بدأ الثعبان الأسود يغرس أنيابه الضخمة في عنق "لين".
كل نابٍ كان يحقن سُمًّا يحرق أنسجته من الداخل، فيما كان "لين" يحاول التملّص، لكن جسده كان مقيّدًا بالكامل، وكأن الثعبان يلتفّ حوله ليعصره ببطء.
صرخ من الألم، فغرس الثعبان أنيابه أعمق، كأنه يحاول اختراق جسده... والدخول إليه.
ثم... اختفى الثعبان فجأة.
سقط "لين" على الأرض ممسكًا بعنقه الملتهب، وبصق دمًا أسودَ أحرق الأرض حيث سقط.
قفز إلى داخل البركة محاولًا تخفيف تفاعل السمّ داخله، لكن الألم لم يكن جسديًا فقط... كان أعمق.
قلبه يضيق.
السمّ يذيب شيئًا في داخله... شيئًا غير مرئي.
وفجأة، بدأ كل شيء حوله يظهر بوضوحٍ مخيف.
كأنه يسمع صوت كل قطرة ماء تسقط في البركة.
ثم... اختفى الألم.
نظر إلى انعكاسه في الماء، فرأى وشمَ ثعبانٍ أسود يمتدّ على يديه، يتّجه رأسه نحو العنق، حيث برزت عينُ الثعبان بلونٍ أزرق متوهّج في وسط السواد.
تعمّق "لين" في تأمل انعكاسه في سطح البركة التي امتصت أغلب السمّ، وقد صارت تعكس الضوء من نقائها.
رأى عينيه تتحوّلان من الأسود إلى الأزرق، تلمعان كالعقيق المضيء... ثم تنطفئان لتعودا إلى السواد.
صرخ:
"تبًّا! لقد دخل الثعبان جسدي!"
ثم... دار العالم من حوله فجأة، ليسقط فاقدًا للوعي.
انفتح باب الحجرة الصخرية بهدوء، ودخلت الملكة.
خلفها خادمتان تمشيان بصمت، كأنهما ظلّان لها.
توقفت عندما رأته مُلقى على الأرض، ثم انحنت قليلًا، تتفحصه وكأنها تقيّم نتيجة تجربة ما.
ابتسمت ببرود وهمست:
"رائع..."
تمتمت وهي تنحني أكثر بعينٍ باردة.
"أصبحت أكثر وسامة، ووشم ڤاسثيرا يليق بك. حتى مانتك... ازدادت. يبدو أن اختياري لم يكن سيئًا هذه المرة."
وقفت ببطء، يداها خلف ظهرها، وعيناها تلمعان بنظرة لم يكن عقل "لين" الغائب قادرًا على تفسيرها.
"أجل..." همست، كمن يحدّث نفسه.
"كنتُ محقة حين قررت أنك ستكون زوجي."
ثم استدارت نحو الخادمتين الواقفتين كتمثالين من صقيع:
"خذوه إلى الحمّام. نظفاه جيدًا... وألبساه زيّ الوريث."
فتح "لين" عينيه داخل الماء، أنفاسه متقطعة، وجسده يرتجف.
كان الدفء غريبًا... كأن البركة تبتلعه لا لتنعشه، بل لتروّضه.
نظر حوله بحدة، ليجد الخادمتين تجلسان قربه بصمت.
ارتبك حين أدرك أنه عارٍ تمامًا، فسحب أول قطعة قماش قريبة وارتداها بسرعة، نظرته حادة، وصوته أجش:
"ما الذي كنتما تفعلانه بي؟"
لم تأتِ أي إجابة. فقط تبادلتا نظرة قصيرة، ثم أعادتا عيونهما نحوه ببرود.
قال بغضبٍ مكبوت:
"قلت اترُكانني."
إحداهما أجابته بصوت ناعم، ثابت:
"الملكة أمرتنا ألا نتركك وحدك."
حدّق بهما للحظة، ثم فجأة أمسك بإحداهما من رقبتها ورفعها، قبل أن يرميها داخل البركة.
لكن صوتًا ناعمًا، جافًا، قطعه:
"هل انتهيت؟"
التفت، ليجد الملكة واقفة عند الباب، تنظر إليه بنصف ابتسامة.
"أهذا أول ما تفعله عند استيقاظك؟"
حاول "لين" مهاجمتها، فاردا يده وشاحنًا إيّاها بالمانا السوداء كأنها سكين، لكنها أمسكت يده بثقة، ثم لوت ذراعه.
شعر "لين" بالخوف.
قام بلفّ ذراعه وتمكّن من الإفلات، وقفز للخلف متراجعًا، وقد أدرك أنه لا يُشكّل لها أي تهديد.
قالت الملكة بابتسامة شرسة:
"رائع... أنا أحب الصيد.
لو خضعت لي دون قتال، لكنتُ قد مللت.
أنتَ تثبت لي أنك الزوج المثالي."
صرخ "لين":
"أنا لست زوجك، أيتها الـ... الثُحلية!"
احمرّ وجه الملكة من الغضب، وفجأة ظهرت بجانبه، موجّهة لكمة نحوه. شعر "لين" بالخطر، فأضاءت عيناه باللون الأزرق، ودار بجسده بلا وعي ليتفادى الضربة القادمة. نظر خلفه، ليجد فجوة ضخمة قد ثُقبت في الجدار الجليدي، ممتدة إلى شرخ عميق في الغرفة... لقد تفاداها في اللحظة الأخيرة
ثم قامت بالوقوف خلف لين دون أن يلحظ.
شعر لين بخطرا خلفه .
ليدرك لين بأنه لا يملك اية فرصة أمامها.
رفع يديه وقال:
"أنا... أستسلم."
واكمل في سره: " تبا إنني ما زلت ضعيفا"
ابتسمت الملكة بخفة:
"أين اختفت مقاومتك؟"
قال لها:
لن استطيع هزيمتك، انا اعرف حدودي، هل تريدين مني أن اهاجمك لكي يتم إبراحي ضربا.
ردت عليه إذا لماذا هاجمت من الاول.
رد لين لاري كم تقدم مستواي.
ثم أردف قائلًا، بصوتٍ متعب وكسول:
"هل يمكنني... الحصول على شيء آكله؟ كما أريد رؤية أشيائي.
ردّت عليه بنبرة باردة:
"سأمهلك قليلًا قبل بدء مراسم الزواج لتناول الطعام."
قال لين: "ماذا عن أشيائي؟"
أجابت: "لقد تركتها عندما وجدتك."
قال لين بتنهيدة: "حسنًا... تبا! خناجري وكتاب السحر..."
التفت لين إلى الخادمة الواقفة بجانبه، وقال بصوت منخفض لكنه حازم:
"خذيني إلى غرفتي."
وقبل أن يتحرك، أدار رأسه نحو الملكة، ومن عينيه انطلقت نظرة حادة تحمل خليطًا من التمرد والتحدي،
لتلتقي بنظرتها، تلك التي اشتعلت فيها عيناها الحمراوان بتوهج قرمزي كجمرتين ساكنتين، بينما ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة تخفي أكثر مما تُظهر.
١سار لين خلف الخادمة، وهو يلتفت في كل اتجاه متعجبًا من اتساع القصر، فكان أكبر وأفخم من قصر عائلة فروست بكثير.
حين دخل لين غرفته، تجمد قليلاً من الدهشة.
الغرفة كانت تحفة فنية حقيقية؛ جدرانها من الحجر الأبيض الناعم، مزينة بنقوش ذهبية متقنة تعكس تاريخ القصر وعظمته، وتُحيط بها أرفف خشبية قديمة تحمل كتبًا قديمة ومتنوعة.
سقف الغرفة كان مرتفعًا، مزينًا بزخارف عتيقة ونجفة كريستالية تنثر أضواء خافتة، تضفي جواً من الدفء والهدوء.
أما الأرض فكانت مغطاة بسجادة كبيرة ذات ألوان غنية وتفاصيل دقيقة، توحي بالفخامة والراحة.
لكن أكثر ما أثار دهشته هو غياب النوافذ!
لا شباك واحد يفتح على الخارج، وكأن الغرفة مصممة لتكون معزولة تمامًا عن العالم الخارجي، مما منحها جوًا من الغموض والاحتباس، وكأنها قصر صغير داخل القصر نفسه.
أحضرت الخادمة الطعام إلى لين، فوضعته أمامه بهدوء.
نظر إلى الطبق، ليجد قطعًا من اللحم النيئ تقطر دمًا.
تجهم وقال:
"ما هذا؟"
أجابت دون أن ترفّ عينها:
"لحم إيل."
قال وهو يحدق في القطع الحمراء:
"لكنه غير مطهو."
ردّت ببرود:
"هو يُؤكل هكذا."
زفر لين بضيق، ثم قال:
"أحضري نيرانًا، سأشويه."
رفعت الخادمة حاجبًا وقالت بنفس النبرة الهادئة:
"لا يُشوى، هكذا يؤكل."
تمتم غاضبًا:
"تبا..."
ثم جلس بعينين مضطربتين ، وبدأ بمضغ قطعة من اللحم وهو يضغط على أسنانه، ملامح الاشمئزاز ترتسم على وجهه.
"تبا... أنا أفتقد طعام عالمي..."
وبعد لحظات ثقيلة، انتهى أخيرًا من الأكل، ودفع الطبق بعيدًا بتنهيدة طويلة.
ثم نظر لين إلى الخادمة التي لا تزال واقفة بصمت قرب الباب، وقال بنبرة حادة منخفضة:
"هل ستظلين واقفة هناك؟ أريد بعض الخصوصية."
انحنت قليلًا وردّت ببرود:
"الملكة أمرتني ألا أتركك وحدك."
رفع حاجبه ساخرًا، ثم قال بصوت خافت لكنه مملوء بالتهديد:
"هل تودين مني أن أخلع ملابسي وأقترب منك، ثم أصرخ بأنكِ حاولتِ الاعتداء عليّ؟"
لم ترد. حدّقت فيه لحظة بعينين خاليتين من الانفعال، ثم استدارت بهدوء وخرجت من الغرفة، وأغلقت الباب خلفها بصمت ثقيل، يشبه صفعة غير مرئية.
وقف لين للحظة يحدق في الباب، ثم اقترب منه ببطء، ووضع أذنه عليه ليتأكد.
صمت تام.
تنهد بارتياح، ثم بدا:
يهمس، أيها المنسي هل تسمعني ، قل اي شئ، أو ساهلك أنا هنا.
آتي صوت المنسي للين وقال له ماذا تريد .
قال لين: "كيف أستطيع الهروب من هنا؟"
ردّ عليه المنسي: "لا أستطيع مساعدتك حالياً، فجسدك ضعيف. لا يمكنني استخدامه، لأنك إن فعلت، سيموت جسدك وتختفي روحك. كما أنك غير مؤهل بعد لتعلُّم أي تقنيات. أضف إلى ذلك أنني أوقفت لعنتك مؤقتاً حتى نصل إلى المهول، لأنني إن تركتها تعود، فلن استطيع ايقاف عودتها مجدى.
قال لين: "تبا! إن لم أهرب من هنا، فستنتهك تلك السحلية جسدي!"
ردّ المنسي: "ماذا لو أوقفتُ حمايتي للعنة الخاصة بالمهول في ليلة زفافك؟ عندها ستهاجمك اللعنة، أنت وتلك الثعبانة، وقد تكون تلك فرصتك الوحيدة للهروب… بسبب موتها."
بمجرد أن سمع لين كلمة "اللعنة"، بدأ جسده يرتجف، وصرخ وهو يرتعش من الخوف:
"لا… لا… لا…
كل شيء إلا هذا… لا أريد العودة إلى ذلك المكان…
لا… لا… أي شيء إلا ذلك الهراء…
تبا… ما الذي أتى بي إلى هذا العالم؟
لماذا أتيت؟!"
قال المنسي بنبرة حاسمة: "سأنهي هذا الحديث الآن. لا يمكننا مواصلة النقاش، فجسدك لن يتحمّل. ودرعي الروحي على وشك الانهيار، فقوتي ضعيفة جداً حالياً. كما أنني أستهلك جزءًا منها فقط لأمنع تأثير كلامي من تدمير عقلك."
وضع لين يديه على رأسه، وهمس بصوت مرتعش:
"كل هذا بسبب تلك الأشياء… أنا… أنا لا أريد رؤيتها مجددًا…"
تماسك فجأة، وصفع نفسه بقوة، ثم صاح بصوتٍ عالٍ:
"تماسك، أيها الوغد!"
ثم بدأ يعصر ذهنه، محاولًا رسم خطة للهروب…