بينما كان فنغ شيو يسير نحو البحيرة، كان الهواء مشبعا برائحة الرطوبة والتراب، وأصوات الحشرات تملأ المكان بصخب يشبه همسات مبهمة.

بدا المشهد هادئا على نحو غير مألوف، وكأن الطبيعة تراقب خطواته بصمت مشوب بالحذر، تتآمر في الخفاء أو تنتظر لحظة التحرك.

عندما وصل إلى البحيرة، لاحظ أن الماء لا يزال يحمل أثر الدماء الحمراء التي تلطخته في آخر مرة كان فيها هنا دون تردد، بدأ ينزع ملابسه البالية والممزقة، ثم قفز في الماء باندفاع غير مكترث غطس في أعماق البحيرة، تاركاً جسده ينساب في برودتها لعدة دقائق وكأنه يبحث عن تطهير روحي وجسدي من كل ما مر به.

عندما خرج من الماء، كان المشهد حوله يوحي بالجمود قطرات الماء تساقطت من جسده، تنساب على جلده المليء بالتشققات الداكنة التي لم تختف.

توجه بخطى بطيئة نحو مكان قريب، حيث كانت بقعة كبيرة من الدماء الجافة تلطخ الأرض. هنا تحديدا كان موقع جثة أوريان، التي لم يتبق منها سوى آثار الدماء بعد أن افترسها فنغ.

نظر إلى البقعة للحظات صامتًا وكأنما يسترجع مشهدًا يثير داخله مشاعر متضاربة.

لكن سرعان ما تحول تركيزه نحو الملابس المعلقة على شجرة قريبة. كانت هذه ملابس تركها أوريان من قبل.

أمسك بها وبدأ يرتديها ببطء، قطعة تلو الأخرى، متجاهلا كل ما يحيط به، وكأن هذا الفعل البسيط كان طقسه الخاص لاستعادة توازنه.

بعد أن انتهى فنغ شيو من ارتداء ملابسه، التقط قبعته الموضوعة على الأرض.

انحنى قليلا وهو يمسك بها ببطء، مستعدًا لوضعها على رأسه وإكمال طريقه المعتاد.

لكن فجأة، اخترق الصمت صوت ضحكات مجنونة جاءت من نظامه الداخلي {هاهاهاهاهاهاهاها.....}

كان صوت الضحك يحمل نشوة غريبة، كما لو أن النظام وجد متعة استثنائية فيما يحدث.

تنهد فنغ بإرهاق وكأنما اعتاد على هذه التصرفات وقال ببرود

" هوووف ها نحن مرة أخرى... اخرس أيها الأحمق أو اذهب لتضحك في مكان آخر دون إزعاجي."

كان صوته هادئا ولكنه مشبع بالضجر، معتقدا أن الأمر سينتهي كما في كل مرة. لكن هذه المرة، النظام لم. يسكت كما كان يفعل دائما.

تحدث النظام بصوت متهكم

{فنغ شيو، يا لك من أحمق! دعني أرى كيف ستتعامل مع هذا الوضع بما أن النهاية قريبة، دعني أخبرك ببعض الحقائق.}

توقف النظام للحظات قصيرة، مما دفع فنغ إلى رفع طرف عينه نحوه ببرود، كما لو أنه كان يحاول تحليل ما يجري.

أكمل النظام بصوت مفعم بالتهكم واللذة:

{الكهف الذي دخلته... أو لنقل عالم المرايا، كنت أول شخص تطأ قدمه ذلك المكان. لهذا السبب، أصابتك لعنة فريدة ... لعنة الظلال الناطقة! هاهاهاهاها لا أعلم الكثير عن هذه اللعنة، ولكنني متحمس المعرفة تأثيرها، خاصة عندما تُطبق على شخص مغرور مثلك.}

قبل أن يتمكن فنغ من الرد، شعر فجأة بألم حاد يخترق جسده لم تمر سوى ثوان معدودة قبل أن يسقط على ركبتيه ممسكاً صدره بقوة. كان وجهه كما هو، خاليا من الحياة كعادته، ولكن العروق البارزة والعرق البارد الذي انساب على جبينه كشفا شدة الألم الذي يعتصره.

وفجأة، بدأت مجسات سوداء، أشبه بمخالب أخطبوط لكنها خالية من الشكل الدائري المألوف، تخرج من فمه مصحوبة بكمية هائلة من الدماء. كلما زادت المجسات في الظهور، ازدادت الجروح داخل فم فنغ، وكأنها كانت تمزق الأنسجة من الداخل.

لكن الألم لم يكن جسديًا فقط. كان شعورًا عميقًا ينخر روحه، ألما لا يمكن مقارنته بشيء آخر.

وكأن كل ألمه السابق لا شيء أمام هذا العذاب الجديد.

المعاناة لم تتوقف عند هذا الحد. خرجت نفس المجسات من أذنيه، مما تسبب له في اضطراب سمعي هائل كل صوت حوله تضخم إلى حد الجنون، وكأن العالم بأسره صرخ في أذنيه دفعة واحدة. أي صوت بسيط كان يتحول إلى جحيم لا يطاق، لدرجة أنه لو سمع إنسان عادي هذا الصوت لجزء من ثانيه، لانفجرت طبلة أذنه.

استمر فنغ على هذا الحال لمدة عشر ساعات، محاصرا بألم لا يوصف. كلما حاول التأقلم مع هذا العذاب، كان الألم يتصاعد، وكأنه يتحدى تحمله ويكسر كل مقاومة لديه.

وبعد ذلك خرجت المجسات السوداء من عينيه كانت أكبر وأكثر سمكا ، مما تسبب له في ألم لا يمكن تصوره.

الشعور بأن عينيه تتمزقان ببطء، قطعة تلو الأخرى كان أشبه بالكابوس الحي الدماء انهمرت من عينيه بغزارة، والظلام بدأ يحل تدريجيا على رؤيته، وكأن اللعنة تستمتع بتحطيمه جسديًا ونفسيا.

بعد ثلاث ساعات من الألم الشديد، بدأت المجسّات السوداء التي كانت تخرج من جسد فنغ شيو بالاختفاء تدريجيًا.

الصدمة الأكبر كانت عندما بدأت الدماء التي خرجت منه تعود إلى جسده وكأن الزمن يعود بها إلى الوراء.

سقط فنغ على الأرض، وبدأ وعيه يتلاشى ببطء. لكن قبل أن يغيب تمامًا، سمع صوت النظام مجددًا.

{هاهاهاها! سنرى الآن إذا كنت ستظل تطارد حلمك. إذا كان الشخص العادي يحتاج إلى شهر لتعلم تقنية ما، فأنت بسبب لعنة الظل الراقص ستحتاج إلى سنة كاملة!}

لم تسعفه قواه للرد، فاختفى وعيه تمامًا بعد سماع تلك الكلمات.

بعد ثلاثة أيام، ظل فنغ في نوم عميق وكأنه في غيبوبة لا نهاية لها.

على مقربة منه، ظهرت مجموعة تتكون من خمسة أشخاص: طفل صغير، ورجلان، وامرأتان، تبدو عليهم علامات التعب الشديد من السير الطويل.

قال الطفل، وهو يسحب ثوب والده: "أبي، هل يمكنك أن تحملني؟ أنا متعب جدًا."

نظر إليه الرجل ذو اللحية القصيرة، المسمى برودك، ورد بنبرة صارمة لكن مشفقة: "اصبر قليلًا يا بني، نحن على وشك الوصول."

ظهرت علامات الانزعاج على وجه الطفل، لكن قبل أن ينطق مجددًا، قاطعه الرجل الآخر في المجموعة ضاحكًا:

"هيا يا برودك، احمل ابنك. لو كان لدي ابن، لما تركته يتعب هكذا! هاهاها!"

ألقى برودك نظرة غاضبة على صديقه، لكنها سرعان ما تلاشت وهو يتنهّد، ثم انحنى وحمل طفله على ظهره.

وأثناء سيرهم، لمحوا شخصًا ممددًا على الأرض في الطريق. توقف الجميع للحظة، وتقدم الرجلان أولًا لفحصه، تاركين النساء وطفل

خلفهم.

قال الرجل الآخر وهو يركل برفق قدم فنغ: "هل تعتقد أنه حي يا برودك؟"

رد عليه برودك بحدة: "بالطبع! ألا ترى أنه يتنفس؟"

دار بينهما نقاش قصير حول ما إذا كان عليهم أخذ هذا الرجل معهم أم تركه.

وفي النهاية، قرروا المضي في طريقهم وتركه، لكن الطفل الذي كان يحمل براءة لا مثيل لها قال فجأة:

"أبي، أمي، عمي، عمتي... ضعوا أنفسكم مكانه. كيف سيكون شعوركم إذا تجاهلكم الناس عندما تكونون في أمسّ الحاجة للمساعدة؟"

ساد الصمت بين المجموعة، وكانت كلمات الطفل كافية لزرع الشكوك في نفوسهم. تحدث برودك أخيرًا، محاولًا إغلاق النقاش:

"أنت صغير يا بني، لا تعرف قسوة العالم. هناك أمور لن تفهمها الآن. دعنا نكمل طريقنا."

لكن تلك الكلمات لم تقنع المجموعة تمامًا.

بعد صمت قصير، تدخلت زوجته بصوت خافت: "برودك، ربما علينا التفكير في الأمر. العالم قد يكون قاسيًا، لكننا نحتاج أن نكون مختلفين. ليس فقط لأجل أنفسنا، بل من أجل أطفالنا."

نظر إليها برودك بعينين متعبتين، لكنه كان يعرف أنها محقة. انحنى مجددًا لفحص فنغ شيو بعناية، وقال: "حسنًا، سنأخذه. لكن إن تسبب في أي مشاكل، فلن أتردد في تركه خلفنا."

حمل الرجال جسد فنغ ووضعوه في عربتهم البسيطة، بينما نظرت النساء إليه بحذر. ابتسم الطفل أخيرًا وقال: "شكراً أبي. هذا هو الشيء الصحيح."

رد عليه برودك بصرامة: "لا تتحمس. هذا ليس لطفًا، نحن فقط لا نريد أن نتحمل عبء ضميرنا لو مات أمامنا."

واصلت المجموعة طريقها بحذر، تحمل جسد فنغ معها إلى المجهول، في مواجهة عالم قاسٍ حيث الخير والرحمة يعتبران خطرًا.

حلّ الليل، وتوقفت المجموعة لنصب الخيام. بعد أن انتهوا من تجهيز معسكرهم، وضعوا جسد فنغ شيو جانبًا.

أشعلوا نارًا للتدفئة وشواء الأسماك، وبدأوا بتبادل القصص والحكايات حول النار. بعد تناولهم الطعام، استعد الجميع للنوم.

في تلك اللحظة، بدأ فنغ شيو بالاستيقاظ ببطء. تفحّص يده اليسرى، ثم مال لتدليك عنقه بيده اليمنى وهو جالس وممدّد قدميه.

تمتم بصوت خافت وكأنما يحدّث نفسه: "أين..." لم يُكمل كلمته حتى ضربته صاعقة من الذكريات في عقله، وبدأ يسترجع ما حدث له.

بعد دقائق قال بنبرة ساخرة: "حسنًا، كان غباءً مني أن أثق في النظام منذ البداية..." استدار ليجد أفراد المجموعة ينظرون إليه بحذر.

تقدم أحدهم نحوه، وقال بصوت ودود: "مرحبًا، اسمي دورك. وجدناك ممددًا في طريقنا، فقررنا حملك معنا." ظل فنغ شيو ينظر إلى الرجل الواقف أمامه دون أن يُبدي أي تعبير.

لم يكن دورك قادرًا على رؤية عيني فنغ شيو بسبب القبعة التي كانت تغطيهما. بدأ فنغ شيو يقف تدريجيًا، وظهرت هيئته لأول مرة.

كان طويل القامة، بمظهر غامض وجذاب. ملامحه الحادة وبشرته الشاحبة أضافت إلى هالته المهيبة، بينما انسدل شعره الطويل الداكن حول وجهه بطريقة طبيعية تعكس أناقة غير متكلّفة.

ارتدى قبعة تقليدية مصنوعة من القش، ورداءً أسود بسيطًا يشبه مزيجًا من الكيمونو الياباني والرداء الصيني. وعلى رقبته ظهرت تشققات غريبة على جلده، وكأنها آثار إصابات قديمة.

قال فنغ شيو بصوت هادئ: "شكرًا لك أيها الصديق على مساعدتك. سأحرص على رد الدين." بدأ يتحرك مبتعدًا عن المكان، لكنه توقف عند سماع صوت طفل صغير يناديه: "أيها الأخ، لماذا لا تأكل معنا وتبقى حتى الصباح؟"

التفت فنغ شيو لينظر إلى الطفل، وقبل أن يتحدث، تدخّل صديق دورك المدعو تينغ قائلًا بابتسامة: "الطفل محق. ما زال هناك طعام متبقٍ." اقترب تينغ من فنغ شيو، وأشار إليه بالجلوس معهم لتناول الطعام.

جلس فنغ شيو قرب النار، بينما كانت الأسماك تُشوى على اللهب. بدأ دورك الحديث وقال: "أيها الصديق، هل تسمح لنا بمعرفة اسمك وأصلك إن لم تمانع؟"

رد فنغ شيو بهدوء: "اسمي فينجيو، وأصلي من هذه الجبال. كنت أعيش هنا مع جدي فقط، لكنه توفي، مما اضطرني لمغادرة الجبل والتوجه إلى المدينة، لكنني فقدت وعيي من شدة التعب."

نظر دورك إليه بعينين مشفقتين وقال: "أنا آسف لتذكيرك بماضيك المؤلم."

تدخل الطفل بحماس قائلاً: "أيها الأخ فينجيو، هلّا نزعت قبعتك لنرى وجهك؟ أبي منعنا من النظر إليك أثناء حملنا لك!"

قهقه تينغ وقال: "أيها الطفل المشاكس، اذهب للنوم ولا تزعج الآخرين!" ثم التفت نحو فنغ شيو وقال معتذرًا: "أنا آسف على تطفل ابن اخي . خذ راحتك، وهناك خيمة فارغة يمكنك النوم فيها إن أردت."

أخذ برودك قارورة نبيذ صيني تقليدية ووضعها أمام فنغ شيو قائلاً: "وهذا نبيذ إن كنت ترغب في شربه." ثم اتجه برودك إلى خيمته وترك فنغ شيو وحده.

جلس فنغ شيو بجانب النار، وأخذ قارورة النبيذ ليشرب منها بينما يتناول السمك المشوي.

أنهى طعامه وتوجه إلى الخيمة للنوم. لكن قبل أن يصل، شعر بشيء غريب يقترب بسرعة. فجأة، ظهر عدة أشخاص يرتدون زياً موحداً.

2024/12/11 · 2 مشاهدة · 1577 كلمة
نادي الروايات - 2024