استيقظ ليونيل وسط فراغ حالك... لا جدران، لا سقف، لا أرض حقيقية.
كأن الوجود ذاته قد تمحى، وكأن المانا قد خمدت إلى الأبد.
(أنا ما زلت حي؟ لا… هذا ليس مكانًا للحياة… ولا حتى للموت)
كانت آخر ما يتذكره تلك الفراشات السوداء وهي تمتص وعيه، تتغذى عليه كأنه شمعة تذوب ببطء.
لكنه الآن هنا. لا يشعر بألم، فقط برد داخلي... كأن جزءًا منه لم يَعُد معه.
بدأ يسير.
خطواته لا تصدر صوتًا. لا ظل له. فقط هو والفراغ.
وفجأة...
صور تتشكل أمامه، كأنها ذكريات منقوشة على جدار هذا العدم:
طفل صغير...
في غرفة بيضاء مغلقة...
يتنفس عبر أنابيب، ونظراته ذابلة...
يصرخ دون صوت، بينما تُراقبه أعين دافئه خلف زجاج معتم.
(هذا أنا… وأنا مريض… وأنا سجين… وأنا بلا صوت)
ليونيل شاحب، ينظر إلى الطفل.
يعرفه.
إنه هو... "ليونيل الأصلي". الضعيف. العاجز. المحبوس داخل جسده ونوباته.
يتنهد بصمت، يكاد يقول شيئًا...
لكن العدم يهتز.
هواء بارد يشقّ الفراغ...
وصوت كأن الزمن نفسه انحنى لسماعه:
> "رأيت ظلكَ ينادي… ولم يجبك أحد. لذا أتيتُ… لأكون ظلّك الأبدي."
(ما هذا…؟ إنه ليس كائنًا… إنه مثل شعور… شعور الغرق في نفسك…)
تجمّعت الظلال أمامه، وانبثقت منها هيئة بشرية مشوّهة...
ستة أعين تتوهّج كنجوم ميتة.
أجنحة دخانية ترفرف بلا صوت.
خطواته لا تمس الأرض… لأنه ليس منها.
[نظام المعلومات يفعل تلقائيًا…]
◇ الاسم: نوكس إينكارنا (Nox Incarna)
◇ التصنيف: كائن ميتافيزيائي [الظل المانوي]
◇ النوع: كائن فراغي متجسد
◇ التفاعل: نشط
■ تجسيد الظلال، المراقب الأبدي للفوضى
■ قدرة رئيسية: نفي المانا – اختراق البنية السحرية – تكرار التعاويذ
■ حالة: لا ينتمي لأي بعد… حُر الإرادة
↳ الحالة: مهتم بك. الاستجابة متوقعة...
ليونيل تراجع خطوة.
"ما أنت...؟" همس.
ابتسم الكائن، إن كان لتشوهه فم يُبتسم به.
تقدّم منه، وصوت الظلال نفسه يردّد:
> "أنا ما تبقّى منك حين تخلّوا الجميع عنك."
"أنا نُدبة الصمت التي لم تندمل… والمكان الذي تُدفن فيه النداءات."
---
وفجأة، يظهر واجهة نظامية شفافة أمام عينيه، كأن "المساعد الرقمي" قرر أخيرًا التدخل.
---
[تنبيه النظام - الطارئ 0001A]
> تم رصد كيان فراغي غير مصنّف – تجاوز حدود الاستدعاء المسموح بها
الاسم: نوكس إينكارنا
النوع: تجسيد مانوي-فراغي
المستوى: خارج نطاق التصنيف (X)
التأثيرات المحتملة للتعاقد معه:
- كسر حدود التوازن السحري
- تحريف خطك الزمني الأساسي
- إلغاء الاستقرار العاطفي والعقلي
- تفعيل نهاية واحدة غير قابلة للتغيير
📝 توصية النظام:
■ الرجاء إعادة النظر فورًا قبل الشروع بأي تعاقد.
■ التفاعل مع كائن "نوكس" قد ينتج عنه انحدار وجودي لا يمكن عكسه.
■ تذكير: نحن لا نغطي التأمين بعد التوقيع مع كائنات فراغية مستقلة الإرادة.
هل ترغب بالمتابعة رغم التحذير؟ [نعم / لا / انتحار صامت]
---
ليونيل يحدّق في الشاشة للحظة.
(تغيير خطي الزمني…؟ أي خط؟ أنا أشعر اني كنت أُكرر الموت كأنه وظيفة موسمية)
(إذا كنت سأموت مجددًا… فلأكن قويًا وأنا أفعلها)
يرفع يده نحو نوكس… والعقد على وشك أن يبدأ.
---
[شقّ ضوئي يخترق العدم – قوة سحرية تنفجر – صوت مألوف يخترق داخله]
> "ليونيل!! ليونيل، استيقظ!!"
ليونيل يفتح عينيه. أنفاسه سريعة، وعيناه تبحثان عن الفراغ الذي اختفى.
أمامه، أدريان يضغط راحته على صدره، قلقه ظاهر، وعيناه تحملان ألف سؤال.
ليونيل لا يرد.
(ست أعين… عرض عليّ أن لا أكون وحيدًا… ولكنك سبقت الظلال)
ينظر لأدريان طويلاً، فقط بصمتٍ ثقيل.
ولا يقول شيئًا.
---
[أطراف الغابة – عند حافة الصراع]
ألسنة الدخان كانت ترتفع من بين الأشجار المحترقة… الهواء يختنق بالسخام، والطبيعة نفسها بدت وكأنها شهقت ثم لم تتنفس بعدها.
نصف الغابة تحوّل إلى أرض رماد.
والنصف الآخر، ما زال يبكي تحت تأثير تعاويذ لم تُفهم، ولم تُكرر.
جثة ملك الأشواك، أحد أقوى الكوارث ، كانت مُلقاة بين الأغصان المتفحمة. صدره مفجّر، وعيناه نصف مفتوحتين كأنه لم يفهم كيف انتهى الأمر هكذا.
(أنا لم أقاتله… لم أطلب شيئًا… ومع هذا، مات)
أدريان حمل جسد ليونيل بين ذراعيه بصمتٍ قاتم.
الفراشات السوداء التي كانت تطوّق المكان اختفت لحظة انفجار الطاقة… اختفت كما جاءت… بلا أثر، بلا وداع.
(دفعتُ ثمنًا… غاليًا جدًا… لقاء لحظة ضعف)
(كان يجب أن أترك الأمور تمضي… لم يكن عليّ أن أستجيب لذلك الظل)
(الرواية تتغيّر… وأنا أراها تنفلت من بين يدي)
---
[أمام الغابة – موقع الاستطلاع]
كان الفرسان يتحرّكون بسرعة، يتفحصون آثار الخراب.
> "ملك الأشواك ميت…"
"سحر غير معروف انتشر في النصف الشرقي…"
"لا وجود لأي كائن حي داخل نطاق الانفجار…"
"أرسل تقريرًا للعاصمة فورًا. هذا يتجاوز دوريات الحماية."
---
[قرب عربة أدريان – بعيدًا عن الفوضى]
أدريان شدّ ليونيل إليه أكثر.
جسده ما زال خفيفا، باردًا، وكأنه لا يزال غارقًا في العدم.
لكن فجأة…
ارتجف جسده بعنف.
(الـ… تأثير الإكسير؟)
ليونيل شهق بحدة، صدره ارتفع بقوة، وعيناه انفتحتا للحظة، ثم بدأت عضلاته تتشنّج بقسوة.
"ليونيل!"
وجهه بدأ يتقوّس من الألم، وجبهته تلوّت، أنفاسه تنقطع، ويده تقبض الهواء كأنه يغرق مجددًا.
(هذا الألم… إنه يلتهمني من الداخل… كأن أضلعي تتكسر ببطء…)
بدأت أوردته تتوهّج بلون أخضر قاتم، كأن الإكسير يتفاعل مع المانا بداخله ويحاول كسر شيء ما.
أدريان لم يتردّد.
[داخل العربة ]
بهدوء مشوب بالذعر، بدأ يفكّ ملابس أخيه جزئيًا ليكشف صدره المتشنج، ثم وضع يديه على عضلاته المرتجفة وبدأ يدلّك ببطء، بخبرة وكأنه فعل هذا كثيرًا.
"تنفس، ليونيل… لا تقاوم…"
"دع جسدك يرخي نفسه… أنا هنا."
ليونيل كان يرتجف كأنه شظايا، لكن عينيه بقيتا نصف مفتوحتين، تنظران لأدريان…
ثم تنظران للفراغ خلفه، حيث لا تزال صدى كلمات "نوكس" ترنّ في ذاكرته:
(أنا ظلّك… وأنا لن أرحل)
---
[العربة تتحرك – الدخان خلفهم – صوت الخيول مكتوم]
ليونيل استلقى بصمت، يد أدريان على صدره لا تزال تضغط برفق، كأنها تحاول إقناع عضلاته أن العالم لم ينتهِ.
(أنا عدت من الظلال… لكني تركت شيئًا هناك)
(وأشعر… أن ذلك الشيء، لم يتركُني)
---
[داخل العربة – على الطريق المؤدي إلى العاصمة الإمبراطورية]
الليل استقرّ أخيرًا فوق الغابة، والسكون الثقيل كان يلفّ جسد ليونيل كما لو كان كفنًا. أنفاسه متقطعة، وعضلاته متشنّجة، غير قادرة على التراخي رغم أن الألم بدأ يهدأ.
لقد نجح أدريان في تهدئته، ساعده في تخفيف حدة التشنج، دلك عضلاته، هدأ ارتجاف جسده...
...ثم قرص خده بقسوة.
"أيها الأحمق، أتظنّ نفسك خالدًا؟!"
"أتعمد استخدام السحر، وأنت تعلم تمامًا أن والدنا الإمبراطور منعك منه؟! أتراك نسيت من هو والدك؟ أم تظنه مجرد موظف في نقابة سحرية؟!"
---
ليونيل تأوّه وهو يبعد يديه بضعف.
"أدريان... لم يكن بوسعي التراجع... كان لزامًا عليّ أن أتحرّك..."
(ليته فقط... يكفّ عن شدّ وجهي كعجينة ساخنة)
أدريان ضيّق عينيه، نبرته أصبحت مشبعة بسخرية ثقيلة:
"أوه، فعلت ما عليك؟ حسنٌ، وما رأيك بتلك الهزة التي دمرت نصف الغابة؟! أم الفراشات السوداء التي اختفت بعد أن كادت تبتلع كل شيء؟!"
"أتحسب الأمر انتهى؟! والدنا لن يسألك عن هذا بكوب شاي... بل على طاولة "العلاج الفيزيائي" التي لا تخرج منها إلا وأنت تفكر كيف تمشي مجددًا!"
---
ليونيل شهق بصوت مكتوم، ثم خفض بصره.
(لقد بدأت أشعر بالبرد... ليس بسبب التشنج هذه المرة، بل لأن أبي... سيعرف)
(كيف أشرح لهم أنني شربت إكسيرًا قدّمه لي نظام صوتي؟
وأن ذاك الشيء الغريب أيقظني من الفراغ؟
وأنني كنت على وشك التعاقد مع كيان اسمه نوكس… تجسيد الظلال؟)
نظر إلى أدريان برجاء.
"أدريان... رجاءً... لا تخبره."
"ليس الآن. لا أستطيع أن أشرح له... ليس بهذه الطريقة."
---
أدريان رفع حاجبه ببطء.
"آه… ها قد بدأنا."
"لنخبر والدنا لاحقًا؟! كأنك كسرت جدار القصر وتقول: كنت أهوّي المكان قليلاً؟!"
ثم تنهد فجأة، وارتخى ظهره، وكأن الغضب تساقط من كتفيه.
"أتدرك كم كنت خائفًا؟"
"حين رأيتك تتلوّى أمامي، ووجهك يرتجف وكأنك تحت رحمة عاصفة...؟"
(أدريان... كان خائفًا...؟)
شعر ليونيل بالذنب يتراكم كجليد فوق صدره، لكنه لم يعرف ماذا يقول.
فقط أغلق عينيه.
(أنا... عدت من الظلال. لكن الظل، لم يغادرني بعد.)
(وأنا الآن، أخاف من رجل واحد… أكثر من نوكس نفسه...)
---
[العربة تتجه إلى العاصمة – الظلال خلفهم – والمساء يشهد على صمتٍ ثقيل]
ليونيل استرخى على مضض في حضن أخيه،
يحاول أن يتظاهر بالنوم... لكنه لا يجرؤ أن يحلم.
لأن الاستيقاظ على وجه الإمبراطور إدوارد
أقسى من أي كابوس.
---
[داخل العربة – المساء يزحف نحو منتصف الليل]
أصوات الخيول أصبحت أكثر رتابة، والعربة تهتز بلطف فوق الطريق المعبّد بالحجارة القديمة.
أدريان لم يقل شيئًا منذ لحظات... لكن ذراعيه ما تزالان تطوّقان ليونيل.
ثم فجأة، ضمّه بقوة أكبر... ودفن وجهه في شعره المبعثر، المتعرق من الحمى والمعركة.
"اشتقت إليك،ليوني..."
---
ليونيل اتسعت عيناه قليلاً، وجهه احمرّ حتى أذنيه.
(لـ… ليوني؟ منذ متى يستخدم هذا اللقب؟)
(وهذا... القرب…؟!)
أراد أن يبتعد، أو يلفظ شيئًا، أي شيء…
لكنه لم يفعل.
(أنا لم أدفعه…)
(عادة كنت أفعل. حين يقترب أدريان أكثر من اللازم، كنت أدفعه بلا تفكير. جسدي كان يرفض، كما لو أنّ غريزتي تقول "يكفي". لكن الآن… لم أفعل شيئًا.)
---
أدريان أغلق عينيه وابتسم بخفة، دون أن يراه أحد.
(إنه لم يدفعني...)
(لم يعد يرفض وجودي بقربه كما اعتاد...)
(أخيرًا… ربما بدأ يتقبلني من جديد)
كان قلبه ينبض بخفة… تلك الخفة التي لا تُشبه أجنحة الفراشات، بل تُشبه شخصًا ظلّ غارقًا في صقيع اللامبالاة، ثم تنفّس دفئًا للمرة الأولى منذ زمن.
ليونيل ظل يحدّق في أدريان بصمت.
(لماذا لم أرفضه؟ لماذا لم أشعر بنفس الضيق؟)
(هل تعافيت؟ لا… ليس تمامًا. لا يزال هناك شيء ما… شيء يجعلني أتقلص كلما اقترب كثيرًا.)
(سحره… نعم، ربما سحر أدريان هو السبب. مانا الضوء داخله قد لا تنسجم مع ظلي… وربما هي السبب في شعوري بالغثيان كلما اقترب)
لكنّه… رغم تلك الفكرة، قرر شيئًا:
(…لن أدفعه مجددًا)
(لأن شيئًا ما في هذا الحضن… يجعلني أتذكّر أنّني على قيد الحياة)
---
أدريان لا يزال يحتضنه، وليونيل يحدق بالسقف الخشبي للعربة
السقف ، تتدلّى منه تميمة أمان زرقاء، اهتزت بفعل عثرة بسيطة…
مثل قلب ليونيل تمامًا.
(هل يمكن… أن أظل هنا قليلاً؟)
(قبل أن يبدأ والدي بالأسئلة… وقبل أن يعود الظل ليهمس مجددًا)
---
[داخل العربة – بعد منتصف الليل]
هدأ تنفّس ليونيل أخيرًا. وجهه استرخى، ملامحه هدأت، وكأن الألم قد استسلم له، لا العكس.
كان نائمًا، لكن قبضته الصغيرة على عباءة أدريان لا تزال مشدودة.
أدريان اكتفى بالنظر إليه، ثم أخرج مرآةً سحرية صغيرة من الجيب الداخلي لعباءته، حوافها محفورة برموز العائلة الإمبراطورية. لمس سطحها بلطف، حتى بدأت تتوهّج بضوء خافت.
انعكس وجه، بارد، ، يحمل هالة من الهيبة...
إدوارد، الإمبراطور.
قال أدريان بصوت خفيض حتى لا يوقظ أخاه:
"أبي، أبلغك أن المهمة انتهت... ولكن حدث أمر غير متوقّع."
صمت، ثم أضاف:
"ليونيل... استخدم السحر."
وجه الإمبراطور لم يتغيّر، لكن الصمت طال أكثر من اللازم.
أكمل أدريان بقلق:
"لقد... أصبح يسير . كقاتل مستخدم ظلٍّ من المستوى الخامس.
وقد كان... سريعًا. شديد التركيز. لا يشبه حالته المعتادة، بل… لم يكن يشبه نفسه."
ثم تنفس وقال:
"والأهم... أنه استخدم السحر، رغم أنك ختمته بيدك منذ أن كان في الخامسة.
لا أعلم كيف كسر الختم… أو من كسره. لكنه فعلها."
وجه الإمبراطور بقي على حاله…
عيناه فقط تحرّكتا قليلاً، كأنّهما تجسّان الخبر ببطء.
لكنه لم يعلّق. فقط أنهى الاتصال.
---
[صباح اليوم التالي – بوابة القصر الإمبراطوري]
وصلت العربة، واستقبلها حرّاس البوابة، والرايات لا تزال مرفوعة رغم الغسق الذي ما زال في الأفق.
فتح أدريان الباب ونزل، ثم حمل ليونيل من الداخل، لا يزال نائمًا بعمق، وجهه شاحب لكن هادئ.
خُطى ثقيلة تقدّمت من أسفل الدرج الرخامي…
الإمبراطور إدوارد بنفسه، بثيابه العسكرية السوداء، ووشاح العرش الأحمر ينسدل على كتفه.
اقترب دون كلمة، ثم مدّ ذراعيه وأخذ ليونيل من أدريان.
نظر في وجه ابنه طويلاً، وكأنه يبحث عن شيء لم يعد موجودًا... أو شيء خُلق من جديد.
ثم، وبهدوء لم يُعتد عليه:
"اشتقت إليك، ليو."
ثم ابتسم، تلك الابتسامة الغريبة التي تخيف أكثر مما تطمئن.
"وكذلك... اشتاق إليك طبيبك الفيزيائي، إدغار."
(حتى وهو نائم… بدأت محاكمته)
---
[داخل ممرات القصر الإمبراطوري – بعد دقائق من وصول العربة]
كان الهدوء يخيّم على الممر الرخامي الطويل، المضاء بمصابيح السحر الأبيض.
الإمبراطور يسير بخطى ثابتة، يحمل ليونيل النائم بين ذراعيه، وخلفه أدريان بخطى خفيفة، يراقب بقلق.
لكن…
من بين ذراعي الإمبراطور، بدأت علامات الحياة تعود.
فتح ليونيل عينيه فجأة، كأنّ نارًا أيقظته من قيلولته.
رفع رأسه قليلًا، ونظر حوله بارتباك… ثم زمجر:
"أين…؟ من…؟"
ثم شهق:
"لاااا! أنزلني حالًا، أيها الطاغية المجنون! لديّ قدمٌ مكسورة وكرامة محطّمة، وأنت تحملني كوسادة!"
---
أدريان ضحك بخفّة، بينما تابع الإمبراطور سيره دون أن يرف له جفن.
لكن ليونيل بدأ بالتململ والتلوي داخل ذراعي والده، كقط غاضب رفض أن يُلمس.
"أيها الإمبراطور البائس! اتركني! لقد قلتُ سابقًا إن العائلة الإمبراطورية لعنـــ…!"
صوت حادّ قاطع عبارته، إذ غيّر الإمبراطور اتجاهه فجأة، وانعطف نحو الممر الأيسر.
ليونيل شهق:
"لا… ليس إلى هناك!"
لكن الأوان قد فات.
[غرفة العلاج الفيزيائي الإمبراطورية – "إدغار" بانتظار الضحية]
فتح الإمبراطور الباب ودخل. إدغار، الطبيب ذو العضلات المفتولة والابتسامة الهادئة، كان يلمّع أدوات التعذيب… أقصد، العلاج الفيزيائي.
بمجرد أن رأى ليونيل، ابتسم بحرارة:
"أوه! عزيزي سمو الامير ليونيل! اشتقتُ إليك… لقد جلبتُ معجون الأعشاب الجديد… أقوى بنسبة ٤٠٪!"
صرخ ليونيل:
"أيّ أعشاب!؟! هذا جحيمٌ على هيئة كريم! أنا أرفض—"
لكن الإمبراطور وضعه برشاقة فوق سرير الجلسة.
قال بهدوء:
"إنه بحاجة لعلاج فوري، عضلاته تعرضت لتلف بسبب العشبة التي لا نعلم مصدرها بعد."
ثم نظر إلى ليونيل مباشرة:
"والأهم… كيف كسرتَ الختم السحري حول قلبك؟"
ليونيل تجمّد.
تحت أصابعه، بدأ إدغار يضغط على عضلات الظهر المتشنجة، وليونيل يصرخ:
"آآاه! لا أعلم! أقسم أنني لا أعلم! نظام غبي ظهر فجأة! أعطاني إكسيرًا وقال لي إنه مؤقت! لا أعرف كيف يعمل! أغرب شيء في حياتي بعد شوربة أدريان!"
إدوارد لم يُظهر أي انفعال. فقط وقف هناك، يراقب، وصوته العميق يسأل من جديد:
"هل يهذي بسبب الالم ؟"
صرخ ليونيل:
"لم يخبرني أحد بشيء! كنت أحتضر! وظهرت فراشات، ثم ظل، ثم كيان ظلامي غريب عرض عليّ عقدًا! هل هذا طبيعي؟! هل هذا طبيعي لعائلة إمبراطورية؟!"
---
(لقد عدنا… إلى هذا الجحيم… إلى جلسات الصراخ، والأعشاب، والاتهامات…)
لكن رغم كل شيء…
في أعماقه، كان هناك شيء غريب يشعّ داخل صدره...
لم يكن الغضب.
لم يكن الألم.
بل… فضول.
(كيف كسرتُ الختم… فعلاً؟)
---
[غرفة العلاج الفيزيائي – بعد مرور ساعة على جلسة "التعذيب الشرعي"]
كان ليونيل ممددًا على سرير العلاج، جسده شبه ميت، أطرافه ترتجف كأغصان شجرة ضربتها عاصفة عشائريّة.
أنفاسه متقطعة، شعره منكوش، ووجهه يتصبب عرقًا.
لكن صوته… لا يزال يعمل.
("تبا لك أيها النظام! تبا لكل نوافذك المفاجئة ولكتابك السخيف! وهل المؤلف أيضًا جزء من الخطة؟ هل يراقبني الآن؟ وقح! حاقد! مريض بذوق درامي منحرف!")
(كأنني دمية تُحرّك بالخيوط… والكل يصفق، إلا أنا!)
ثم أدار رأسه بصعوبة نحو أدريان الجالس جانبًا، وقال بغيظ:
"وأنت! لِم لا تستخدم سحرك على( النظام؟ أو على المؤلف؟) احرق المخطوطة! أو احرق العائلة الإمبراطورية كلها!"
أدريان أشار بيده نحو الإمبراطور ببطء وتحفّظ، كمن يذكّره أن "العائلة الإمبراطورية" ما تزال تقف قربه.
ليونيل استدار ليواجه والده، عينيه تشتعلان:
"بل تبا للعائلة كلها! بدءًا من سيدي الإمبراطور... وانتهاءً بأحفاد أحفادي الإمبراطوريين!"
لكن قبل أن يكمل جولة الشتائم التالية، انحنى إدوارد بصمت، ورفعه بذراعيه كما يحمل والدٌ طفله النائم بعد نوبة بكاء.
(آه… ها قد بدأ مجددًا. الهدوء المخيف. هو لا يعاقبني… لا يصرخ… فقط يراقب… ثم يُفاجئني بشيء يجعلني أرتبك مثل أحمق)
إذ مدّ يده وسحب من جيبه قطعة حلوى ذهبية مغلفة.
ربت على شعر ليونيل برفق، ووضع الحلوى في كفه المرتجف.
ليونيل توقف عن الحركة.
نظر إلى الحلوى… ثم إلى والده… ثم إلى أدريان… ثم إلى الحلوى مجددًا.
"…"
فتحها، وألقاها في فمه دون مقاومة.
قال إدوارد بنبرة هادئة:
"سآخذك معي، ليو."
"هاه؟ إلى أين؟"
"إلى أوبيليسك. مع الوفد الرسمي للإمبراطورية. سترافقني."
ليونيل همّ أن يعارض فورًا، وقد فتح فمه بالفعل:
"أنا لا—"
لكنّه توقف.
تذكّر فجأة كتب الطهي التي سرقها من مكتبة القصر.
الصور الغريبة لأطباق مشوية فوق أحجار ملتهبة، وآيس كريم أرجواني يُصنع من فاكهة متوهّجة.
(أوبيليسك… أليست تلك الإمبراطورية التي يستخدمون فيها السكر البحري؟
أطباقهم تُطهى بالبخار العطري… وأسياخ اللحم المتبّلة هناك بحجم ذراعي!)
تأمل قطعة الحلوى في فمه، ثم تنهد.
"... سأفكر في الأمر."
قال إدوارد بابتسامة نادرة:
"لقد وافقتَ فعلاً."
ليونيل تمتم:
"بشرط أن لا يتكلم إدغار أثناء الرحلة. صوته يجعل عضلاتي تتشنج من جديد."
---
[داخل الجناح الإمبراطوري – ممر خاص يؤدي إلى حمّام ملكي فخم]
الهدوء يسود الممر. مصابيح الكريستال السحري تنير الطريق برقة، وزخارف جدران المرمر تحكي قصص أبطال منذ قرون.
وسط هذا المشهد الراقي...
كان هناك من يُسحب بعنف، يتمسّك بإطار الباب بكل أطرافه كقطة تتشبّث بأريكة!
"لــاااا! إدوارد! أقصد، يا أبي! توقّف! لديّ كرامة! إنسان أنا! لدي حقوق!"
الإمبراطور إدوارد كان يسير بهدوء… يحمل ليونيل من مؤخرة عباءته، كما تُحمل القطة المشاكسة.
"دعني! دعني! دعنييييي!"
"خادم! خادمة! أيّ أحد! أنقذوني من هذه المعاملة الغير انسانية اريد ان يححمني الخادم المعتاد!"
إدوارد، دون أن يحيد بنظره، قال ببرود:
"الخدم لهم أدوار محددة. تنظيف ابني المتّسخ ليس منها."
صرخ ليونيل وهو يُرفرف برجليه:
"أنا لستُ متّسخًا! لقد سقطت في الرماد وانفجرت فوقي جرعة ملوّنة! الأمر طبيعي! إنه سحر معقّد!"
ردّ إدوارد وهو يفتح باب الحمّام المهيب:
"بل هو وسخٌ شديد الطبقات."
---
[داخل الحمّام – أشبه بقصر صغير من الرخام الأبيض والذهب]
الماء يتدفق من فم تمثال تنين إلى حوض ضخم محفور في قلب الأرض، يغمره بخار عطري.
إدوارد يدخل بخطى ثابتة.
ليونيل يتشبّث بإطار الباب بكل أطرافه، رأسه مقلوب وجسده معلق، ويصرخ:
"هذه إساءة استخدام للسلطة! أين المحكمة الإمبراطورية؟! هذا تعذيب نفسي!"
إدوارد رمى عباءته جانبًا، ثبّت ليونيل بيد، وبدأ بإزالة ثيابه المغبرة.
"لااااا! على الأقل أمهلني خمس دقائق نفسيّة! أو دع الخدم يفعلون هذا! لديّ خادم يُدعى توماس… يحب تنظيف الأشياء القذرة!"
أجاب الإمبراطور وهو يضعه في الماء:
"الخدم ليسوا مدرّبين على التعامل مع صراخك."
---
[داخل الحوض – لحظة غليان داخلية]
الماء العطري يهدّئ الجسد… لكن عقل ليونيل كان في حالة تمرد.
(تبا… هذا دافئ جدًا… والرائحة لطيفة… ولمَ يشعر هذا البخار كأنه يحتضنني؟!)
ثم نظر إلى إدوارد، الذي بدأ بفرك شعره برغوة فاخرة قائلاً:
"هل تشعر بتحسّن؟"
ليونيل، وعيناه مليئتان بالعار:
"أنا أكرهك."
ردّ إدوارد بكل هدوء:
"وأنا أحبك."
---
[بعد الاستحمام – في غرفة التجفيف وتبديل الملابس]
تم لف ليونيل بمنشفة عملاقة من الحرير السحري.
عيناه نصف مغمضتين، وجهه أحمر، من الإحراج والحرارة على حدّ سواء.
بدأ الإمبراطور بتجفيف شعره بعناية.
قال ليونيل بصوت خافت:
"يمكنني فعل هذا وحدي..."
ردّ إدوارد دون أن يتوقف:
"ربما. لكنك لن تفعل."
بعد ذلك، أخرج من الخزانة ثوبًا إمبراطوريًا أنيقًا، رماديًّا مزخرفًا بخيوط ذهبية، وزرّين من حجر القمر.
لبّسه إياه بنفسه، حتى ربط الحزام بيديه.
ثم نظر إليه برضا وقال:
"هكذا يليق بوريثٍ يسافر إلى أوبيليسك."
ليونيل، وقد جلس على المقعد مثل طفلٍ معاقب، تمتم:
"... هل ستغسلني كلّما سافرتُ معك؟"
أجابه إدوارد بابتسامة نادرة:
"طالما لا تزال تتلوى كقطة مصابة… نعم."
---
(تبا... تبا... هذا هو أكثر يومٍ مذلٍّ في حياتي...
لكن الثوب جميل... والماء كان لطيفًا...
وحلوى الصباح… كانت لذيذة)