كان الليل هادئًا داخل الجناح الإمبراطوري، حيث نام الإمبراطور بجانب ليونيل، يراقب تنفسه المنتظم للحظات قبل أن يغرق هو الآخر في النوم. كان المشهد يبدو سلميًا، لكنه لم يدم طويلًا.

في عمق الليل، انطلق صراخ حاد، عالٍ لدرجة أنه اخترق هدوء القصر كطعنة مفاجئة.

"آاااااه!!! احترق… احترق!!!"

فتح الإمبراطور عينيه فورًا، وتحرك بسرعة نحو ليونيل، الذي كان جسده يتلوى بشدة، كأن شيئًا غير مرئي ينهشه. كانت عيناه مغلقتين بإحكام، لكن الألم بدا واضحًا في ملامحه. كان جسده يرتعش بعنف، أنفاسه متقطعة، وكل أطرافه متشنجة كما لو أن نيرانًا تلتهمه من الداخل.

ثم ظهرت العلامات.

فرشات ذهبية بدأت تتشكل على جلده، تتوهج بضوء ساطع أشبه باللهب المقدس، وكأنها تحترق فوق جسده مباشرة. الخطوط كانت تتشابك، تمتد من رقبته إلى صدره، ثم إلى ذراعيه وساقيه، وكأنها تخترق جلده وتعيد تشكيله من الداخل.

"آااااه!! لا… لا!!!"

صرخ ليونيل بصوت يملؤه العذاب، وهو يحاول التشبث بأي شيء حوله، لكن جسده لم يكن يستجيب له، وكأن الألم قد سلبه أي قدرة على التحكم بنفسه.

الإمبراطور، الذي بالكاد يندهش من شيء في العادة، شعر للمرة الأولى منذ سنوات بالرعب الحقيقي.

"ليونيل!! استيقظ!!"

مدّ يده ليمسك بكتف ليونيل، لكنه شعر بحرارة غير طبيعية. كان جسده أشبه بجمر مشتعل، وكأن نيرانًا غير مرئية تلتهمه. تردد لجزء من الثانية، لكنه تجاهل الألم وسحب جسد ليونيل إلى حضنه، ممسكًا به بقوة بينما يهزه محاولًا إيقاظه.

"افتح عينيك! ليونيل!!"

لكن الصراخ لم يتوقف، بل ازداد. كانت أنفاس ليونيل مضطربة، وكأن رئتيه لا تستطيعان التقاط الهواء، جسده يرتعش بشكل مخيف، والعلامات الذهبية على جلده بدأت تتوهج أكثر، كأنها على وشك الانفجار.

ثم، فجأة… بدأ جلده يتقشر!

شقوق صغيرة ظهرت على ذراعيه، وانبعث منها ضوء ذهبي خافت، وكأن شيئًا ما داخل جسده يحاول التحرر. بدا الأمر وكأنه يتحول إلى كائن آخر، وكأن جسده يعيد تشكيل نفسه قسرًا دون إرادته.

"هذا ليس طبيعيًا… ما الذي يحدث لك؟!!"

ضغط الإمبراطور على جسد ليونيل أكثر، كأنه يحاول تثبيته داخل هذا العالم قبل أن يسحبه شيء آخر إلى المجهول.

لكن ليونيل لم يكن يسمع، كان عقله غارقًا في العذاب، جسده يحترق من الداخل، وأفكاره تتلاشى وسط الألم. الشيء الوحيد الذي استطاع فعله… هو الصراخ.

"نيران الألم!"

كان جسد ليونيل يرتجف بعنف، أنفاسه متقطعة وصراخه يملأ الغرفة. الإمبراطور، الذي لم يكن شخصًا يُفاجأ بسهولة، كان يمسك به بقوة، يحاول تهدئته لكن جسده كان يشتعل بحرارة لا تُحتمل.

"ليونيل! تماسَك!!"

كان جسده متصلبًا، أطرافه تتلوى بشكل غير طبيعي، كأن عضلاته ترفض البقاء في مكانها. الفرشات الذهبية التي كانت مجرد علامات على جلده بدأت تتجسد، ترفرف حوله في دوائر متوهجة، وكأنها كائنات حية من الضوء النقي. كانت تحوم حوله، تتحرك كأنها تحرسه أو ربما تحاول احتوائه.

ثم انفجر الإمبراطور صائحًا بصوت هزّ الجناح الملكي:

"أحضروا الأطباء فورًا! والسحرة أيضًا!!"

ركض الفرسان المكلفون بالحراسة بلا تردد، بعضهم أسرع لتنفيذ الأوامر، بينما آخرون وقفوا في صدمة مما يشاهدونه. كان المشهد أقرب إلى أسطورة مرعبة، جسد الأمير الرابع ليونيل، الضعيف والهش، يحيط به وهج ذهبي متقد، وكأنه يحترق من الداخل بينما الفرشات الذهبية تحلق من حوله كأنها تعزف لحنًا مميتًا.

........

وفي تلك اللحظة، فتح الباب بعنف، ليدخل إيرين، ، و إليوت، ، بعيون واسعة من الصدمة.

"ما الذي يحدث هنا؟!" صاح إيرين، بينما عيناه تنتقلان بين جسد ليونيل المتشنج والإمبراطور الذي كان يحتضنه بقوة، كأنه يحاول إبقاء روحه داخل جسده.

إليوت، الذي لم يكن أقل ذهولًا، تجمد في مكانه للحظات، لكن بمجرد أن رأى أخاه يصرخ بهذا الشكل، اندفع للأمام، محاولًا الاقتراب، لكن الحرارة المنبعثة من ليونيل أجبرته على التراجع.

"إنه… يحترق؟!"

لم يكن هناك وقت للأسئلة، فصوت صراخ ليونيل عاد ليشق الهواء من جديد، جسده ينتفض بشدة، وذراعيه حاولتا التشبث بأي شيء لكنه لم يكن قادرًا على التحكم بنفسه. الإمبراطور شدّ قبضته أكثر حوله، بينما وجهه المظلم القاسي أظهر شيئًا نادرًا—القلق الخالص.

"تمسك، ليونيل…"

لكن جسد ليونيل لم يكن يستجيب، وعيناه المغلقتان بشدة كانتا تدمعان من شدة الألم. الفرشات الذهبية بدأت تدور حوله بسرعة أكبر، والوهج المتوهج الذي كان يغلفه بدأ يتوسع، كما لو أن شيئًا بداخله على وشك الانفجار.

....................

ظل جسد ليونيل يرتجف، أنفاسه تتسارع، وصوته يخرج كأنما يحترق من الداخل. وبينما كان الإمبراطور يحاول تهدئته، فجأة—

[دينغ!]

ظهر وميض خافت أمام عيني ليونيل، نافذة شفافة شبه متصدعة ظهرت داخل وعيه المضطرب. كانت مختلفة عن النوافذ المعتادة التي يراها من النظام—هذه النافذة بدت كأنها تحاول فرض نفسها عليه بالقوة، كما لو أنها لا تنتمي لهذا العالم.

┏━━━━━━━━━━━━━━━━━┓

[نافذة الحالة - خطيئة الدم]

الاسم: ليونيل كارستين

العرق: غير معروف (تحليل البيانات فشل)

الحالة: [حرق داخلي - مستوى 3] [تداخل ذكريات - مستوى 2] [هجوم عصبي - مستوى 4]

التغير الجسدي: [ظهور علامات الفراشات الذهبية (3% مفعل)]

التحذير: الكيان المستيقظ داخل المستخدم غير مستقر. تفعيل طارئ قيد التنفيذ...

┗━━━━━━━━━━━━━━━━━┛

كانت الكلمات تتغير باستمرار، تظهر وتختفي وكأن النظام نفسه لا يستطيع قراءته بشكل صحيح.

لكن قبل أن يتمكن ليونيل من استيعاب الأمر، انبثق إشعار آخر—

[تحذير! كيان غير مسجل يحاول التدخل!]

[تعذر إيقاف التدخل—القوة المتداخلة تفوق النظام!]

ثم، فجأة، اهتزت نافذة الحالة، وبدأت تتحطم!

"أرغ…!" صرخ ليونيل، بينما انفجرت النافذة إلى شظايا ذهبية، وكل جزء منها دخل جسده كشرارات حارقة.

"ليونيل!!"

صرخة الإمبراطور كانت مليئة بالقلق، لكنه لم يتمكن من فعل شيء سوى احتضانه بقوة أكبر، بينما كانت الفراشات الذهبية تحوم حوله بجنون، وكأنها تحاول الهروب من جسده لكنها لا تستطيع.

في تلك اللحظة، تذكر الإمبراطور شيئًا…

هذا لم يكن مجرد مرض.

هذا كان لعنة.

"لعنة الفراشات الذهبية"

تذكرها بوضوح… إيرينا.

كانت امرأة غامضة، مختلفة عن أي شخص قابله في حياته. حتى عندما كانت تبتسم، كان هناك شيء خفي في عينيها، سر دفين لا يمكن كشفه بسهولة. لم يكن يدري متى بدأ يشك بأن هناك شيئًا تخفيه، لكنه كان دائمًا يشعر بأنها تخفي جزءًا من ذاتها، حتى عنه.

لكن أكثر ما شغل تفكيره الآن هو تلك العادة التي لم يفهمها أبدًا…

كانت تأخذ ليونيل معها خارج القصر، إلى غابة إيدريث.

لم يكن يعلم سبب ذلك، ولم تفصح له أبدًا عن السبب، بل كانت تكتفي بالابتسام وتقول: "إنه سر صغير بيني وبين طفلنا."

في البداية، لم يشكّ في الأمر، فقد بدت له عادة بريئة بين أم وطفلها. لكنها كانت تزداد تكرارًا، وفي كل مرة تعود فيها، كان هناك شيء غريب في ليونيل… شيء لا يستطيع تحديده.

وعندما كان يسأل ابنه الصغير، كانت إجاباته لا تزيد الأمر إلا غموضًا.

"أمي تأخذني لمكان مليء بالطيور الحمراء الكبيرة!"

رفع الإمبراطور حاجبه. "طيور حمراء؟"

هزّ ليونيل رأسه بحماس طفولي، ورفع يديه ليصف حجمها. "كبيرة جدًا! بأجنحة ضخمة! تنفث النار من أفواهها!"

شعر الإمبراطور بشيء غريب حينها، لكن ضحكة ليونيل الطفولية جعلته يتجاهل إحساسه.

"ألست خائفًا منها؟"

"لا!" أطلق ليونيل ضحكة خافتة. "إنهم لطفاء! أمي قالت إنهم يحبونني!"

تلك الذكرى جعلت الإمبراطور يشدّ يده قليلًا حول ابنه النائم الآن. غابة إيدريث لم تكن مكانًا عاديًا، بل أرضًا قديمة مليئة بالأسرار والكيانات التي لم يكن البشر قادرين على فهمها.

والآن… تلك العلامات الذهبية، الفراشات، الألم الذي عانى منه ليونيل، الكابوس الذي طارده… هل يمكن أن يكون كل هذا مرتبطًا بتلك الأيام الغامضة؟

لماذا، إيرينا؟ لماذا لم تخبريني بالحقيقة؟

كان عليه أن يعرف.

..............

[تحذير! تحذير!]

[عطل غير معروف في النظام…]

[تحليل البيانات… فشل.]

[إعادة تشغيل الوظائف… فشل.]

[كود الطوارئ—تنشيط تلقائي…]

...................

كان جسد ليونيل يتلوى بعنف بين ذراعي الإمبراطور، أطرافه تتشنج كأنها تُجبر على الحركة ضد إرادته، أصابعه تنقبض وتتقلص حتى كادت تتكسر، وعيناه المغلقتان بشدة تنهمر منها الدموع، بينما صوته المشبع بالألم يملأ أرجاء الغرفة.

"ااااااااااه!!! احترق!!! احترق!!!"

كانت أنفاسه متقطعة، وكأنه غارق في بحر من اللهب، يحاول التنفس لكنه لا يستطيع، يصرخ كأن نارًا خفية تمزقه من الداخل. الفرشات الذهبية ازدادت عددًا، تحوم حوله بجنون، تنبعث منها أضواء ساطعة، تتحرك كأنها ترقص رقصة الموت حوله، بعضها يلتصق بجسده، وكأنها تختفي داخله، مما يزيد من صراخه وانقباض جسده بقوة.

الإمبراطور كان يراقب المشهد بعينين متسعتين، يديه تضغطان على جسد ليونيل بقوة، يحاول احتواء ارتجافاته العنيفة، لكن الحرارة المنبعثة منه كانت أشبه بلهب حقيقي، كأن جلده يغلي تحت أصابعه.

في لحظة ما، شعر الإمبراطور وكأن الزمن عاد إلى الوراء… إلى ذلك اليوم قبل سبع سنوات، عندما سمع لأول مرة صرخة الطفل الصغير ليونيل وهو يتلوى على سريره، والفرشات الذهبية بدأت بالظهور لأول مرة على جلده الناعم.

"هذا ليس مجرد مرض… هذا لعنة."

في ذلك الوقت، استدعى أعظم الأطباء والسحرة، لكن لم يتمكن أي منهم من فهم طبيعة هذا المرض. العلامات الذهبية التي كانت تظهر على جلده اختفت لاحقًا، وكأنها لم تكن موجودة، لكن الألم والحرارة الشديدة ظلا يتكرران كل بضعة أشهر، ومع مرور الوقت، أصبحت حالته أسوأ.

"إنه مرض نادر، لا يوجد له سجل معروف في التاريخ."

أطلق عليه اسم "لعنة الفراشات الذهبية"، لأنها كانت الشيء الوحيد الذي يظهر مع نوبات الألم هذه.

لكن الآن، وهو يرى ليونيل يصرخ بهذه الطريقة الوحشية، بدأت الشكوك تزحف إلى عقله.

"هل هذا مرض حقًا… أم أنه شيء آخر؟"

إيرين، الذي كان واقفًا عند الباب، قبض يديه بقوة، وجهه القاسي لم يستطع إخفاء الصدمة التي شعر بها. لم يكن يعرف أن ليونيل يعاني بهذا الشكل.

إليوت، الذي لم يكن قادرًا على الاقتراب بسبب الحرارة، شعر بالعجز. صوته كان متهدجًا وهو يتحدث:

"لابد أن هناك طريقة لإيقاف هذا!!"

لكن الإمبراطور لم يرد. كل ما فعله هو أن شدّ قبضته حول ليونيل، عازمًا على إبقائه حيًا، مهما كلف الأمر.

لكن، فجأة… وسط الصراخ، وسط الألم الذي كان يعصف بليونيل…

بدأت عينا الصبي تتفتح قليلاً، نظرة باهتة، كأن روحه بدأت تنجرف بعيدًا…

وفجأة، الفرشات الذهبية توقفت عن الطيران.

وكأن الزمن تجمد للحظة.

اندفع الأطباء والسحرة إلى الغرفة بسرعة، لكنهم توقفوا للحظة عند العتبة، مشدوهين من المشهد أمامهم. الفراشات الذهبية التي كانت تحلق بجنون قبل لحظات توقفت عن الحركة، وكأنها تمثال من نور، بينما جسد ليونيل لا يزال يرتجف في حضن الإمبراطور، أنفاسه متقطعة وصدره يعلو ويهبط بسرعة غير طبيعية، كأن روحه تحاول الفرار من جسده.

"ماذا تنتظرون؟! افعلوا شيئًا!" صرخ الإمبراطور بصوت هدر كالرعد، ووجهه كان مليئًا بالغضب والقلق، وهو يحدق بالأطباء والسحرة الذين ما زالوا في حالة صدمة.

إيرين، الذي كان يقف بجانب السرير، صرخ هو الآخر: "إنه يحترق أمام أعيننا! تصرفوا حالًا!!"

إليوت، الذي كان يشعر بالعجز أكثر من أي وقت مضى، قبض يديه بقوة وهو يحدق بالسحرة: "أنتم تدعون أنفسكم خبراء؟ إذن أثبتوا ذلك الآن!"

أفاق الأطباء والسحرة من ذهولهم، وهرعوا إلى العمل. أحد السحرة مد يده فوق جسد ليونيل، وبدأ يهمس بتعاويذ التهدئة، لكن بمجرد أن اقتربت طاقته السحرية من جسد ليونيل، احترق طرف ردائه فجأة، وكأن قوة غير مرئية ترفض التدخل الخارجي.

"إنه… يرفض السحر الخارجي!" قال الساحر وهو يحدق بيده المرتجفة، غير قادر على تصديق ما يحدث.

"ماذا تقصد يرفض؟!" زمجر الإمبراطور، وعيناه تومضان بالغضب.

اقترب طبيب آخر بسرعة، ووضع يده على جبين ليونيل محاولًا قياس حرارته، لكنه سرعان ما سحب يده مصدومًا: "حرارته مرتفعة للغاية… لا، هذا مستحيل، جسده يجب أن يكون محترقًا الآن!"

إيرين، الذي كان يرى جسد أخيه يزداد شحوبًا، قبض على ياقة أحد الأطباء وسحبه بعنف: "لا أريد سماع أعذار، أنقذوه الآن!!"

لكن الأطباء والسحرة كانوا في حالة ارتباك شديد، لم يسبق لهم أن رأوا مثل هذه الحالة من قبل، وكل طريقة حاولوا بها التدخل كانت تُرفض بقوة خفية، وكأن هناك شيئًا يحمي ليونيل من أي علاج.

الإمبراطور كان يحدق بصمت في ابنه، وجهه الذي اعتاد أن يكون صارمًا وقاسيًا كان الآن مليئًا بمشاعر لا يمكن وصفها. كان يعلم أن ليونيل يعاني منذ سنوات، لكنه لم يتخيل أبدًا أن مرضه سيصل إلى هذه المرحلة.

ثم، فجأة… وسط الفوضى، وسط صرخات ليونيل المختنقة…

بدأت الفراشات الذهبية تتحرك من جديد. لكنها لم تكن تطير بشكل عشوائي هذه المرة.

بل كانت… تتجمع.

كأنها تستعد لفعل شيء ما.

وقف الإمبراطور كالصاعقة في مكانه، وعيناه تضيقان وهو ينظر إلى الأطباء والسحرة. صوته خرج هادئًا، لكنه كان يحمل تهديدًا واضحًا جعل القشعريرة تسري في أجسادهم.

"إن لم تجدوا طريقة لعلاج ليونيل، فلن أحتاج إلى أطباء أو سحرة عديمي الفائدة."

كانت كلماته ثقيلة، وكأنها سيف معلق فوق رؤوسهم. شعر الجميع بالخوف وهم ينظرون إلى الإمبراطور، الذي بدا على وشك فقدان صبره بالكامل.

لكن فجأة، توقف جسد ليونيل عن الارتجاف، وكأن العاصفة التي كانت تمزقه من الداخل قد انتهت فجأة. اختفت العلامات الذهبية عن جلده ببطء، وكأنها لم تكن موجودة من الأساس.

...................

داخل الفراغ

وسط الظلام المطلق، كان ليونيل يسقط بلا نهاية، كأنما انجذب إلى دوامة لا قاع لها. لم يكن هناك صوت، لا هواء، لا إحساس بالجسد—فقط سقوط أبدي. لكنه لم يكن وحيدًا.

في مكان ما أمامه، كان هناك هو… أو بالأحرى، شخص يشبهه تمامًا.

ليونيل الأصلي.

كان يقف هناك، في وسط العدم، عينيه الزرقاوين تلمعان بهدوء، خاليًا من أي تعبير. جسده لم يكن مرتجفًا، لم يكن مذعورًا… كان ساكنًا تمامًا، كما لو كان مجرد وهم، مجرد شبح عالق في هذا المكان.

لكن ما جعل القشعريرة تزحف في جسد ليونيل هو أن النسخة الأخرى منه ابتسمت.

ثم، فجأة، استدار وبدأ يركض.

لم يعرف ليونيل لماذا، لكن قدميه تحركتا تلقائيًا، وانطلق يركض خلفه. لم يكن هناك أرض حقيقية، لكن خطواتهما كانت تصدر صوتًا واضحًا، كما لو كانا يركضان عبر طريق خفي في العدم.

كلما اقترب ليونيل من الآخر، بدأت صور غريبة تومض حوله. ذكريات… لكنها لم تكن ذكرياته.

---

مشهد أول: غرفة معزولة

ظهر المشهد فجأة، كأنهما مرا من خلال بوابة غير مرئية. كانت غرفة صغيرة، قاتمة، جدرانها عارية إلا من رفوف مليئة بقوارير زجاجية تحوي سوائل بألوان مختلفة. في زاوية الغرفة، كان هناك سرير واسع، يغطيه قماش أبيض باهت، وفي وسطه، جلس طفل صغير، بالكاد يبلغ السادسة.

ليونيل الأصلي.

كان جسده هزيلًا، بشرته شاحبة بشكل غير طبيعي، بينما أنامله الصغيرة كانت تمسك بكأس دواء بني اللون، عينيه الذابلتين تنظران إليه بلا مشاعر.

"اشربه كله، صاحب السمو."

كان صوت الطبيب باردًا، روتينيًا، كأنه يعامل جسدًا بلا روح. رفع الطفل الكأس ببطء، ارتشف السائل الذي بدا مرًا لدرجة أنه كاد يتقيأ، لكنه لم يفعل.

لقد اعتاد على ذلك.

اعتاد على الحياة داخل هذه الغرفة، بين الفحوصات والاختبارات، بين الأدوية والإبر. لم يكن لديه إخوة يلعب معهم، لم يكن لديه أصدقاء… حتى الخدم كانوا يتجنبون النظر إليه مباشرة، وكأنه ليس موجودًا حقًا.

ثم، فجأة، فتح الباب.

وقف عند العتبة رجل طويل القامة، مهيب، ذو عيون ذهبية تشع بالقوة والرهبة.

الإمبراطور.

لحظة صمت مريرة سادت المكان، قبل أن يرفع الطفل رأسه ببطء، تتوهج في عينيه بارقة أمل خافتة.

"أبي…" همس ليونيل بصوت ضعيف.

كان الإمبراطور يحدق به بصمت، تعابيره جامدة كالصخر.

"أبي، هل يمكن أن تبقى معي قليلاً؟"

مرت لحظة أخرى.

ثم—

"لدي أعمال مهمة."

بكلمات قصيرة، حاسمة، استدار الإمبراطور وخرج، دون أن يلتفت مرة أخرى.

ظل الطفل جالسًا هناك، عينيه الزجاجيتين تحدقان في الفراغ، بينما اختفى الأمل الذي كان في صوته.

بقي في الغرفة، كما كان دائمًا… وحيدًا.

---

مشهد ساحة التدريب - الخوف الذي تحول إلى قسوة

تحولت الرؤية مرة أخرى، وهذه المرة وجد ليونيل نفسه في ساحة تدريب القصر. كانت الشمس تلقي بحرارتها على الأرض الحجرية، والهواء مشبع بصوت اصطدام الخشب بالخشب، حيث كان إيرين، ، وإليوت، يتدربان بسيوف خشبية تحت إشراف أحد الفرسان.

كانا يتحركان بخفة، ينفذان هجماتهما بدقة، تعابير وجهيهما تعكس التركيز والانضباط.

وفي زاوية الساحة، كان يقف ليونيل الأصلي.

كانت عيناه الواسعتان تتابعان حركات إخوته بانبهار. لم يكن يعرف كيف يقاتل، ولم يُسمح له بذلك، لكنه شعر برغبة ملحة في المحاولة.

ببطء، انحنى والتقط غصنًا صغيرًا كان ملقى على الأرض، قبض عليه بيديه الصغيرتين، ثم حاول تقليد حركات إخوته. رفع الغصن للأعلى، حاول تنفيذ ضربة مشابهة لما قام به إليوت، لكن جسده لم يكن قوياً بما يكفي.

في اللحظة التالية، اصطدم جسده الصغير بالأرض.

"ليونيل!!"

رفع رأسه ببطء، فقط ليرى إيرين وإليوت ينظران إليه بوجوه ممتقعة، عيونهم مليئة بالقلق والخوف… لكن أصواتهم خرجت قاسية.

"ماذا تظن أنك تفعل؟!" صرخ إيرين، وتقدم نحوه بخطوات سريعة.

حاول ليونيل النهوض، شعر بوخز في كفيه من السقوط المفاجئ، لكنه رفع عينيه وقال بصوت خافت:

"أنا فقط… أردت أن أجرب…"

لكن بدلاً من الفرح، بدا أن إيرين ازداد غضبًا.

"هل جننت؟!" أمسك بمعصمه الصغير بقوة، ليس بقصد الأذى، ولكن كأنما يريد التأكد من أنه لا يرتجف، أنه لا يعاني من نوبة أخرى. "ماذا لو سقطت؟ ماذا لو تأذيت؟"

إليوت، الذي كان يقف بجانبه، قاطعهم بقلق واضح في صوته: "أنت تعرف أن جسدك ضعيف، الطبيب قال إنك لا تستطيع الحركه بهذا الشكل!"

حاول ليونيل سحب يده من قبضة إيرين، لكنه لم يستطع. نظر إلى وجهيهما، ورأى الخوف… لكنه لم يفهمه.

"لكن… أنتما تتدربان كل يوم، وأريد أن أكون مثلكما."

للحظة، خيم الصمت. التقت نظرات إيرين وإليوت، كأنهما يحاولان إيجاد إجابة. لكن بدلاً من ذلك، شدد إيرين قبضته وقال بحدة:

"توقف عن التصرف وكأنك واحد منا!"

اتسعت عينا ليونيل. شعر بشيء ثقيل يجثم على صدره، إحساس بالحزن… بالعجز المطلق.

إليوت عض شفته، بدا أنه يريد قول شيء آخر، لكنه فقط أدار وجهه وتنهد.

"ليونيل، هذا ليس لك."

ثم استدار الاثنان، وعادا إلى التدريب، وكأن شيئًا لم يحدث.

أما ليونيل، فقد بقي جالسًا هناك، ينظر إلى كفيه الفارغتين، حيث كان يمسك بالغصن قبل لحظات.

لم يكن يعلم أن كلماتهم لم تكن قسوة… بل كانت خوفًا.

لكنه لم ير سوى ظهورهم وهي تبتعد.

.....................

مشهد ثالث: الغابة

كان الليل حالكًا، وكانت غابة إيدريث مظلمة بشكل غريب. وقف ليونيل الأصلي هناك، صغيرًا، مرتجفًا، بينما أمسكت به امرأة ذات شعر فضي، ابتسامة غامضة تعلو شفتيها.

"لا تقلق، ليونيل." همست إيرينا. "لن أدعهم يؤذونك."

لكن صوتها لم يكن مليئًا بالطمأنينة فقط… بل كان يحمل شيئًا آخر، شيئًا غامضًا لم يستطع ليونيل تفسيره.

اختفت الحديقة، واختفت الأصوات، وحل محلها ظلام دامس، كأنه سجن لا نهاية له.

كان هناك ليونيل الأصلي، واقفًا وسط الفراغ، ينظر إلى ليونيل مباشرة، عينيه خاليتين من الحياة.

وفي تلك اللحظة، استدار ليونيل الأصلي ونظر إلى ليونيل مباشرة.

"أرأيت؟ هذه حياتي."

"…لماذا تريني هذا؟"

لكنه لم يرد.

بدلًا من ذلك، بدأ يبتعد مجددًا، راكضًا نحو الظلام.

دون أن يفكر، اندفع ليونيل خلفه، قلبه ينبض بجنون، عقله يغلي من الفوضى. لم يكن يعلم إلى أين يذهب هذا الطريق، لكنه شعر أنه يجب عليه أن يعرف الحقيقة… مهما كان الثمن.

......................

ركض ليونيل، قدماه تخترقان الظلام كأنه بحر لا نهاية له. كان الشعور أشبه بالسقوط في فراغ بارد، لكنه لم يتوقف. لم يكن يعلم لماذا، لكن فكرة ترك الآخر يهرب كانت تؤلمه أكثر من الجري في هذا الظلام.

عندما اقترب، مد يده، أمسك بذراع ليونيل الأصلي بقوة.

"توقف!" صوته خرج مضطربًا، أنفاسه متسارعة.

لكن ليونيل الأصلي لم يحاول الإفلات، فقط التفت ببطء، نظراته لا تزال فارغة… فارغة بشكل مخيف.

"لماذا تركض؟" سأل ليونيل، قبضته مشدودة على ذراعه.

ظل الآخر صامتًا

ليونيل انتظر ثم فتح فمه أخيرًا وقال بصوت هادئ، كأنما كان سؤالًا عاديًا تمامًا:

"هل تحب عائلتك؟"

تجمد ليونيل الاصلي .

لم يكن يتوقع هذا السؤال.

شعر ببرودة زحفت إلى صدره، شيء ثقيل استقر في أعماقه. لكن رغم ذلك، لم يتهرب.

"أنا…" فتح فمه ليرد، لكنه لم يجد الكلمات.

هل يحبهم؟

تذكر نظرة الإمبراطور حين أخبره الأطباء أنه ضعيف جدًا، تذكر نظرة إيرين وإليوت حين منعاه من التدرب، نظرة الخدم، نظرة الجميع…

تذكر كم كان وحيدًا.

لكنه تذكر أيضًا دفء لمسات الإمبراطور وهو يحتضنه ، تذكر صراخه باسمه وهو يحاول إيقاظه، تذكر الخوف في عيني إخوته عندما سقط.

"أنا…"

تردد صوته، وكأن الكلمات كانت تتصارع داخله.

فقد ظل يحدق فيه بصمت، قبل أن يهمس:

"أنا أحبهم."

شعر ليونيل بشيء ينقبض في صدره.

قبل أن يتمكن من قول شيء آخر، بدأ الظلام يبتلع ليونيل الأصلي ببطء. لم يحاول المقاومة، فقط نظر إليه وهمس بكلمات بالكاد استطاع سماعها:

"لكن هذا لم يكن مهمًا في النهاية."

ثم اختفى.

2025/05/15 · 162 مشاهدة · 3033 كلمة
روزي
نادي الروايات - 2025