"لا بد من إسقاط لورانس بأي وسيلة، ولكن الفجوة بين القوى واسعة للغاية، أنا ورجالي لا نعرف سوى الشؤون العسكرية، ولا نملك فكرة حول كيفية تضييقها"
رمشت بغير تصديق اثناء تحدقها به، وجهه الذي ظنته كالتمثال أضحى متوهجا كالشمس في لحظة،وعلى الرغم من انه لم يرفع صوته بعد، ولكن كان كأنه يصيح.
" أعلم أنكِ إمراة غاية في الذكاء"
"... "
" لا أحسبك لا تمتلكين البصيرة لاتخاذ الخيار الصحيح، ولكن أظن أن عاطفتك تجاه عائلتك قد أعمتك، وعلى الرغم من أنك قد اقدمت علي العديد من المخططات الرهيبة، إلا أني أعلم أن ذلك من أجل لورانس"
أضاف
" إنك الشخص الوحيد القادر على قلب الموازين، ايتها الماركيزة روزان، أحتاج مساعدتكِ. "
ثم أحني رأسه، بل جثي على الأرض حتى لامست جبهته التراب، وكأنه لا يحسب أن الانحناء وحده كافٍ لاقناعها.
فذُهلت، واهتزت من الداخل، ما كان بإمكانها الجلوس بإسقامة وعندما ارتجفت أطرافها أوشكت على السقوط لولا أن الخادم قد اسرع وساندها.
رفع سيدريك رأسه و حدق بها وبؤبؤي عينيه يبرقان كالفحم المحترق:
" والآن بعدما ماتت العاطفة التي تكنينها نحو عائلتك، ألم تشعري بالندم على سقوط الإمبراطورية في الخراب عندما رأيتها بأم عينيك؟"
نظرت إليه في صمت عاجزة عن النطق، واضاف:
"أعلم أنك مجرد مخططة، لستِ شيطانًا، فأنت لستِ كلورانس، ألم تفكري أن تفعلي الخير يوما بالقدرة التي تملكينها؟"
لطالما اعتقدت أنها لا تملك أي حق للندم.
إن الناس على حق، لو أن هناك ساحرة قد أبرمت ميثاقًا مع الشيطان، فلا شك ستكون هي ولا أحد غيرها.
ولو فرضت جدلا أنها قد غيرت من نفسها، ما عادت تمتلك لسانا حتى تتكلم، ولا أصابع حتى تكتب، ولا يمكنها كذلك التفكير بجسدها المنهك والموجوع.
" ما زلتِ ذات عقل لامع، ماركيزة روزان، تستطيعين الكتابة بفمك، أو بمساعدة شخص آخر، لا شيء مستحيل ما دمت على قيد الحياة، يمكنك تحقيق أي شيء طالما تملكين الارادة والعزم، أنا أحتاج إليك"
حدقت نحوه برهة في صمت، وباتت رؤيتها ضبابية.
كان موقفا هزليا بالمرة؛ لم تسمع هذه الكلمات تغادر فم لورانس يوما، من افنت عمرها من أجله، بينما نطق بها سيدريك.
كانت تعرفه حق المعرفة، كانت تعرفه كعدو أفضل من أي شخص آخر في العالم، لا بد وأن الاستياء المتراكم في صدره أحر من بحر من الحمم، يتوقع الآخرين منه أن ينتزع حياتها، أن يمزقها إربا إربا، ولكنه الآن ينحني أمامها لغرض نبيل...
رغم ذلك، لم تستطع إلا أن تهز رأسها مرة أخرى، كانت جيدة في التلاعب بالآخرين ودفعهم للقيام بمصالحها، وفي التآمر، والقتل، لم تكن تتقن الإستراتيجيات التكتيكية، كما أنها لن تستطيع إنجاز أمر لا يقدر على القيام به.
وحتى إن كانت استراتيجيًا لامعًا، فلا يمكن التغلب على الخلل الحالي في توازن القوى.
"فهمت."
أدرك فورا سبب رفضها، وقال بشكل رسمي:
"إذا، حتى أنت لا تستطيعين فعل أي شيء حيال الوضع الراهن"
فتساقطت الدموع من عينيها بالعشرات...
لقد صممت منذ لطخت يديها بالدماء للمرة الأولى في حياتها ألا تندم أبدا حتى توافيها المنية.
لا يمكن الصفح عن كل ما اقترفته يداها فقط لأنها ندمت لاحقا بعد إرتكابها..
وقد اعتقدت، إن لامها الموتى، فحري بهم لوم القدر على ولادتهم، فلا أحد بريئ في هذا العالم بإستثناء حديثي الولادة، لا، بل الوليد نفسه آثم على ولادته، مثلها تماما، وكذلك شقيقها...
ولكن من تخدع؟ ما انفكت عن التحسر!
لقد تجمع الندم المتراكم في اعماق صدرها كصخرة ضخمة أصابت قلبها في مقتل.
"اعتذر على طلبي غير المعقول"
ونهض ثم أضاف:
" لا يمكنني توفير إقامة أفضل لك بسبب ظروف الثكنات العسكرية السيئة، ولكن سأرسلك قريبًا إلى الريف مع بعض رجالي، أتمنى أن تعيشي بقية حياتك بسلام"
ولم يسعها سوي النظر إليه وعيناها غارقتين بالدموع.
وفي تلك الليلة شدت من عزيمتها، وفكرت ونفسها في طريقة لإصلاح كل شيء.
قد لا يوجد سبيل في الوقت الحالي، ولكن في الحقيقة كانت تملك طريقة.
نزلت عن السرير ببطء زحفا وجلست على الأرض.
لم تكن ترغب في استخدامها لأنها المذنبة، فلم تعتقد يوما أن لورانس المسؤول عن كل أخطائها، لقد رغبت في الموت والتعغن محتضنة كل الشر الذي ارتكبته من أجله.
إلا... إلا أنه لا توجد خطة غير هذه الطريقة...
فلو كان ميزان القوة مائلا ميلا لا يمكن عكسه، فأن كل ما عليها فعله هو إعادة الزمن إلى قبل حدوث الميلان.
عضت ما تبقى من لسانها وبدأت تزحف حتى ترسم دائرة سحرية بالدم.
لقد اختفى السحر منذ وقت طويل من العالم، إلا أن طريقة استخدامه لا تزال تمرر من جيل إلى جيل، ترسم الدوائر السحرية بالدم وتطلب الاضحيات البشرية.
لم يكن السبب الرئيسي في اختفاءه تقديم الاضحيات إنما ندرة الأشخاص القادرين على رسم الدوائر بشكل دقيق، لأن الكلمات المستخدمة في السحر تعود إلى لغة بائدة قديمة، وحتى لو تمكن أحد ما من نسخها فلا يمكنه أن يستفيد أتم الاستفادة كما يشاء، غير أنها قادرة على ذلك، كانت من أؤلئك القلائل الذين يستطيعون وبكل سهولة كتابة الكلمات الميتة من تلك اللغة الغابرة، فقد سبق ودرست السحر ذات مرة لاستخدامه في أعمال الشر.
واستمرت في عض لسانها وفمها من الداخل حتى تنزف وتنزف أكثر وكثر، فقد كان عليها رسم دائرة ضخمة بالدم المراق من لسانها المقطوع.
استمرت في الرسم طوال الليل، لم تكن تملك فرصة ثانية وعليها أن تفعلها مرة واحدة وبشكل صحيح، في مرحلة ما، أصبح ذهنها ضبابيا وكان عليها العض على لسانها بشكل اقسي حتى تظل واعية ومستيقظة.
قبيل الفجر انتهت من العمل، وانهارت في منتصف الدائرة السحرية بسبب فقدها الكثير من الدماء.
والان، التضحية البشرية المناسبة!
ثم اغمضت عينيها بلا حول ولا قوة.
بدأت الدائرة السحرية تأكل حياتها وتشع باللون الأزرق، لاحظ سيدريك حدوث شيء داخل الخيمة، فإنطلق إلى الداخل حتى يتحقق مما يجري، ونظر إليها والدهشة تعتريه.
غير أن الدائرة قد بدأ بالعمل بالفعل ولم تحتج مزيدا من الأضحيات، وقد شع ضوء باهر منع أي شخص من الإقتراب.
وقد كان آخر ما فكرت به لحظتها:
اتمنى أن تتحقق كل أمانيك في حياتك التالية...
سرعان ما أصبح السحر عمودًا من الضوء يمتد إلى الفضاء إلى ما لا نهاية، وأضاء السماء الليل البهيم.
كان الليل في اواخره عندما فتحت عينيها مجددا، حركت ساقيها أسفل البطانية، وكذلك يديها، ثم لمست بطرف اصبعها لسانها، وحاولت التحدث بصوت عالي، فأتى صوتها جهوريا وواضحا:
"هل ارتكبت أي خطأ أثناء كتابة السحر؟"
لقد كتبت بالأحرف القديمة كلمات دائرة السحرية ومعناها (مقابل حياة أرتيزيا روزان سوف يعود الزمن إلى الوراء)
ولهذا السبب قد حسبت نفسها ستموت، ولكنها ما زالت على قيد الحياة! وليس هناك اية جروح ولا ألم في جسدها على غرار الصخرة التي شكلها الندم، فما زالت تجثم في قلبها، وتستمر في طعنها.
ومدت يدها عاليا فقد خالجها شعور غير مألوف، سقط ضوء القمر المتسلل عبر النافذة على اصابعها الشاحبة وصبغها، حدقت فيهن صامتة، ثم خلعت عنها البطانية، ونهضت من السرير، ثم اشعلت مصباحا زيتا، وذهبت حتى ترى نفسها في المرأة.
"لقد عدت"
عكست المرآة وجه فتاة ذات شعر اشقر باهت وأعين تركوازية، لمست وجنتها بأطراف اصابعها، وقد راودها شعور كأن هذا الوجه لا ينتمي لها.
هل كان وجهي هكذا؟
وقتئذ أدركت أنها ما كانت تعير اهتماما لنفسها، نادرا ما نظرت إلى وجهها في المرآة، وإذا فعلت، كرهت أنها لا تشبه أفراد عائلتها مطلقا.
لطالما قالت لها والدتها انها قبيحة للغاية ولا تطيق حتى النظر إلى وجهها، بينما نادرا ما نظر إليها لورناس بشكل مباشر، أوليس من الطبيعي بين الأخوة عدم الانتباه لمظهر بعضهم البعض؟
على الرغم انها كانت ملزمة على الاهتمام بشكل خاص بمظهر شقيقها لاجل صورته في الاوساط الاجتماعية.
ثم استدارت بعد ذلك وعادت إلى غرفة نومها.
لم تكن تخطط للعودة بنفسها، كان هدفها منح سيدريك فرصة أخرى، ستضعف قوى لورانس على نحو عظيم بدونها، وأما عن ميرايلا التي تملك تلك قدرة على التلاعب بالامبراطور نفسه، فقد كانت ذات شخصية مهووسة واندفاعية، ومهما اجتهدت في تنفيذ مخططاتها فلا بد من أن تترك وراءها بعض الثغرات، بينما لم يكن لورانس شخصا يجيد التآمر في الأصل، وعلاوة أنها الشخص الذي وضع سيدريك نصب عينيه.
وقتذاك، بصفته إبن اخت الامبراطور وحتى قبل أن يشكل خطرا على الساحة السياسة، لقد قامت بوضعه تحت السيطرة وتكبيل ذراعيه وقدميه.
ولو أنها لم تفعل شيئا، لكان قد حافظ على قوته حتى اللحظة الحاسمة، ورغم كل الأضرار التي الحقتها به، فقد قاوم لورانس حتى الرمق الأخير من حياته.
المهم أنني قد عدتُ، وعليه يجب أن أفعل شيئا!
لا بد أن هناك سبب لعودتها على قيد الحياة سواء أكان خللا في السحر ذاته، أو أي مشكلة أخرى.
وفجأة رنت في عقلها كلماته
"انا أحتاج إليكِ"
تذكرت تلك اللحظة التي احنى رأسه أمامها، فشعرت بثقل على صدرها، ووضعت يدها برفق على نصفه الايسر.
وفي موقف أشبه بالعهد عزمت؛ مقابل ركوعك أمام الشيطان، حصلت على شيطان تتسخ يديه من أجلك.
ومضت إلى مكتبها الصغير، واخرجت مذكرة من أسفل درج، وفتحت اخر صفحة.
<2 يونيو 482 في التقويم الإمبراطوري>
لقد بلغت ربيعها الثامن عشر قبل ثمانية أيام.
لا يزال أمامها عامين حتي تبلغ العشرين، وحينئذ تستطيع وراثة لقب الماركيزة روزان.