لقد دمرت أرتيزيا ذات مرة أحد سدود نهر آفا للاطاحة بسيدريك أثناء معركة الخلافة.

في ذلك الوقت، قد كان انتهى من السيطرة على الحدود الغربية للإمبراطورية بأمر من الإمبراطور جريجور.

وقد أبلغه الإمبراطور من خلال مبعوث بأن يقوم بتسليم القيادة للقائد العام والإسراع بالعودة إلى العاصمة وحده.

عندئذ دمرت السد، فبدأ النهر بالفيضان، وجرف عددا من المدن والقرى المحيطة، لقد قُدِّر عدد الأشخاص المتأثرين بشكل مباشر بحوالي ثلاثين ألف شخص على الأكثر، كما تضررت حقول الزراعية، وبما أن حصاد كان وفيرا تلك السنة، فلم تتعرض البلاد بأكملها لخطر المجاعة.

مهما كان ما تخطط له، فقد كان لا يخفى عليه كذلك.

في تلك الحالة، كان الخيار الأكثر فائدة هو اتباع الأوامر والعودة إلى العاصمة، إلا إنه لم يفعل ذلك، واختار استخدام الجيش لتقليل أضرار الفيضانات، واصل عمله كقائد أعلى للجيش، مما أثار إرتياب الإمبراطور.

لقد أقدمت على فعل ذلك، لأنها تعلم أي نوع من الناس عدوها، لأنه هكذا دائما، مثلما حدث عندما اكتشفت أمر تلك القرية المخفية أقصى شمال إقليم دوقية إفرون الكبرى وكيف اتهمتها بالخيانة، وأيضا حينما وضعت خطة للتخلص من الأرشدوق رويجار، وحتى عندما انتشر الوباء، وعلى الرغم من معرفته انها افعالها جميعا، وعلى الرغم من معرفته ما قد يحصل له، إلا إنه دائما ما كان يختار حماية الناس، وقد كلفته إخياراته منصبه في النهاية وأضحي هاربا هائما على وجهه.

تحدث الخادم بأدب، فانتشلها من أفكارها:

"تفضل الشاي"

وناوله كأسًا حديديًا، ثم جلس بجانبها وامال الفنجان في فمها، كان الشاي غنيا بالسكر والحليب.

بينما جلس سيدريك أمامها، وشرب الشاي كانه وقته، ونظرت إليه بهدوء، وفكرت في إرادة ليسيا.

[إذا ما قابلتِ سيدريك يوما ما، أخبريه أن ليسيا قد عاشت حياتها دون ندم.]

لعلها في صميم قلبها لم تكن ترغب في أن يلتقي هذان الاثنان مرة أخرى، لأن هذا يعني أن شوكته قد كسرت أخيرًا وجُر إلى العاصمة مهزوما ذليلا.

لكن الوضع الآن هو عكس ما كانت تخشاه وقتها بالضبط، وما يزال سيدريك وقواته صامدين على قيد الحياة حتى بعد مرور كل تلك السنوات، بينما كانت أرتيزيا هي التي سقطت، ومن ثمة أقتيدت إلى معسكره، وقابلته وجها لوجه، لعلها الظروف المثلى لنقل الرسالة إلا أنها لم تستطع الوفاء بالوعد، إذ لم تكن قادرة على الكلام.

نهض من مقعده بعد أنتهاء الخادم من صب الشاي في فمها، وقال:

"فلنخرج"

استفاقت من أفكارها، ونظرت إليه وقد نشهت الشكوك عقلها، دنى منها ورفعها بكل عناية، لكنها قاومت للانفلات من قبضته وعلى غرار فينيا، فقد كانت مرتبكة هذه المرة، لكنها لم تستطع مجابهة ذراعيه القويتين، فحملها وغادر الخيمة.

إندفع نحوهما الفرسان في زيهم الرسمي القذر بسبب التشرد والهوام، قائلين:

"صاحب السمو.."

"سيادة الارشدوق"

" إلى أين تأخذ معك هذه المرأة اللعينة؟"

"ما زال هناك عمل غير مكتمل معها."

"سوف ننقلها من أجلك! ."

َومد الفرسان أيديهم، فاستدار حتى يتجنبهم:

"لا تتحدثوا عن الناس كأنهم أشياء."

"ماذا تقول يا سيادتك؟ ألست لطيف للغاية مع هذه الشيطانة؟".

"لا تبرحو أماكنكم، فأنا ذاهب لوحدي. "

فغمغم الفرسان مندهشين

"هذا مستحيل."

" لن تستطيع الماركيزة روزان أن تؤذيني في حالتها هذه."

"لا نستطيع الجزم بذلك، فتلك الساحرة قادرة على إحداث كوارث بلسانها وحده".

فرد عليهم وهو ينقر على اسنانه

"لسوء الحظ، لم تعد تملك لسانا أيضًا."

ومضي بخطوات واسعة عابرًا المخيم، ورفعها على حصانه ثم ركب خلفها، كانت هذه الطريقة الاسهل لنقلها، ما دامت مقطوعة الأطراف ولا يمكنها الركوب في الخلف.

إرتعدت فرائصها وتزعزعت، لم يسبق لها أن صارت بهذا القرب من رجل مطلقا، تسربت حرارة جسده إلى ظهرها وأدفئت جسدها.

وأنطلق بجواده خارج المخيم، ساعتها كانت تمطر مطرا خفيفا، وعندما رأت الجبال والجداول أدركت أن هذه هي منطقة باكوير التي تنتمي إلى مقاطعة الارشدوق رويجار.

تعد هذه المنطقة سلة غذاء الشرق الامبراطوري، قد لا تقارن مع سهول الغرب الخصبة والشاسعة ولكن المناخ المعتدل والمياه وافرة، وقد سمح بزراعة كل انواع الحبوب والفاكهة، وكما انها قد اشتهرت بإنتاج أفخر أنواع النبيذ بالامبراطورية.

لكن لم يتبق اي أثر من ذلك الآن، صارت الوديان المتفحمة تتصاعد منها الابخرة.

بينما كان يتجول رأت أطلال المنازل المدمرة، كانت الجثث مبعثرة على مد البصر، كان أكثرهم من الرجال، وقد دمرت المدينة ذاتها، ظلت بقايا الجدران منتصبة بين الانقاض، واحتمي الناجون جاثمين خلفها، كانوا ينظرون نحوهما بأعين متسعة يملأها الذعر والقهر.

حدقت وهي مذهولة في ذلك المشهد أمامها، ولم يسعها ان تفهم ما حدث، فماذا جرى بينما كانت سجينة، لا ينبغي أن تطال الحرب هذا المكان!

وأجاب على دهشتها عرضيا:

" قد حدث هذا بسبب اكتشاف أن أحد مواطني باكوير قد خطط لمحاولة اغتيال لورانس مع الأرشدوق رويغار قبل أثنا عشر عامًا."

حبست أنفاسها وتسارعت ضربات قلبها، فحسب تقديرها، كانت هذة مجزرة غير ضرورية بالمرة، لقد صار لورانس الامبراطور بالفعل، والجيش الامبراطوري كله تحت تصرفه، وقد كانت سلطة العائلة الحاكمة أقوى من أي وقت مضى، لقد جعلت بنفسها كل ذلك ممكنا!

كانت وظيفتها القيام بكل الأعمال القذرة، بينما كان على شقيقها الحفاظ على نظافة يديه، كانت مسؤولة عن تلك الأمور، لأنها المهمة التي فرضت والدتها عليها القيام بها، وقد أدتها على أكمل وجه.

والآن، فقد كان بإمكان لورانس أن يصبح الإمبراطور المثالي، حتى بدون وجودها إلى جانبه.

"أتجدين كل ذلك صادما للغاية؟ ألم تعتادي على العمل بهذه الطريقة الوحشية، أيتها ماركيزة روزان؟"

وأضاف بهدوء:

"أعلم أنك تحكمين الأمور على كونها ضرورية وغير ضرورية عندما تنفذين مخططاتكِ، ربما يكون هذا الدمار شيئا ضروريا للورانس؟"

نظر نحوها نظره عميقة وتابع:

"أم أنكِ تعتقدين أن حكمك مطلق بينما حكمه ليس كذلك؟ "

عندئذ فقدت الكلمات فقد أصاب كبد الحقيقة.

" لو كان ذلك صحيحا فلا عجب أنكِ قد طردتِ"

اختتم كلماته بذلك، وأدار حصانه عائدا ادراجه.

في وقت لاحق، قسم سيدريك قواته إلى سرايا صغيرة وبدأ ينتقل من مكان إلى آخر على نحو منفصل، وقد حملت ارتيزيا على حصان كبير الخدم.

رأت أن هناك الكثير من المناطق التي عانت من ذات المصير المأساوي، ولم يلتفت أحد لاجتاح الجراد الحقول الزراعة عقب انقضاء الحروب الأهلية، ولا حتى إعادة ترميم السدود، بل ولم تعد هناك أية مخازن للحبوب.

كانت الطرق تفيض بالمتشردين وتجتاحها الأمراض المعدية، وقد كانت الجثث متبعثرة هنا وهناك في كل مكان لا تحرق ولا تُجمع.

لم تكن سياسة الإمبراطورية كارثية خلال العام المنصرم أو الأعوام الماضية وحسب، بل منذ عهد الامبراطور السابق، فقد كان رجلا نرجسيا وأنانيا للغاية، قد وضع سلطته فوق حياة شعبه.

بالإضافة، فقد انتهى صراع خلافة العرش بتدمير البلاد، وقد أخذت نصيب الأسد في ذلك، لطالما ظنت أن شقيقها سوف يتمكن من إعادة بناء الإمبراطورية بعد تتويجه، وأن التعمير يجب أن ينتظر إلى ذلك الحين.

وانبثق الأمل عندما أصبحت ليسيا الامبراطورة، وحتى بعد وفاتها، فقد كان هناك كفاح من طرفها لأجل تغيير الوضع طوال فترة وقوفها إلى جانب لورانس.

ولكن مما يبدو عليه الوضع الراهن أن العائلة الحاكمة قد تخلت عن كل شيء.

لقد فهمت تماما ما أراد أخبارها به، لقد أراد جعلها تشاهد بأم عينيها عواقب افعالها بدلا عن إدانتها وحسب.

وفي اليوم الذي حطوا رحالهم في قرية المتمردين، التي تقع على الجانب الآخر من حصن الشمال، جاء يبلغها الاخبار:

" ميرايلا قد ماتت"

كانت منهكة للغاية، ولم تكد تتفاجئ حتى بعد سماعها هذا الخبر، فتابع:

" لقد سمعت انها ما زالت تعاتب لورانس بسبب قضايا النساء"

كما هو متوقع منها، فهي لا تهتم إلا بنفسها فكيف قد تعطي لورانس نصيحة من أجل رفاهية الإمبراطورية؟

وبعد ذلك أخذها في جولة أخرى حوالي القرية، ولم يتبق من الاطلال غير القبور والاف الظلال خلف شواهد وفوقها الصلبان الخشبية.

هذه القرية لم تكن متمردة في حقيقة الأمر، إنما كانت المكان الذي فر إليه الناس عندما قتل الامبراطور جريجور والدي سيدريك بتهمة الخيانة

وقد ظهرت الحقيقة في وقت لاحق، وعمت كل بقاع الإمبراطورية، وكذلك ألغيت قائمة المطلوبين من الهاربين.

ومع ذلك، فضل السكان عدم مغادرة القرية، والبقاء حيث كانوا يثقون ويدعمون بعضهم البعض، كان مسقط رأس ليسيا هذه القرية، وكما وجد سيدريك الذي لا يملك أقارب آخرين الراحة والسلوان بين القرويين.

كانت تعلم كل ذلك، فقامت وقتذاك بتلفيق تهم كاذبة فأندثرت عن بكرة أبيها.

ولكنها علمت للتو عن بناء هذه المقبرة، وفكرت بينها وبين نفسها

هل حفر سيدريك كل هذه القبور بنفسه؟

هل أحضرني إلى هنا بهدف جعلني أعيد النظر في افعالي وأندم؟

وبعد البقاء ساعات طوال علي الهضبة التي تطل على المقبرة، أعادها إلى المعسكر اخيرا، ثم أفصح:

"لا أحسبك قد تخيلت يوما أن ينتهي المطاف بلورانس على هذا النحو، أيتها الماركيزة روزان"

وأضاف:

"لقد كنت أعلم انه شرير وفاسد حتى النخاع، ولكن كنت مقتنعا لو دخلت صراع العرش فإن الخسارة أشد وطأةً من الموت ذاته!"

لكن ما آثار حفيظتها في تلك اللحظة كانت مسألة مختلفة...

لماذا لم يسأل عن ليسيا؟ لم لم يسألها؛ كيف ماتت القديسة؟ أليست المرأة التي أراد حمايتها مهما كان الثمن؟

لابد أنه علم كيف يعامل لورانس النساء، على الأرجح بعد مقتل ميرايلا بسبب حقوقهن.

إليس من المنطقي أن يلومها على أخذ ليسيا منه وإجبارها بالزواج من لروانس؟ إلا أنه لم يفعل.

كان وجهه جامدا كتمثال منتصب في إحدى الساحات.

"لكن لم أتوقع أن أرى كل هذا الطغيان، لماذا يفعل ذلك بحق الجحيم؟ بعد أن أصبحت إمبراطورية كراتيس بين يديه، أليس لديه الرغبة في حماية شعبه، وجعل هذا المكان عظيما؟"

لم تكن قادرة على الإجابة، واخفض رأسها فقط، وكانت نفسها تتسائل، لماذا اضحى شقيقها هكذا؟ لم تعد تفهم سلوكه منذ وفاة زوجته.

" ضعِي خطة"

ورفعت عينيها مدوهشة من كلماته الأخيرة.

اخر الاخبار على حسابي على حسابي علي تويتر تحت

https://mobile.twitter.com/Laprava1

2022/08/22 · 109 مشاهدة · 1460 كلمة
نادي الروايات - 2025