2 - الفصل الثاني: رماد لا يبرد

الهواء كان أثقل من المعتاد.

كأن الأرض نفسها قد اختنقت من صمتها الطويل، وكأن الرماد العالق في السماء قرر أن لا يسقط… بل يراقب. في أرضٍ لا تُشرق فيها الشمس إلا كزائر ثقيل، كان "لي شوان" يتحرّك بخطى متزنة، باردة، كما لو أن جسده قطعة من الفولاذ تشق طريقها عبر الطين والرماد. لكن داخله؟ كان جحيماً يغلي.

قبل يومين فقط، ظهر ذلك الغريب. عيونه ليست من نار، بل من إرادة خالصة. نظرة واحدة كانت كافية لزعزعة سكونٍ عمره سنوات. كلمات الرجل لم تكن نبوءة، بل حكمًا ، لا يُستأنف.

"سيرتفع سيد الجحيم... لكن ليس كما يتوقعون."

ومنذ تلك الليلة، لم يعد "لي شوان" كما كان. شيء ما بداخله انكسر... أو وُلد.

وقف أمام بحيرة من الحمم، ليست ماءً ولا نارًا، بل شيء بينهما. حمراء كالدم، متوهّجة كقلب عاشق للخراب. كان المكان يُعرف بين سكان الأرض السفلى باسم: "مرآة الأصل" ، وهم قلة. قلة تعني: من لم يموتوا بعد.

يُقال أن من ينظر في مرآة الأصل... يرى نفسه كما هو حقًا. بلا أقنعة. بلا ماضي. بلا آمال.

فعل "لي شوان" ما لم يفعله أحد من قبله منذ قرن: نظر فيها.

وللحظة، لم يرَ وجهه، بل رأى ذئبًا يحترق… وعيناه، نفس عينيه. ثم رأى الذئب يبتسم. ثم… ينطق.

"أنت أنا، لكنك لست جاهزًا بعد."

تراجع، قلبه يخفق، ليس خوفًا… بل رفضًا. رفضٌ لحقيقة لا يريد أن يواجهها.

أيّ نوع من الكائنات أنا؟ أأنا بشرٌ مزروع بالنار؟ أم شيطان خُلق ليكون إنسانًا؟

لم يكن لديه الوقت ليجد جوابًا. لأن العالم، كما لو أنه تنصّت على أفكاره… قرر أن يرد.

زلزال. كبير. صوت صرخات تخرج من جوف الجبل. لكن لا بشر هناك. فمن يصرخ؟

ركض.

لي شوان لا يخاف، لكنه يعرف متى يتراجع . ركض، وبينما الجبل ينهار خلفه، خرج منها.

دودة. ليست ككل دودة. سوداء، طويلة، بعيون لا تُعدّ ولا تُحصى. خرجت من شقٍ في الأرض، تبصق رمادًا، تهمس بكلماتٍ بلغة لا تُقال، بل تُشعر.

"الدمار آتٍ... سيد الجحيم، احترس من مرآتك."

لم يكن يعرف "لي شوان" إن كانت تهديدًا أم تحذيرًا. لكنها اختفت… كما ظهرت.

في الليلة التالية، استراح داخل كهفٍ من الحمم المتجمدة. العالم كله كان صامتًا… إلا داخله.

بدأ يتذكّر. صوت الرجل الغريب. المرآة. الدودة. والكلمات…

"أنت لست ما يظنونه." "احترس من مرآتك."

من أنا؟ ولماذا تحذّره تلك الكائنات؟ أيّ طريق أسلك، إذا كانت الحقيقة نفسها تختبئ خلف الظلال؟

في اليوم الثالث، قرر النزول أعمق. في قلب البركان، هناك "قبو السلالة المنسية" ، مكان لا يدخله إلا المجانين... أو الملعونون.

كان يعرف أنه لن يخرج كما دخل.

"قبو السلالة المنسية" ليس قبوًا بالمعنى الحقيقي. بل نسيج من الكهوف الملتفة، تموت فيها قوانين الطبيعة، وتتغذى فيها الأرواح على الكذب.

في داخله، تتوه الروح قبل الجسد. ويُقال: من يضيع اسمه هناك… لا يُعرف بعدها أبدًا.

لكنه دخل. وبعد خطوات معدودة… سمع الصوت.

ضحكة. ضحكة خفيفة، أقرب لطفل، لكنها خبيثة… مليئة بكل ما يمكن أن يحمله الظلام من مكر.

ثم ظهر الكيان.

كان ظلًا، لكن له جسد. كان حيًا، لكن له رائحة الموت. وكان يعرف اسمه.

"لي شوان... كم تأخرت."

نظر إليه "لي شوان" دون دهشة. في هذا العالم، أن تعرف يعني أن تموت ببطء. أما أن تفهم … فذلك يعني أنك بدأت تُولد من جديد.

سأل بصوت خافت: "من أنت؟"

أجاب الظل:

"أنا أنت... لو لم تختَر أن تقاوم."

حينها فهم.

ليس كل ما في هذا القبو خرافة. بعضه… حقيقة.

بدأت الأرض تهتزّ. وكان عليه أن يقرر: هل يواجه ذاته، كما ظهرت أمامه؟ أم يهرب ويعود للجهل المريح؟

لكن "لي شوان" لم يُخلق ليهرب. نظر في عيني ظله، وقال:

"إن كنت أنا… فاسمح لي أن أدمّرك."

ثم اشتعل.

لم يكن قتالًا جسديًا. بل حربٌ بين إرادتين. واحدة تريد أن تُبقيه كما هو، والأخرى… تريد أن تولد.

اشتعل الجسد. وانفجر المكان. وحين انتهى كل شيء، كان "لي شوان" وحده، لكن وجهه… لم يعد كما كان.

نظرة جديدة، صامتة، واثقة. لا غضب، لا حيرة، لا خوف. كان يعرف الآن.

خرج من القبو، يحمل شيئًا لم يكن لديه من قبل: غاية .

ليس الانتقام. ولا المجد. بل… الانقلاب.

السماء؟ سترتجف.

الطُهر؟ سيتلوّى.

و"لي شوان"؟ سيُكتب اسمه، لا كـ"ذئب الجحيم"… بل كأول من جعل الرماد طريقًا إلى العرش.

عرش لم يُصنع من ذهب… بل من الجحيم ذاته.

نهاية الفصل.

2025/07/15 · 5 مشاهدة · 663 كلمة
Just a writer
نادي الروايات - 2025