كان كلاينفير قد تحرك بالفعل.
ركض نحوه بخطّ متعرج، جعل من الصعب التنبؤ بحركته، وعندما اقترب… لم يطعنه.
بل أمسك بمسدسه، ووجّهه مباشرة إلى جبين الحارس ذاته.
"اطلق." قالها بصوت هامس، أقرب للوسوسة.
الرجل تردد.
ثم ضغط الزناد.
لكن السلاح كان فارغًا.
ابتسم كلاينفير ابتسامة واسعة وهو يقول:
"أغلب من يقتل… لا يتأكد إن كان يحمل الرصاصة الأخيرة."
ثم غرس سيفه في صدره ببطء، كأنه يعاقبه على غبائه، لا على عداوته.
في هذه اللحظة، تحرك الحارسان المتبقيان معًا، أحدهما يحمل رمحًا مزدوجًا، والآخر خنجرين قصيرين.
رمى حامل الرمح برأس رمحه نحو كلاينفير، الذي انخفض أرضًا، دحرج جسده للخلف، وقفز، ضرب السقف برجليه، ثم ارتدّ منه كالظل، وانقض على حامل الخنجرين.
لكن الخنجرين انطلقا في هجوم متقاطع بسرعة!
واحدة من الضربات جرحت خاصرته، لكن كلاينفير أمسك بمعصم المهاجم، ثم قام بحركة دوران مع السيف، قطعت الذراع كاملة.
الرجل صرخ، وقال الى الفارس " ساعدني يا كروماتن" لكن لم يطل صراخه، لأن السيف الثاني أنهى حياته.
بقي الفارس الأسود.
عيناه تراقبان كل شيء، ثابتتان.
وببطء… بدأ يتقدم.
"أيها الفتى…" قال بصوت خافت، لكن فيه نبرة متعجرفة:
"كل هؤلاء ماتوا… من أجل ماذا؟ ما غايتك؟ هل الانتقام؟ هل الغضب؟ هل فقدان العقل؟"
توقف كلاينفير.
أخذ نفسًا عميقًا، والدم يسيل من خاصرته، من كتفه، من جرح في عنقه، لكنه واقف.
رفع عينيه إلى الفارس، ثم قال بهدوء:
"لست أسعى للانتقام من هؤلاء الحمقى انا كنت اريد زيارة صديقتي القديمة ميريكو لكنكم من اعترضتم طريقي… جميع البشر لا يدرك ان القوة هي من تحكم، القوة لا تحقق العدالة بل تكتب التاريخ بإسمها الأقوياء هم ين يكتب اسمهم في التاريخ حتى لو كانو اشراراً اما الضعفاء... فموتهم حتى ينسى."
صمت لثوانٍ، ثم تابع بصوت مملوء بالاحتقار:
"والانتقام ليس تعويضًا. هو إعلان. أنك لم تمت… وأنك عرفت الحقيقة."
الفارس صمت للحظة. ثم قال:
"فلسفة مريضة."
رد كلاينفير وهو يشد قبضته على سيفه:
"بل هي أنقى من كل فلسفات هذا العالم… لأنها الوحيدة التي لا تحتاج لأحد أن يؤمن بها. فقط… شخص ما زال حيًا بما يكفي ليجعل العالم يدفع الثمن."
وبدأت المعركة الحقيقية.
واشتعل الجحيم بين سيفين… وقلبٍ واحد لا يعرف الرحمة.