تدرك ارتيزيا فظاعة أفعالها الشريرة، فلم ترد يوما بأن تعرف كشخص صالح أو أن تُسامح، ولكن في لحظة واحدة فقط، سألت القديسة ليسيا.

[ألست حانقة عليّ؟]

لقد كان سؤالًا طرحته معتقده أن ليسيا تستاء منها وطبيعة الحال، لكن، ابتسمت الأخيرة بشكل مشرق رغم وجهها الهزيل، وقالت:

[هل ستشعرين بتحسن إذا استاءت منك؟ هل سيجعلك تشعرين بذنب أقل؟]

لم تحاول الإجابة، وأضافت ليسيا، بشفاهها البيضاء جفت منها الدماء

[ ماذا يمكنني أن أفعل؟ لقد سامحتك بالفعل..]

كانت ليسيا قديسة، وقد هددتها وأجبرتها على الزواج من لورانس، لأن نفوذ القديس ورمزيته كانا ضروريين للتعويض عن افتقاره للشرعية.

وقد ابتهجت الأمة بأسرها لدى سماع خبر أن القديسة ستصبح ولية العهد، واثناء حفل التنصيب، تراكمت الزهور التي قدمها المواطنون للإمبراطورة الجديدة حول جدران القصر كالجبال.

وغطتها الإمبراطورية بالذهب والفراء ونُشر الحرير تحت قدميها، كانت إمرأة ولدت في بيت فقير على الحدود الشمالية أضحت شخصًا قادرًا على امتلاك كل رفاهيات العالم.

رغم هذا كانت بائسة مقارنة بالوقت الذي حضرت فيه الأحداث الاجتماعية ولا ترتدي سوى جوهرة واحدة، أكثر سوءا مما بدت عليه عندما حجت إلى المناطق الموبوءة بالأمراض المعدية، مرتدية ملابس بالية لا تردع حتي الرياح الصقيعية.

صار شعرها الأشقر الذهبي الجميل اللامع جافاً احمرا نحاسيا صدئا، وباتت بشرتها الفاتحة والحيوية باهته غائمة، وشفتاها الحمراء إستحالت بيضاء وسميكة شاحبة ومتشققة.

لطالما كان لورانس شخصًا سادي الميول. بالإضافة إلى حساسًيته بسبب عقدة الشرعية. و الجمع بين الاثنين جعله يشعر بالدونية ويكره الإمبراطورة المشهورة.

وقد حاولت حماية ليسيا من لورانس، فقد جررتها إلى هذا الجحيم، على الأقل قررت حمايتها. بل وأقسمت على روحها بذلك، لكن كانت قادرة فقط على منعه الاعتداء أمام عينيها في الأماكن العامة، وذلك في أحسن الأحوال، لكنها لم تستطع إيقاف ما كان يحدث وراء الجدران المغلقة، غرفة النوم...

وقد ذبلت ليسيا، من سوء المعاملة في سجن مزدان بقطع ذهبية.

كانت قدرتها العلاجية المقدسة قوية بما يكفي لإنقاذ المحتضر من الموت لو عزمت. لكنها عديمة الفائدة أمام مرضها. ورغم هذا ، ابتسمت لأرتيزيا، ونظرت إليها بحنان.

[تيا ، أنا أقوى بكثير مما تعتقدين.]

[جلالتك ...]

[على الرغم من كل ما فعلته بي أو ما دعاك للقيام بذلك؛ ففي النهاية كنت أنا من قررت الزواج بـ صاحب جلالة. لذلك ليس من مسؤوليتك أنني هنا ، لكن مسؤوليتي]

وأضافت بهدوء:

[أعلم كم كان من الصعب عليكِ البقاء على قيد الحياة حتى الآن. لكن هذا لا يبرر إيذائك الآخرين ... ولكن قررت أن أسامحكِ.]

مع ابتسامة مريرة اضافت:

[ كي تتمكنِ من رفع وزني على الأقل عن الحمل الثقيل الذي تحمليه فوق كتفيك، يا تيا. 」

كانت ليسيا تحتضر. ومع ذلك، بدا وكأنها من كانت تريحها، رفعت يدها ولمس خدها المتوتر.

[شكرا لقدومك لزيارتي. أنت الوحيدة التي تهتم بي في هذا القصر ، باستثناء الوصيفات.]

فردت قائلة:

[هذا ليس صحيحا، هناك عدد لا يحصى من المواطنين خارج القصر يصلون على ركبهم، لأجلك في هذه اللحظة]

} هؤلاء الناس يعرفون فقط القديسة، الإمبراطورة ، وليس أنا.]

ثم سألت بتردد.

[تيا ، هل يمكنك أن تمسكِ يدي؟]

[نعم…

[اعتقدت أنني سأشعر بالرعب عندما يحين أجلي. لكنني أفضل مما كنت أعتقد. هل هذا لأنني سأكون في السماء أُحتضن؟ 」

[قريبا ستتمكنين من النهوض.]

على الرغم من علمها أن ذلك لن يحدث ، لم تستطع قول غير ما تفوهت به.

فقالت ليسيا بابتسامة منهكة

[هل لك أن تسدي لي خدمه؟]

[حتى لو طلبت مني أن أحضر لك قلب تنينٍ جليدي ، فعلى الرحب!]

[لا، على الرغم من،... أنني لا آمل ان يحدث هذا أيضًا، إذا كان عليك مقابلة سيدريك ...]

[نعم...

[أخبريه أن ليسيا عاشت وماتت دون ندم.]

[سأفعل ذلك]

بعد أن وعدتها، أمسكت ليسيا بيدها بقوة، وقالت

[أنا آسفة. لم أستطع إنقاذكِ ...]

فردت مترددة

؛[اتقصيدينني؟ ... أنا ؟ ...]

[ إذا كان هناك عالم آخر نعيش فيه مرة أخرى ، أود منك فقط مناداتي بليسيا.]

تلك كانت كلماتها الأخيرة.

استيقظت على أصوات جلجلة، أصوات خطوات أقدام، أحدهم ينزل على الدرج الحجري.

سمعتها بوضوح، لكن لم تستطع أن تعرف إذا كانت امتداد لحلمها، كانت تفكر في ليسيا منذ برهة

"ما هي المدة التي مرت منذ حُبستُ في هذه الزنزانة؟"

لم تكن هناك أي نوافذ جانبية. لذلك لم تستطع حتى رؤية شروق الشمس أو غروبها. ثم ضاع الوقت.

كان السجان يحضر لها طعامها مرة واحدة في اليوم، ومع مرور الايام، تباعدت الفترة، وصار من الصعب تحديد الوقت.

في البداية، كانت نصف فاقدة للوعي بسبب الجروح الناجمة عن التعذيب. الآن ، توقف النزيف والتئمت الجروح، لكن ظل الألم رهيبًا. وكانت قدرتها تستنهك بإستمرار، بسبب السلاسل التي كانت تشد ذراعيها طوال الوقت.

كانت اكتفاها على وشك التمزق ، وكان الجزء السفلي من جسدها الملطخ بالدماء مغطى بالكدمات.

البرودة تتخلل عظامها، لم تعرف أبسبب برودة السجن أم لأن دمها لم يعد يسير بشكل سليم في جسدها.

وردت كلمات ممن اقتحم الزنزانة:

"تستحقين. أيتها العاهرة الشريرة "... "كل قبيح..."

بدلاً من بذل جهد لإخراج صوت للرد، ظلت صامتة

هناك أكثر من شخص في العالم يريد أن يرى ميتتها ميتةً شنيعةٌ. ومن بينهم ، ستكون فينيا، التي اقتحمت زنزانتها، قادرة على بيع روحها للشيطان لو استطاعت الانضمام للصف الأمامي لأؤلئك الحشود.

عملت فينيا كخادمة عند ليسيا، بينما كانت أرتيزيا من دمرت القرية التي تعيش فيها عائلتها وشردتها، حينما نشرت الوباء في تلك المنطقة.

وبالمقابل كانت ليسيا هي التي أنقذتها عندما شارفت على الموت. منذ ذلك الحين كرست حياتها لخدمة ليسيا.

مات جميع أحباءها بسبب أرتيزيا، ومن الطبيعي أن تكرهها كثيرا

عندما رأتها حدقت فيها صامت، صرت على أسنانها وبصقت عليها.

"نعم، أعلم أنه ليس لديك لسان. والآن لا يمكنك أن تنشري كلماتك المسمومة ".

وأضافت ساخرة

"كيفما انظر إليك الآن، لا أظن أن أحدا قادر على تخيل أنك كنت ذات يوم المتآمر العظيم

المخططة العبقرية

التي رفعت الإمبراطور الحالي."

شرعت تضربها بكل قوتها.

"إنه لأمر مؤسف أنهم قطعوا جميع أطرافك ولسانك، ليس لدي ما أقطعه."

واصلت الضرب، قائلة:

"ايتها حثالة، هل أعتقدت أنني قد أنظر إليك بعيون مشفقة؟ "

أغمضت أرتيزيا عينيها بألم. فينيا على حق. هي لم تكن تستحق الشفقة، ولو باتت مقطعة الاواصل.

دائمًا ما كانت خادمة وفية لليسيا. ولكن بعد وفاتها، امتدحت الإمبراطورة الجديدة وتحملت كل أنواع الذل والمهانة من أجل البقاء داخل القصر الإمبراطوري، بهدف وحيد هو الانتقام من منها ولورانس ذات يوم.

وإستمرت في صفعها وضربها عدة مرات اخريات،ولم يتبق سوي عدد قليل من الأسنان فمها. فتدفقت الدماء بسبب الجروح الجديدة.

سحبت فينيا منديلها ومسحت الدم عن يدها. ثم قامت بفك السلاسل الحديدية عن جسدها

'لماذا تفعل هذا…؟` ظنت أن هذا غريبٌ.

فقالت فينيا تكظم غيظا:

"هذه أوامر السيد سيدريك، على الرغم من أنني لن أكون راضية حتى لو مزقتك إلى أشلاء ألف مرة. لكن ربما هو يريد أن يعدمك بيديه انتقاما لمن قتلت من أعوانه ".

وهذا غير وارد بالمرة، فقد عرفت الأرشيدوق، سيدريك إيفرون، أكثر من فينيا.

لقد كان رجلاً نزيها وعادلاً، وبغض النظر عن الأسباب الكثيرة، لن يتمادى إلى حد القضاء على امرأة سقطت بالفعل، ولا سيم انها تعرضت للتعذيب العنيف.

علاوةً إذا قامت فينيا بتهريبها، فلن تتمكن من العودة كجاسوس. لم يكن القصر الإمبراطورية مرعى، ليس مكانًا بسيطًا.

سرعان ما سيكتشف من نزلت بالمفتاح وهرب السجينة بعيدًا.

كانت تابعة وجاسوسة تعمل لدي سيدريك الذي خدم الإمبراطورة الراحلة، من المستحيل أن يضيع قطعة شطرنج مهمة كهذه. ليس عليها على الأقل.

ربما أعطى سيدريك هذا الأمر بغرض آخر. وطبعا، ليس لأنه أراد إعدام "متآمرة" بلا لسان علنًا، ولكن ربما لأنه أراد إنقاذ الخادمة تحبها محبوبته ليسيا.

لم تكن فينيا مستعدة لمغادرة المكان طواعية بدون عذر، ويبدو ان لم تعلم بعد نواياه الحقيقية.

بعد أن اكملت تحرير قيودها، خلعت عباءتها وغطتها، إستطاعت حمل جسدها الواهن بمفردها، وذلك بسبب شهور من التعذيب وفقدان أطراف والإهمال، صار جسدها نحيفا وخفيفا، فتمكنت فينيا من رفعه وتحريك وبسهولة.

تسللت داخل القصر الإمبراطوري داخل عربة غسيل، ثم نُقلت إلى عربة خشبية، ثم أُخرجت من العاصمة، تسبب الاهتزاز المستمر في ارتفاع الحمى في جسدها الضعيف، وفي منتصف الطريق، أصبح وعيها غائمًا مرة أخرى.

أدركت أنها هُربت، لكنها لم تكن تعرف الكيفية، وعندما استعادت وعيها مجددا، كانت في خيمة. كانت أطرافها المقطوعة ملفوفة بضمادة نظيفة.

بدا وجه الرجل العجوز الذي كان يعتني بها مألوفًا. كان كبير الخدم الارشدوق إفرون.

"لقد استيقظتِ."

على الرغم من كونها العدو، خاطبها الخادم بأدب.

"من الأفضل أن تأكلي شيئًا ما ، إذا ما استطعت."

فتراجعت وهزت رأسها.

"لا داع للقلق، قال الطبيب أيضًا أنك ربما لا تستطيعين تناول الطعام بسبب حالتك، وسأعد لك بعض الشاي القوي ".

ثم نهض الخادم وغادر الخيمة.

أدارت رأسها ونظرت حولها، لم يكن هناك شيء مميز في الخيمة. لم يكن هناك سوى قدر من الماء المغلي، والسرير الذي كانت ترقد فيه ، ومصباح زيت.

لم يعد الخادم بمفرده، فقد أزاح قماش مدخل الخيمة سيدريك إفرون من بعده.

فنظرت إليه مندهشة، لم تره منذ سنوات ، لكنه لم يتغير كثيرا، إنما إدادت عيناه السوداوان عمقا أكثر من ذي قبل.

"لقد مر وقت طويل منذ آخر مرة رأينا فيها بعضنا البعض، ماركيزة روزان."

خاطبها، وعلي الرغم من معرفته عدم قدرتها على الرد

"سمعت أنهم قطعوا لسانكِ."

وأضاف:

"يبدو أن الشخص الذي كان ذات يوم أعظم المتآمرين في الإمبراطورية بأكملها غير قادرة على إنقاذ جسدها كاملا، أليس كذلك؟"

فأغمضت عينيها بألم.

أعربت عن أسفها على حماقتها لارتكابها كل تلك الجرائم من أجل لورانس، رغم علمها إنها ستتعرض للخيانة في نهاية المطاف.

لكنها لم تشعر بالذنب، كل البشر في العالم أشرار، وخصوصا أؤلئك الذين يتصارعون من أجل السلطة، هذا إيمانها الراسخ.

لكن لم تكن قادرة على قول ذلك أمام شخصين في هذا العالم، هما الرجل أمامها والقديسة ليسيا.

معذرة ع التأخير انشغلت، وهذا موقع اخر للتواصل،

2022/07/26 · 537 مشاهدة · 1495 كلمة
نادي الروايات - 2025