[الجناح الإمبراطوري - بعد دقائق من الوصول]
قادت الخدم الوفد إلى الجناح المُعدّ خصيصًا لضيوفهم من الإمبراطورية ، جناح فاخر بأرضية من الرخام الأبيض ونوافذ عالية تطل على حدائق الثلج الخلفية.
وضع الإمبراطور إدوارد ابنه الصغير على السرير الكبير، غطّاه برداء ثقيل، وضبط له الوسائد.
" نمْ. لقد وصلتَ حيًّا، وهذا إنجاز كافٍ لهذا الأسبوع."
أغمض ليونيل عينيه دون رد، بينما قفز فاين إلى جواره واستدار بلُطف، ملتفًا بجانبه كوسادة دافئة.
اليوت غادر نحو الحمام المجاور، علبة ملابس تحت ذراعه، في حين تبعه الإمبراطور بعد لحظات.
لحظة هدوء...
ثم:
طنّ ! ظهر إشعار أمام وجه ليونيل، يسبح في الهواء.
[ النظام: إشعار مهم!] مهمّة: إنقاذ البطل "ألكسندر داركويل" الحالة: فشل جزئي - لم يتم تحييد "الراهب الأحمر".
ظهر كارثة بجانبه، يدور وهو يلوّح بيديه القصيرة الصغيرة.
" هنيئًا لك، أول فشل رسمي لك كـشرير! هل نحتفل؟ أم نحفر لك قبرًا؟"
ليونيل فتح عينيه ببطء.
"ماذا قلت للتو؟"
"المهمّة فشلت. أنقذت البطل؟ رائع. لم تقتل العدو؟ آسف، عزيزي، الرواية لا تحتسب نصف البطولات ."
ليونيل اعتدل في جلسته فجأة، نظر نحو السقف، ثم صرخ:
"هل أنتم جادّون؟ أوقفتم حياتي في كوريا، زرعتموني في رواية سخيفة، وأعطيتموني نظامًا يشبه قطعة خردة ناطقة، والآن تخبرونني أني فشلت؟!"
كارثة طار على شكل حلقة فوق رأسه: "أنا قطعة فنية، لو سمحت."
"فنية؟ أنت كارثة تمشي على تنبيهات! كل هذا الجهد! زحف، دماء، صقيع، عبيد، سيف، وكل ما حصلت عليه: فشل؟!!"
فاين الذي كان مستلقيًا بهدوء فتح عينه نصف فتحة، ونظر إليه نظرة طويلة دون أن يتحرك.
" لا تنظر إليّ هكذا، لم أطلب هذا المصير!" قالها ليونيل وهو يشير إلى فاين.
كارثة: " قد تحتاج لتدريب إضافي. أو جرعة نوم."
ليونيل وضع الوسادة على وجهه: " أنا أكرهكم جميعًا."
فاين تحرك قليلًا، وضع ذيله على رأس ليونيل.
" حتى أنت؟!" صرخ ليونيل.
ردّة فعل فاين الوحيدة كانت التثاؤب.
[الجناح الإمبراطوري - قبل الغروب]
ظلّ ليونيل يتقلب في الفراش بعد أن اختفى إشعار النظام... حتى عاد كارثة ليطفو فوقه مجددًا، مبتسمًا ابتسامة مريبة.
[النظام - رسالة خاصة من المساعد الافتراضي كارثة] تم تحديد مهلة المهمة الحالية: أسبوع واحد. الهدف: تحييد الراهب الأحمر. المكافأة: الكشف عن سر العملية الجراحية القادمة.
كارثة طاف بدوران بطيء أمام عيني ليونيل، وهو يقول: " أسبوع واحد، يا فتى. وإلا... لا عملية، لا معلومات، ولا كريمة على حلواك!"
ليونيل سحب الوسادة على وجهه بصوت مكتوم: " كريمة ماذا، أيها الـ... تبًا لكم. المؤلف، النظام، وحتى انت أيها المساعد الكارثي!"
كارثة صفّق بجناحيه الصغيرين: " على الأقل لم تشكك في جودة خدمتي. أشعر بالتحسن!"
" اصمت ." ثم لف جسده بالكامل بالغطاء، مطلقًا تنهيدة طويلة جدًا كانت تحمل في طياتها كل الكره لهذا العالم. "أسبوع آخر في هذا الجحيم..."
---
[الصالة الكبرى - قصر أوبيليسك - بعد دقائق]
فُتحت الأبواب على مصراعيها، وعلى المائدة الممتدة كالأنهار كانت الشموع تضيء أصناف الطعام الفاخر، واللحم المتبّل على طريقة أوبيليسك، ونبيذ الثلج الشهير.
دخل الإمبراطور إدوارد كريستين، يتبعه ابنه الهادئ اليوت، كلاهما يرتدي حلّة إمبراطورية تحمل شعار العائلة الملكية.
في انتظارهم، جلس الإمبراطور داريوس على رأس الطاولة، برفقة زوجته الإمبراطورة إليسا، وولي العهد كايل، والأميرة إيرينا.
ابتسم داريوس وهو ينهض قليلاً: " أهلًا بك في أراضينا الجليدية، يا إدوارد. مضى وقت طويل."
" كنت أحتاج ذريعة سياسية كي أراك دون أن أبدو عاطفيًا." قالها إدوارد، وجلس بمرونة مهيبة.
إيرينا التفتت إلى اليوت: " وأين الأمير الرابع؟ الطفل اللطيف الذي كنتم تحملونه عند البوابة؟"
أجاب اليوت بابتسامة مصطنعة: " نائم، وأقرب وصف لحالته الآن هو: 'عبوس ملفوف في بطانية.'"
ضحكت الأميرة، بينما بدأت الصحون تُملأ بأطباق ساخنة.
داريوس بصوت أكثر جدية: " وصلتنا تقارير عن نشاطات سحرية غير مصرّح بها في العاصمة . وتزامن وصولكم مع اشتعال المسألة."
إدوارد لم يرفع نظره عن كأسه، وقال: " لا دخل لوفدنا. وإن حدث، فسوف نعالج الأمر داخليًا."
كايل قال: " بعض النبلاء المرتبطين بسوق العبيد اختفوا فجأة."
اليوت قاطع: " العبيد؟ سوق؟ مهربون في العاصمة؟"
إيرينا ضيّقت عينيها. " سمعنا إشاعة عن أميركم الصغير هناك أيضًا... ربما مجرد إشاعة."
إدوارد اكتفى بعبارة: " سوف أتعامل مع الأمر شخصيًا."
داريوس اتكأ قليلاً للأمام. " دعني أكون صريحًا، يا إدوارد. إمبراطورية أوبيليسك تمر بمرحلة انتقالية. الملكة تضغط من أجل إعلان الأميرة إيرينا وريثة رسمية. لكن كايل لديه تأييد الجيش. الوضع هش."
اليوت نظر نحو والده، بينما إدوارد رفع كأسه وتكلم بهدوء: " وهنا يأتي عرض التحالف، أليس كذلك؟ زواج سياسي، دعم عسكري، أو حتى مساندة في الحسم الداخلي."
إليسا، الإمبراطورة، قالت بصوت رخيم: "البيت الملكي في كريستين يملك شرفًا لا يُشترى. ونحن لا نعرض إلا ما يُرضي الجميع."
إدوارد أعاد الكأس مكانه. " سنفكر. أما الآن، دعونا نتناول العشاء."
---
[الجناح الإمبراطوري - بعد ساعة]
كان ليونيل قد غطّ في نوم عميق، بينما فاين ملتف عند قدميه. في رأسه، لم تعد كلمات كارثة تتردد فقط، بل شيء آخر: " تحييد الراهب الأحمر... خلال أسبوع..." أحس أن النوم لن يدوم طويلًا.
[قاعة المأدبة - قصر أوبيليسك - بعد مضي بعض الوقت]
بعد تبادل الأحاديث الرسمية ومجاملات التحالف، بدأت نبرة الحوار تنحرف تدريجيًا نحو ما لم يكن على جدول اللقاءات.
جلست الإمبراطورة " إليسا " بكامل زينتها الإمبراطورية، وألقت نظرة على ابنها الواقف إلى يمينها، ولي العهد كايل، ثم التفتت نحو اليوت، الذي كان يُمسك كوب الماء بيده اليمنى بهدوء.
قالت بنبرة سلسة لكنها مقصودة: " الأمير اليوت يبدو راشدًا بما فيه الكفاية... ذكي، متزن، وقوي الشخصية. أليس كذلك، جلالة الإمبراطور إدوارد؟"
رفع إدوارد عينيه إليها بثبات: "أجل، إنه ابني."
تابعت الإمبراطورة: " في هذه الأوقات، الأواصر بين الإمبراطوريات تحتاج أكثر من كلمات. اتحاد عائلي سياسي بين البيت الإمبراطوري في كريستين وبيت أوبيليسك قد يفتح صفحة جديدة من القوة والاستقرار في القارة."
ثم أشارت برقة إلى الأميرة " إيرينا "، التي ابتسمت نصف ابتسامة.
أكملت الإمبراطورة: " وأرى أن الأميرة إيرينا والأمير اليوت سيكونان زوجين جديرين بحمل إرثنا المشترك."
سادت لحظة صمت ثقيل. حدّق اليوت نحو والده بترقّب، وبدأ كايل يعبث بخاتمه الذهبي من الضيق.
نهض إدوارد من مكانه ببطء، وحدّق مباشرة في عيني إليسا.
قال بهدوء يخفي في داخله قسوة واضحة: "دعيني أكون صريحًا، يا صاحبة الجلالة... لن أتدخل في الشؤون السياسية الداخلية لإمبراطورية أوبيليسك، لا كداعم لهذا ولا معارض لذاك."
ثم أضاف: "أما فيما يخص زواج ابني... فهو لا يزال صغيرًا. والأهم، لا أنوي أن أزجّ بأطفالي في حرب الخلافة لديكم."
نظرت إليه إليسا بجمود. أما الأميرة إيرينا فعبست بوضوح. كأنّ كبرياءها كأميرة قد ضُرب أمام الجميع.
أكمل إدوارد: "نحن هنا لأسباب صحية فقط، لا سياسية. وإن أردنا التحالف، فلن يكون عبر قيد زواج مفروض على فتى في سن اليافعين."
ثم استدار بهدوء، وأشار لابنه: " اليوت، لنذهب."
وقف اليوت بهدوء، ومال برأسه بخفة احترام نحو الجميع، ثم سار خلف والده.
عند مغادرتهما، كانت الأميرة إيرينا تمسك بكأسها بقوة حتى شحب مفصل إصبعها، والإمبراطورة التفتت نحو زوجها داريوس بحدة.
أما الإمبراطور داريوس، فقد اكتفى بزفرة طويلة، كما لو أن هذا المأزق أخيرًا انتهى من تلقاء نفسه.
ولي العهد كايل، الذي ظل صامتًا طوال المشهد، اكتفى برفع كأسه بعد رحيل الضيوف قائلاً بهدوء: " الحمد لله."
[ممرات القصر الإمبراطوري – أوبيليسك ]
نهضت الإمبراطورة " إليسا " من مجلس المأدبة ببطء، ثوبها الملكي يجرّ خلفها بثقلٍ يحمل من الغضب بقدر ما يحمل من الأناقة، وخلفها تسير الأميرة " إيرينا " بخطى هادئة لكن متوترة.
في الممر الخارجي، أطلقت الإمبراطورة همسة باردة لا تسمعها سوى ابنتها: "لن نترك الأمور تنتهي بهذه الطريقة يا إيرينا… إن رفض والدَه، سنغوي ابنه."
نظرت إليها الأميرة دون اعتراض.
أكملت إليسا: " قاربيه، أغويه، اجعليه يراكِ كاختيار لا كعرض سياسي. ضعي كرامتك جانبًا إن استلزم الأمر."
هزّت الأميرة رأسها موافقة: " أفهم، سأجعله يطلب يدي بنفسه."
---
[في جناح ضيوف – ما بعد منتصف الليل]
دخل الإمبراطور " إدوارد " جناحه الخاص بهدوء، وقد خفّف عباءته وترك سيفه على المنضدة. نظر نحو السرير المجاور حيث يتكوّر جسد صغير تحت طبقات الغطاء الدافئ، وخصلات شعره الفضي تنسدل على الوسادة. تنهد بعمق، ثم اقترب.
همس بصوت خافت: " لا تزال نائمًا… جيد."
وضع يده بلطف على رأس " ليونيل "، ثم استلقى على فراشه هو الآخر، وعيناه تنغلقان تدريجيًا بعد يوم مليء بالسياسة والحذر.
[صباح اليوم التالي – جناح ضيوف – قصر أوبيليسك]
بدأت الطيور تغرد خارج النوافذ العالية، لكن الجو في الغرفة لا يحمل أي رغبة بالنهوض. دفن " ليونيل " رأسه أعمق في الوسادة بينما يرنّ صوت خافت في الخلفية:
"استيقظ، الإفطار السياسي ينتظر."
ردّ ليونيل بصوت مكتوم وهو لا يفتح عينيه: "لا أريد... كرهي للأكل مع السياسيين فوق كرهي لكابوس أمس."
اقترب إدوارد، وقف عند جانب السرير، ورفع الغطاء ليكشف عن ولده المتكور كالقط. كان " فاين " جالسًا على الكرسي المجاور، في حجمه الصغير، يراقب بصمت.
قال ليونيل، محاولًا دفن وجهه مجددًا: "أنا مريض. لديّ حرارة خفية. لا أحب الناس. لا أحب الإمبراطور الآخر. لا أحب ملابس الرسمية. أريد بيجامتي وحلوى."
ردّ إدوارد وهو يلف أكمام قميصه: " رائع، لأنك ستحصل على كل ما لا تحب."
ثم أمسك به بخبرة ورفعه من الفراش، وبدأ يسير به نحو الحمام، بينما ليونيل يتلوى بين ذراعيه:
" ضعني! سأعضك! أستطيع المشي—لا أستطيع، لكن لا يهم! أريد البقاء!"
تجاهله إدوارد، وأجلسه في الماء الدافئ، ثم بدأ يغسل شعره دون أي رحمة تجاه تذمراته المتكررة.
"أنت مثل الإمبراطوريات القديمة… لا تسمع إلا نفسك!" صرخ ليونيل وهو يبلل وجهه.
" أنا إمبراطور، حرفيًا، لذا… نعم." أجابه والده بهدوء وهو يصب الماء فوق رأسه.
بعد انتهاء الحمام الإجباري، قام بتجفيفه، وألبسه ملابس رسمية مطرزة بخيوط ذهبية، وربط عباءته الداكنة ورفع ياقة القميص الملكي حول عنقه.
وقف ليونيل متجمّدًا أمام المرآة وقال بامتعاض : "أبدو كأنني ضحية مؤتمر ملكي، لا أمير."
ثم أُمسك مجددًا، ورفع إلى الأعلى.
" لماذا تحمّلني كقطّة؟ لديّ كرامة!" صاح وهو يُسحب من الغرفة، بينما فاين يركض خلفهما على أربع.
"سأضعك على الأرض في قاعة الطعام… لا تقلق. لحظة الهلاك الرسمي قربت." قالها إدوارد بابتسامة هادئة بينما يسير في الممرات الطويلة.
[قاعة طعام القصر – بعد دقائق]
دخل وفد كريستين رسميًا، يتقدمهم إدوارد، وخلفه اليوت، بينما في ذراعيه يجلس الأمير الرابع – الشرير المتذمّر – يعبس وكأنه داخل إلى قاعة الإعدام.
نهض الإمبراطور " داريوس " من مكانه احترامًا، وابتسم بمجاملة: " سعيد برؤيتكم هذا الصباح، جلالة إدوارد. وأعتقد أن الأمير الصغير لا زال يشعر برغبة في النوم."
ردّ ليونيل وهو يغمغم: "أنا مستيقظ جسديًا فقط، أما روحي… فقد استسلمت منذ الحمام."
ضحك اليوت خلفهم وهو يهمس: "طفل بابا المدلل يعيش مأساة رسمية جديدة."
[قاعة الطعام الملكية – قصر أوبيليسك]
وُضِع " ليونيل " على كرسيه المخملي بلطف، و" فاين " جلس على سجادة صغيرة بجانبه متأهبًا لأي قطعة تسقط من المائدة. كانت الطاولة طويلة ممتدة على مر البصر، مفروشة بمفرش أبيض مرصع بالخيوط الذهبية، وفوقها تناثرت أطباق تفوح منها روائح آسرة.
(آه... هذا… هذا هو الجمال الحقيقي… الطعام.)
عيناه لم تعرفا أين تثبتان؛ هناك صدر بط مشوي بالعسل والزيتون الأسود، وخبز محشو بالجبن المعتّق، وقطع لحم غنم متبّل على الطريقة الشرقية، وشوربة الكريمة والكمأة السوداء، وصحن أرز بالزعفران وحليب جوز الهند، وحتى سلطة مشمش مجفف وبندق.
(لقد وصلت… إلى الجنة.)
بهدوء متردد في البداية، مد شوكته، أخذ قطعة صغيرة من لحم البط، ثم ذاب في مكانه.
(هذا… ناعم جدًا… هل هذا ما يشعر به الملوك كل يوم؟ لماذا لم يطعموني مثل هذا منذ اليوم الأول؟!)
انهمك في تناول الطعام، يقضم من هذا وذاك، يتحاشى النظر إلى الآخرين كي لا يُقاطع. كانت كل قضمة كأنها تعيد بناء روحه من جديد.
(في المستشفى كنت آكل حساء شفافًا وطعامًا لا طعم له. كل شيء كان ممنوعًا: الدسم، الدهون، السكر، حتى الفرحة كانت ممنوعة… والآن؟ أنا آكل خبز محشو بالجبن، ولا أحد يمنعني! هذا هو النصر.)
ثم فكر قليلاً وهو يبتلع قطعة لحم حارّة:
(حتى عندما جئت إلى هنا، كان إدغار يمنعني من أي شيء فيه دسم بحجة التأهيل الفيزيائي… قال إن جسمي هش وإن ماناي متقلبة. سمحوا لي قبل شهر فقط بشيء خفيف. كنت أعيش حياة مسلوقة…)
رفع عينيه ببطء. على الطرف المقابل من الطاولة، جلس الإمبراطور "
إدوارد
داريوس
كايل
رآه يبتسم وهو يراقب ليونيل يتناول الطعام بنهم.
(…هل هو… راضٍ؟ هل يشعر بالراحة لأنه يراني آكل؟ كم هذا غريب… لكنه شعور دافئ نوعًا ما.)
واصل الأكل كأن العالم الخارجي لا يعنيه.
على الطرف الآخر، جلست الأميرة "
إيرينا
" هل تحب المربى المصنوع من توت الجبال ؟" همست الأميرة وهي تمد له ملعقة صغيرة.
ردّ "اليوت" بابتسامة دبلوماسية: " أفضل العسل… أو اللحم."
(يا إلهي… تنقذين نفسكِ، أيتها الأميرة، من الإحراج.)
أما الإمبراطورة " إليسا " فكانت تتحدث بتصنع مع إحدى سيدات الحاشية، بينما ترسل بين الحين والآخر نظرات مدروسة نحو " اليوت " ثم تنظر للأميرة، كأنها تُقيّم استراتيجيتها.
في الزاوية العليا، كان " داريوس " إمبراطور أوبيليسك – رجل طويل وذو شعر فحمي يشبه الحديد – يتحدث مع " إدوارد" و"كايل " عن الأمور السياسية بصوت منخفض.
" الوضع في الحدود الشرقية مستقر مؤقتًا… لكننا نحتاج لتحالف قوي لمواجهة تصعيد أراضي آستيريا." قال داريوس وهو يضع كأسًا من شراب البرتقال المحفوظ بالزنجبيل.
"تحالف غير مشروط ؟" سأل إدوارد بنبرة محايدة.
" أحيانًا نحتاج أن نأخذ مصالح أمرائنا بعين الاعتبار، مثلاً… الزواج السياسي."
"سبق وقلت كلمتي ." أجاب إدوارد وهو يرفع كأس الماء ويشرب ببطء.
(صوت صرير شفتيه على الزجاج كان أكثر وضوحًا من أي رفض آخر.)
كايل، رئيس مجلس الحرب، تدخل سريعًا لتغيير الموضوع: " أعتقد أن مسألة إصلاح طريق التجارة في جبال النور بحاجة لإعادة نظر، إمبراطوريًا. الإمدادات هناك مهددة."
عاد التركيز إلى " ليونيل " الذي كان يميل الآن على الطاولة، يربّت على بطنه الممتلئ.
( إنني أموت… لكن على الأقل… أموت سعيدًا.)
بجانبه، جلس " فاين " وقد أخذ قطعة من لحم العجل المتبل من طبق مجاور وسحبها بهدوء تحت الطاولة.
( يبدو أن فاين يتعلم سريعًا… أصبح لصًا ناعم الخطوة.)
"هل انتهيت؟" همس له " اليوت " وهو يمد يده نحوه.
" لا… بقيت قطعة كعك بالكراميل… لن أتركها."
نهض الإمبراطور " إدوارد " من مقعده الملكي الفخم بهدوء تام، مسح بيده على سترته وأعاد ترتيب زرّها الذهبي، ثم أشار إلى " اليوت "، الذي فهم الإشارة في الحال ونهض كذلك، وقد لمح والده يوجّه له نظرة خفيفة نحو ليونيل.
تقدم " اليوت " نحو الكرسي، وانحنى ليرفع ليونيل بين ذراعيه برشاقة محفوظة بالتدريب النبيل، ضامًا المعطف السميك حوله ليقيه البرد، دون أن يطلب منه شيئًا.
ليونيل لم يتذمر، وهو أمر نادر.
بل بقي يحدق عبر المائدة، عيناه نصف مفتوحتين، مثبتتان على وجهَي كايل والإمبراطورة إليسا . ملامحه لا تظهر شيئًا، لكن داخله كان يغلي من محاولة تذكر شيء ما.
( أنا متأكد أنني قرأت شيئًا عن هذه المرأة… وعن كايل. أين… أين قرأته؟ في أي فصل؟)
تجاعيد حواجبه تضاعفت وهو يستجدي الذاكرة، لكنها تهرب منه، تتبخر كلما حاول الإمساك بها. فقط انطباع غريب، إحساس غامض بالتكرار.
(هذا مزعج. كان شيئًا مهمًا، ربما خطر…)
لكن قبل أن يتمكن من تجميع فكرة مكتملة، فتح الإمبراطور " إدوارد " باب الجناح الملكي الخاص بهم. دخل " اليوت " أولًا وهو لا يزال يحمل ليونيل، ثم وضعه على السرير الكبير ببطء.
" ارتح قليلاً. لدينا اجتماع بعد ساعة، وسنكون قريبين."
"هممم." تمتم ليونيل دون أن يلتفت له.
" اليوت " خرج أولًا، بينما ألقى الإمبراطور نظرة أخيرة على ليونيل وهو يضبط الغطاء عليه، ثم تبعه وأغلق الباب خلفه.
هدأ الجو.
هدوء كامل.
في الزاوية، كان " فاين " على هيئة ذئب صغير، ملتفًا على نفسه، رأسه فوق ذيله، يراقب سيده دون أن ينبس بكلمة.
تنهد ليونيل طويلًا.
(أشعر أن عقلي يتعفن. الملل أسوأ من الألم. لا أريد مأساة جديدة مثل مزاد العبيد، ولا أريد جلوسًا هادئًا مثل المساج الفيزيائي. أريد فقط... أن يحدث شيء، لكن ليس كارثة.)
رمش عدة مرات وهو يحدق بالسقف المرصع بزخارف منقوشة يدويًا. النور كان خافتًا، والستائر نصف مغلقة.
أغمض عينيه.
ثم فتحهما.
أدار وجهه على الوسادة.
ثم تقلب على جنبه الآخر.
ثم على بطنه.
ثم على ظهره مجددًا.
( ما هذا السرير؟ لماذا كل هذا الحرير لا يجعلني أنام؟!)
صر على أسنانه، ثم حدق بـ" فاين".
"أنت نائم؟"
"فاين" فقط حرك أذنه، لكنه لم يرفع رأسه.
"…لا فائدة. سأنام بالقوة."
غطى رأسه بالوسادة.
مرت عشر دقائق.
ثم ارتفع الوسادة مجددًا.
"هذا لا ينجح."
أبعد الغطاء وقفز من السرير – أو حاول القفز.
طاح.
سقط أرضًا مثل كيس دقيق من الطابق الأول.
"آخ… سحقًا."
(جسدي… لماذا لا يتعاون؟ علاج فيزيائي قال… أين العلاج؟ أنا ما زلت أمشي مثل سلحفاة بثلاث أرجل.)
جر نفسه نحو الكرسي بذراع السرير، تمسك به ونهض ببطء.
ركبتاه ارتجفتا.
لكن وقف.
(هذا تقدم، أليس كذلك؟)
ثم خطا خطوة.
وسقط مجددًا.
" تبًا لك، إدغار."
أخذ نفسًا طويلًا وهو جالس على الأرض، ينظر إلى قدمَيه كأنهما خذلتاه عمدًا. ثم استلقى على الأرض، يحدق بالسقف مجددًا.
"ملل… ملل… ملل…"
"فاين" اقترب أخيرًا، وجلس بجانبه، واضعًا رأسه على صدره كأنه يخبره بأن يصمت ويستسلم للواقع.
"أتعلم، كرة الفرو… ربما سأطلب من النظام أن يرسلني في مهمة مشوقة فقط كي لا أتحول إلى تمثال ممل."
"فاين" نظر إليه بتعبير فارغ كعادته، لكن ليونيل ابتسم بخفة.
( أحيانًا… أحتاج فقط أن أتكلم، حتى لو كنت أتكلم مع ذئب.)
ثم أغلق عينيه، وقرر الاستلقاء مكانه، على الأرض، دون مقاومة. ربما سينام هناك. ربما لن ينام أبدًا.
لكنه همس:
" إذا مت… احرص أن يضعوني في نعش مبطّن بمخدات مخملية."
وهدأ صوته تدريجيًا.
---
[جناح الضيوف الملكي – القصر الإمبراطوري في أوبيليسك]
أطلق ليونيل زفرة طويلة، للمرة العاشرة خلال الساعة الأخيرة، وقد تكرم الأرض بأناقته النادرة متمددًا فوقها وكأنه يذوب من فرط الضجر. كان متكورًا على نفسه، يئن مثل قط ضاع عنه العالم، وتارة يضرب الأرض بكعب كعب قدمه بخفة، وتارة ينفث من فمه شكاوى مكتومة.
" آآآه... لو أن نظامك الغبي يظهر الآن ويأمرني بإنقاذ أرنب أسطوري أو شيء... أي شيء إلا هذا الفراغ!" تمتم وهو يحدق بالسقف.
الباب الخشبي الثقيل انفتح بهدوء، ودخل الإمبراطور إدوارد، مظهره مشدود كما المعتاد، وهو يرتدي سترة داكنة بخيوط ذهبية، وفي يده ملفات وأوراق موقعة بختم الشمع الملكي.
لكن ما إن خطا خطوته الأولى حتى توقفت عيناه على المشهد الكارثي الذي أصبح معتادًا: ليونيل... على الأرض.
"…"
ليونيل لم يلاحظ دخوله في البداية، ثم رفع رأسه ببطء، وعيناه معلقتان بوالده.
" أنا أذوب... أنقذني..." تمتم وهو يمدّ ذراعيه بتثاقل.
إدوارد لم يتكلم، فقط أطلق تنهيدة قصيرة وسار نحوه بخطوات بطيئة، ثم انحنى والتقطه من الأرض كمن يلتقط وسادة صغيرة مرمية على سجادة.
"على الأقل متّ على السرير، لا على البلاط."
وضعه على السرير الضخم المذهّب، لكنه قبل أن ينسحب بجسده من فوقه، أمسك ليونيل بمعطفه.
" لا تذهب... أنا أشعر بالملل. خذني معك إلى الاجتماع السياسي."
إدوارد رفع حاجبه.
"اجتماع سياسي؟ هذا الذي جعل آخر وزير عندنا يستقيل بسببك؟"
"كنت أمازحه فقط."
"وهو ما زال يتلقى علاجًا نفسيًا."
"لم يكن لدي نية أذى... فقط… حسّي الفكاهي لا يُقدَّر، يا أبي."
"وهنا لست في إمبراطوريتنا. نحن ضيوف. لا أملك صلاحية حماية وزراء الآخرين منك، يا مشاكس."
لكن ليونيل لم يتركه، بل زحف مجددًا وتمسك بمعطفه، ثم همس بصوت خافت ومتدلّل:
"أبــي~~~"
إدوارد جمد مكانه.
" لا تستخدم هذا الصوت."
"أبــي~~~ أريد أن أراك تفوز بالكلمات أمامهم. أعدك لن أتكلم. فقط... دعني أجلس هناك. ممل هنا... وفاين نام، (والنظام لا يعطيني حتى مهمة سخيفة.")
إدوارد نظر إليه، مطولًا، ملامحه جادة كقائد جيوش، ثم تنهد مرة أخرى.
" أنت لا تعرف كيف تضعف إرادتي تمامًا كوالد... حسناً، تعال، ولكن كلمة واحدة... وسأحملك إلى الحمام مرتين في اليوم، بيدي."
ليونيل ابتسم بسعادة خفيفة، وقال:
" أنا طفل مطيع اليوم."
ثم تمدد كأنه ينتظر أن يُحمل.
وبالفعل، حمله والده مجددًا، بينما فاين رفع رأسه فقط، ثم عاد لينام كمن اعتاد هذه الفوضى.
خرج الإمبراطور من الجناح وهو يحمل ليونيل، الذي وضع رأسه على كتف والده مغتبطًا، وعيناه تراقبان زخارف السقف في الممرات الملكية.
[قاعة الاجتماعات الإمبراطورية – قصر إمبراطورية أوبيليسك]
سقف القاعة مرتفع ومزخرف بنقوش معقّدة تصور معارك قديمة بين الملوك والتنانين. الجدران من الرخام الداكن تتوهج فيها أنوار سحرية خافتة، وعلى رأس الطاولة الطويلة المُذهّبة جلس عدد من وزراء إمبراطورية أوبيليسك، وكل منهم يملك وجهاً إما صارمًا… أو نائمًا بعين واحدة.
دخل الإمبراطور إدوارد من الباب الرئيسي، بهيبته المعتادة… حاملاً الأمير الرابع كقطّة ثمينة ملفوفة بمعطف مخملي ثقيل.
ليونيل كان يتثاءب، رأسه على كتف والده، كأنه استيقظ لتوه من سبات ألف عام. عيناه نصف مغمضتين، شعره مبعثر كأن عاصفة مرت به وحده.
همسات الوزراء بدأت تدبّ بين الكراسي:
" هل هو... طفل؟"
"أليس هذا الأمير الرابع؟"
"ماذا يفعل هنا؟"
"هل هذا حضانة أم اجتماع عسكري؟"
إدوارد تجاهلهم تمامًا، كما لو أنهم نباتات زينة. وضع ليونيل بهدوء على الكرسي المجاور له، ثم جلس بجانبه، وأخرج ملفات الاجتماع.
الكرسي بدا ضخمًا جدًا على ليونيل، الذي غاص فيه كالقطن، لكنه رفع ذقنه بتعجرف وبدأ يحدق بالوزراء.
اليوت جلس من الجهة الأخرى، يضع كوب الشاي أمامه بهدوء.
ليونيل يفكر بينما يحدق بالوزراء:
( هؤلاء هم… مجموعة الرجال الذين يقاتلون بالأوراق؟ ها… أيهم سأبدأ بإزعاجه؟)
نظر إلى أقرب وزير، كان أصلع الرأس، ينظف نظارته السحرية من حين لآخر.
(أنتَ… تبدو هشًا عاطفيًا.)
ثم إلى الآخر، وزير الدفاع، صاحب لحية كأنها خرجت من فرن الفحم.
(أنت ستصرخ لو تحدثت عن تمويل أقل لجيشك.)
ثم الوزير الثالث، نحيل مثل قصبة، يحمل ريشة يدوّن بها دون توقف.
(وهذا… سيبكي إن سرقت قلمه.)
إدوارد التفت إلى ليونيل، وقال بصوت منخفض:
" كلمة واحدة، وستقضي مساءك مع أدغار مجددًا للعلاج الفيزيائي."
ليونيل بتمتمة: " أنت تعرف كيف تفسد عليّ المتعة، يا أبي."
بدأ الاجتماع، بصوت الإمبراطور داريوس، الذي بدا وكأنه قضى ليلته وهو يكتب خطبة افتتاحية.
" باسم العلاقات بين إمبراطورية أوبيليسك وإمبراطورية تيرفال، نبدأ هذه الجلسة بمناقشة النقاط التالية: التجارة عبر الحدود الشمالية، التعاون السحري في المراكز الأكاديمية، واتفاقية الدفاع المشترك…"
ليونيل يفكر، وهو يراقب شفتَي داريوس تتحركان ببطء: ( كم كلمة يحتاج ليقول "مرحبًا"؟)
الاجتماع يستمر.
النقاشات تتوالى.
ليونيل يتثاءب مرة… مرتين… ثم يضع رأسه على الطاولة.
اليوت ينكزه دون أن ينظر إليه.
"ارفع رأسك، هذا اجتماع رسمي."
ليونيل (مهمسًا): " أنت فقط تغار لأنني جذبت كل الأنظار."
اليوت يحافظ على ابتسامته: "لو أعدت التثاؤب بصوت، سأجعل ديمتري يرافقك أسبوعًا كاملًا."
ليونيل فورًا جلس معتدلًا.
في أثناء النقاش، حاول أحد الوزراء إثبات نقطة حول معاهدة السحر، واستشهد بإحصائيات معقدة من الأكاديمية الملكية.
ليونيل يرفع إصبعه: "آسف، هل هذه الأرقام تشمل الـ13,000 سحر من نوع الرياح التي دمرت جناح أكاديميتكم قبل سنة؟ فقط أسأل."
الوزير تجمد.
داريوس رفع حاجبه.
إدوارد ضغط على جبهته بإصبعيه.
اليوت أخرج الحلوى من جيبه ورماها على الطاولة أمام ليونيل كنوع من الرشوة الهادئة.
"كلْ واسكت."
ليونيل أخرج قطعة الحلوى ووضعها بفمه، لكن عينيه بقيتا تراقبان الاجتماع كقط يستعد للانقضاض على أرنب سياسي.
وفي الزاوية... وزير شاب يبتلع ريقه، ثم يهمس لزميله:
" إنه ينظر إليّ وكأنه يعرف أنني لم أقرأ الوثيقة الأخيرة!"
" ربما فعل، سمعت أنه عبقري، رغم أنه لا يستطيع المشي أكثر من عشر خطوات دون أن ينهار."
ليونيل يفكر بفخر وهو يلوك الحلوى: (نعم... أنا مزعج، ولكن بطريقتي الملكية.)
---
بين المداولات، والنقاشات، وشرود ليونيل إلى وصف شعر وزير الدفاع كـ"مكنسة محترقة "، انتهى نصف الاجتماع، وإدوارد نهض بصمت.
" نأخذ استراحة عشرين دقيقة."
حمل ليونيل كالعادة، دون سؤال، ووضعه خارج القاعة في الممر الجانبي.
" الآن ترتاح، ولا تعود حتى تتوقف عن تحليل تسريحات وزرائهم."
ليونيل بابتسامة: "لكني كنت أساهم! جعلتهم يتكلمون بسرعة أكبر كي يتهربوا من نظراتي."
إدوارد لم يرد، فقط أكمل طريقه تاركًا ليونيل مع فاين، الذي كان ينتظر خلف العمود، وعيناه تقولان:
(أزعجتهم؟ أحسنت.)
" فاين " نظر إليه بتعبير فارغ كعادته، لكن ليونيل ابتسم بخفة، كأنه اعتاد وجود هذا المرافق الصامت الذي لا يحكم عليه، فقط يراقبه وهو يفسد كل ما حوله بابتسامة مطمئنة.
إدوارد كان قد خرج بعد دقائق من بدء الاستراحة، يسحب ابنه من كرسيه كالعادة، بنية إعادته إلى الجناح كما يفعل كل مرة يُشعل فيها ليونيل القاعة بتعليقاته الجارحة.
" قلت لك لا تفتح فمك. نحن لسنا في قصرنا، ليونيل."
صوت الإمبراطور كان حازمًا، لكن ليونيل لم يبدُ عليه التأثر. فقط رفع عينيه نحو والده بتلك النظرة التي يستخدمها الجراء الصغيرة حين تُترك خارج المنزل في الشتاء. نظرة تجمع بين البراءة، والخداع الفني، والاتهام المباشر بالخذلان.
إدوارد تنهد. تقدم خطوتين قبل أن يرفع يده ويغطي بها عيني ليونيل، كما لو أنه بذلك يحمي نفسه من تلك النظرة. حمله بين ذراعيه مجددًا دون كلمة إضافية.
" أنا لا أستطيع المشي. أنت تعرف ذلك... جسدي مريض... وقلبي مجروح..." همهم ليونيل بصوت منخفض وهو يدفن وجهه في صدر والده، وكأنه يحاول الهرب من العالم بلمسة قماش المعطف الملكي.
إدوارد لم يرد عليه، لكن خطواته تباطأت قليلاً، وكأن شيئًا داخله يقول له: هذا الصغير… يعرف من أين تُؤكل القلوب.
"أنا فقط... أردت تغيير الجو قليلاً، لا أريد الجلوس مع الجدران مجددًا..." تمتم ليونيل بصوت خافت، فيه شيء من الحزن، أو ربما التمثيل المتقن.
توقف إدوارد. نظر إلى ابنه بين ذراعيه، لبرهة قصيرة بدت وكأنها أطول من كل الاجتماعات السياسية مجتمعة. تنهد مرة أخيرة.
" أنت تعرف أنك طفل خطير جداً على مراكز اتخاذ القرار."
لكن رغم ذلك، عاد أدراجه. خطواته ثابتة، وصوته صار صامتًا. حمل ليونيل معه إلى قاعة الاجتماع، وسط نظرات الوزراء المتوترة، التي تحولت إلى شيء أقرب إلى الرعب المحترم، عندما رأوا الأمير الرابع يعود للكرسي، مبتسمًا في زاوية فمه، كما لو أنه فاز في معركة لم تبدأ بعد.
جلس ليونيل في مكانه. فاين استلقى تحت الطاولة، وكأن المهمة قد عادت من جديد.
داريوس، إمبراطور أوبيليسك، أعاد فتح الأوراق، وقال بنبرة جدية:
" نواجه مشكلة حقيقية في حركة التجارة من الممر الجبلي الشرقي، التلج المتراكم يمنع القوافل من المرور، والحلول اللوجستية مكلفة جداً."
بدأ الوزراء يتداولون الاقتراحات، وأصواتهم تتعالى وتتشابك كأنهم في مزاد.
ليونيل، الذي كان يُحدق في فنجان الشاي الذي أمامه، فتح فمه بصوت هادئ:
"يمكن فتح ممر مؤقت عبر الغابة السوداء، واستخدام سحر حراري تحت الأرض لتقوية المسار، وسيكون أقل تكلفة من تجهيز حرس خاص للقوافل، كما أنه لا يلفت انتباه التجار الآخرين."
ساد الصمت في القاعة.
حتى الأوراق توقفت عن الحركة.
الوزير الذي كان يتحدث تجمد، ونظر إلى ليونيل، الذي بدا وكأنه فقط يتحدث إلى نفسه.
أدرك ليونيل أنه تفوّه بالفكرة بصوت عالٍ، فتوقف، أغلق فمه بسرعة، وانكمش في كرسيه.
إدوارد نظر إليه بنظرة جانبية، لم يقل شيئًا، لكن زاوية فمه ارتفعت قليلًا.
أحد الوزراء همس للآخر:
" هل هذا الصغير… يعرف عن التجارة أكثر مني؟"
الثاني هز رأسه ببطء.
" لا تفكر، فقط لا تلتقِ بعينيه."
ليونيل اكتفى بأن صمت، لكنه داخليًا كان يقول لنفسه:
( المرة القادمة سأقترح رفع الضرائب فقط لأراهم يتعرقون).