تردّد صوت المنسي في الأرجاء:
"لا بأس بك."
تجمّدت أزارين.
كان العرش الأوبسيديني يخفق بتهديد صامت، والكائن الكامن في أعماق لين—ذاك الذي نسيه الزمان—حوّل نظره نحوها.
ارتجفت روح أزاريـن خوفًا.
"لم أقتلك حين دخلتِ جسده في الأطلال. لكن لتجرؤي على تقويضه، حتى إلى حد تعريض حياته للخطر…"
لم يرتفع صوته، ولم يكن بحاجة إلى ذلك.
رفع إصبعين.
انفجر رمز مظلم متوهج، تتماوج داخله رُقى محرّمة. انطلق كالرمح، واستقرّ في جبين أزارين بومضة من لهب أسود.
"هذه أول وآخر تحذير."
كان صوته أعمق من أي شفرة.
"حاولي التلاعب به مجددًا أو تعريض حياته للخطر، وسأمحوك بلا تردّد."
تراجعت أزاريـن مترنّحة، لكن ساقيها عصتا على الحركة. ثقل حضوره كبّلها في مكانها.
ثم اكمل بقوله: "أنتِ على قيد الحياة الآن لأنكِ مفيدة لي."
انخفض صوته أكثر، وازداد برودة، حتى صار يُحسّ أكثر مما يُسمع، يهدر في نخاع عظامها.
"لقد دخلتِ هذا الجسد. وفتحتِ نفسك لروحه. استعدّي لما سيأتي، فأنتِ لا تعرفين أن هذا الجسد ينتمي لعشيرة النوكتارين."
حاولت أزاريـن الكلام دون أن تلتقي بعينيه:
"ومن هم؟"
"فقط كوني مستعدة للعنة."
قام المنسي بطرق بأصابعه.
ليتحطّم الواقع.
و اندفعت الظلمة إلى الداخل، تبتلع كل شيء.
انهارت أزاريـن.
شهقت.
انفتحت عيناها بسرعة، وقلبها يخفق بعنف بينما اتضحت رؤيتها.
أي لعنة كان يقصد؟
جلس لين أمامها، يحدّق بصمت وقد ارتسمت على وجهه لمحة ارتباك خفيف. أمال رأسه قليلًا، وكأنه يتساءل إن كانت قد فقدت عقلها.
ارتجفت.
ما زال أثر ذلك الصوت يلتصق بجلدها مثل الرماد.
هل كانت مستيقظة؟ أم ما زالت داخل عالَم الروح؟
تنفّست بعمق وبشكل متقطّع، وأجبرت نفسها على استعادة هدوئها.
ثم جلست ببطء وحذر.
"سأساعدك على النمو"، قالت بصوت أكثر ثباتًا. "تحمل علامة فاستيرا. سأوقظ إمكاناتها."
مرّت الأيام.
استؤنف التدريب—وأصبح أصعب مع كل يوم يمرّ.
تحت إشراف إيلينيوس، درس لين التقنيات الأساسية لعشائر الأفاعي: كيف يتحرك بدقة، كيف يلتفّ ويضرب ويختفي، وكيف يطوّع جسده بالمانا كعمود فقري ثانٍ.
أما تحت إشراف أزاريـن، فخاض أعماق أسرار فاستيرا، متمكّنًا من كل تقنية محرّمة تكشفها له.
اشتدت عضلاته وصارت أكثر صلابة، وتضاعفت سرعة ردّات فعله. أصبح بصره أبرد، وأكثر تركيزًا. ودمه… بدأ يتذكر ما كان عليه من قبل.
ظلّ المنسي صامتًا، لكن ظلاله لم تغب عنه لحظة.
كل حركة، كل نفس، كان مشبعًا بالطاقة.
تضاعف معدل امتصاصه، كالثقب الأسود يبتلع كل شيء.
وكل قطرة مانا بداخله أخذت تزداد ظلمة.
ومع ذلك، استمر في التدريب.
بعد أسبوع، وقف لين بهدوء خارج البوابة الجنوبية، وإيلينيوس إلى جانبه.
كانت السماء صافية، لكن الهواء مشحون بالتوتر.
كانوا في الانتظار.
أوريلّيانا والأميرات الثلاث الأخريات كنّ على وشك الوصول في أي لحظة.
بدت أوريلّيانا مريضة، تتحرك ببطء وثقل.
و يبدو أن هذا سبب انها لم تزعجه طوال الأسبوع. فالحمل بدأ يأخذ مفعوله.
هذا في صالحي، عليّ أن أستغله بحكمة.
ما زلت لا أعرف ما أفعل بشأن ذلك الطفل.
ظلّت نظرات لين ثابتة، لكن أفكاره شاردة.
اللّعنة ما زالت تقيد قلبه، وعلامة أوريلّيانا تربطه بإرادتها.
تذكّر هدفه. لا مجال لللين.
والآن، مع اقتراب عودتها، فكرة واحدة خفقت في عقله:
إن كان مجرد عربة واحدة—ويسلكون طريق الجبل—
أستطيع إنهاء الأمر بنظافة.
لكن إن كانت هناك أكثر من عربة…
ستفشل الخطة قبل أن تبدأ.
انتظر النقطة الأكثر انحدارًا.
تسلّق السقف.
ركلة واحدة قوية لتميل العربة.
ينزلق أحد العجلات—ثم تتكفل الجاذبية بالباقي.
يسقطون.
وأضرب بكامل قوتي، في الهواء، قبل أن يلامسوا الأرض.
سريع. دقيق. قاتل.
لكن… إيلينيوس يقلقني.
تلك القدرة العلاجية قد تفسد كل شيء.
والأميرات الثلاث—ما زلت لا أعرف قدراتهن.
الكثير من المجهول.
الكثير من المخاطر.
إن كانت هناك عربة ثانية، سأكون مكشوفًا. محاطًا.
وميتًا قبل أن أهبط.
قطعت أورالينا أفكار الجميع وصفّرت بصوت حاد.
ثم أنشدت:
يا لهب القرمز في عين الأفعى،
استيقظي الآن تحت السماء.
من سرداب قديم وتراب مقدّس،
انهضي بعهد ودم وثقة.
الملكة البيضاء بانتظار على عرش من لهب،
وعلينا أن نمتطي باسم الشرف.
عشيرتنا مهددة، والظلال تنهض،
والنجوم تسقط صامتة في السماء.
أنتِ التي حملتنا عبر الحرب والبلاء،
عبر نفس النار وضوء القمر،
عودي مجددًا، يا نابًا وقشرًا،
فلا ريح توقف، ولا قلب يهن.
بجرح الروح وعلامة القرابة،
طيري سريعة، طيري شامخة، ليبدأ الطريق.
أصغي إلى النداء من دمٍ أقسم،
واحملينا عبر قدر وُلد من جديد.
أستدعيكِ،
يا خادمة الأفعى ذات العين القرمزية.
انطلقت أفعى بيضاء ضخمة ذات عينين قرمزيتين، يلمع جسدها كالمرمر في ضوء القمر—هائلة تكفي لسحق الأشجار تحت لفائفها.
تراجع لين غريزيًا خطوة إلى الوراء.
اللعنة. خطّة هروبي فشلت قبل أن أبدأ حتى.
حتى الأميرات، المتوشحات بالكبرياء، شعرن بثقل الرهبة.
نظرة واحدة من تلك الأفعى غرست الخوف كخنجر في كل روح قريبة.
أمسكت أورالينا بذراع لين وقفزت برشاقة إلى ظهر الأفعى.
أصيب لين بالذهول.
لم يستوعب عقله كل ما يجري.
اتبعهم إيلينيوس والآخرون بصمت.
شدّت أورالينا لين أمامها، ولفّت ذراعيها بإحكام حول جذعه.
ثم أومأت إيماءة قصيرة.
بانفجار من الحركة الخاطفة، انطلقت الأفعى داخل الغابة—
كسهم مقدس يشقّ طريقه نحو مملكة ملكة التنين الأبيض.