رفع يده بهدوء وبدأ برسم النقوش التي أملاه عليه النظام، بخطوط دقيقة تملأ الأرض من تحته. لم يكن يرسم فحسب، بل كان ينفخ في تلك الرموز طاقته… طاقة الفوضى التي أصبحت جزءًا من دمه.
ومع آخر رمز أتمّه، انبعث ضوء خافت، وتبددت الأرض من تحته كأنها دخان، ليسقط فجأة في العدم…
---
...ثم فتح عينيه.
كان واقفًا.
لكن ليس في الكهف.
تحت قدميه، امتدت أرض حمراء كالدم، تنبعث منها أبخرة خانقة. البحر من حوله لم يكن ماءً، بل بحرٌ هائج من الدماء السوداء، تعصف به الرياح وتملأ السماء بأصوات همسات لا تُفهم. فوقه قمر قرمزي ضخم، ينزف من منتصفه خيوطًا حمراء تنزل كالسكاكين.
كان الصمت خانقًا... لكنه مألوف.
أدار رأسه ببطء، الجثث المتناثرة على الأرض... ذلك الطريق الضيق المؤدي لحافة الهاوية... وتلك الصخرة الصغيرة التي كانت ابنته تحب الجلوس فوقها...
تجمد الزمن للحظة.
لقد كان هنا من قبل.
هذا… كان عالمه.
أو جزء منه.
أو ربما هو انعكاس لعقله؟ لا يهم.
ما عرفه أنه رأى هذا المشهد يوم اختفت ابنته. لكن شيئًا واحدًا كان مختلفًا…
...البحر. لم يكن هناك بحر. الآن، كان كل شيء غارقًا في الدماء.
ومع ذلك، لم يتغير تعبيره. لم يهتز. لم يشعر بأي شيء.
بل، ابتسم بخفة، هامسة، كأنما يعلن الحقيقة الوحيدة التي يفهمها.
"إذا كان هذا عالمي... فأنا سيّده."
وبينما كان ينظر للدماء تتماوج من حوله، ظهرت اللعنة.
رجلٌ طويل القامة، شعره أسود كثيف يتطاير في الرياح، عيناه حمراوتان كجمر الجحيم. ظهر فوق عرشٍ مشقوق، ينظر نحو فنغ من علٍ، بصوت أجوف بدأ يتحدث:
"أنت جبان، فنغ شيو. تركت ابنتك... لم تجرؤ على مواجهة زوجتك... خفت أن تعاقبها، لأنك كنت ضعيفًا... كنت إنسانًا."
اقترب أكثر، خطوة بخطوة، حتى أصبح بجانب فنغ، يلتف من حوله كالدخان.
"أنا ماضيك، أنا ذكرياتك، أنا مشاعرك التي دفنتها. لكنني هنا، أتنفس من خلالك. سأجعلك تشعر بكل ما أنكرته. بالندم، بالذنب، بالكره، بالحب، بالحقد... حتى تنكسر، وتصبح لي."
لكن اللعنة لم تدرك شيئًا مهمًا...
كانت تتحدث إلى رجل ميت.
رجلٌ بلا قلب، بلا ماضٍ، بلا شيء يمكن كسره.
فجأة، وبحركة أسرع من وميض برق، مدّ فنغ يده وأمسك عنق اللعنة بقوة كادت تكسر الهواء من حولها.
عينيه لا تحملان غضبًا، ولا كرهًا... فقط فراغ، صمت، وبرودة تامة.
اقترب بفمه منها، وهمس بكلمات كادت تمزق هواء المكان:
"أنتَ ارتكبت خطأً واحدًا... ظننتَ أن الموتى يخافون."
بدأت طاقة كثيفة، داكنة اللون تتراقص بهدوء حول يد فنغ، اليد التي كانت تُطبق على عنق اللعنة. تصاعدت من بين أصابعه خيوط من طاقة سوداء قرمزية، كأنها تجرّ شيئًا حيًا من أعماق جسد خصمه، تتلوى في الهواء قبل أن تُمتصّ بالكامل إلى جسد فنغ.
لم يقاوم.
لم يتردد.
كان وكأنه يُمارس شيئًا طبيعيًا… شيئًا كُتب عليه أن يحدث.
اللحظات تمر، واللعنة تتقلص، تنكمش، قوتها تتسرب منها شيئًا فشيئًا. بحر الدم بدأ يخفت، والرياح هدأت. كل شيء صار أضعف… ما عدا فنغ.
وفي النهاية، لم يتبقَ من اللعنة سوى وعيها… صورة بشرية منهارة، سقطت على الأرض كخرقة بالية، بلا طاقة، بلا هيبة، بلا أي شيء.
رفعت نظرها إليه، بخوفٍ خامد، لا تصدق أنها الآن في هذه الحالة. فيما كان فنغ لا يزال يتأمل يديه، إحساس جديد يتدفق في جسده، طاقة مألوفة وغريبة في الوقت ذاته… لقد أصبحت له.
ثم، ببطء، رفع رأسه ونظر نحوها.
نظرة واحدة فقط كانت كافية لترعبها.
لكن فجأة، انتبه فنغ… هناك شيء لم يُمتص.
عينيها.
تحديدًا عينها اليسرى.
كانت أشد قتامًا من أي شيء في هذا المكان، قمرًا دمويًا صامتًا في محجرها. طاقة كامنة فيها، شرٌ لم يتبدد بعد.
اقترب منها بخطوات هادئة، لا استعجال، لا رحمة.
جثا على ركبته أمامها، ثم مدّ يده نحو وجهها. أصابعه اقتربت من عينها اليسرى… لمس الجفن بلطف، كأنه يتحسس شيئًا نادرًا، غريبًا.
وفي لحظة، دون سابق إنذار…
– بووووم!! –
طعنة من طاقة مدمرة انفجرت من كفه، اجتاحت رأسها من الداخل، لتُسحق الجمجمة بالكامل، ويتناثر أثرها في هواء العالم العقلي.
هدأ كل شيء.
وقف فنغ، وحده، في هذا العالم الذي أصبح الآن تحت سيطرته المطلقة.
لعنته... أصبحت ملكه.
وهو… أصبح لعنته
أغمض فنغ شيو عينيه ببطء، تنفسه هادئ، جسده ساكن كأنه مجرد تمثال. وفي لحظة صامتة، انسحب وعيه من العالم الدموي الداخلي، وعاد إلى واقعه. الضوء الخافت للكَهف عاد، الأنفاس الثقيلة عادت، وكل شيء بدا كما كان…
…إلا شيء واحد.
تلك العين.
كانت لا تزال في يده.
العين التي اقتلعها من جسد اللعنة، لا تزال تقطر طاقة مظلمة، نابضة، كأنها حيّة.
فتح فنغ عينيه ببطء، رفع نظره نحو النظام الذي كان يحدّق فيه بدهشة، صوته تردد بين أركان الغرفة:
{لقد... أنت، كيف اقتلعتها؟}
لكن فنغ لم يرد. لم يكن منزعجًا، لم يكن متعجّبًا، بل بالكاد تفاعل، كأن شيئًا لم يحدث. بصوت هادئ سأل:
"ماذا تقصد؟"
ردّ النظام، وقد بدا عليه التوتر:
{تلك العين… لا يهم كيف حصلت عليها، المهم الآن أنها أصبحت ملكك. أسرع، ازرعها فورًا في عينك اليسرى. الآن عينك اليمنى هي “عين ساكورا الراقصة”، واليسرى يجب أن تكون “عين لعنة الضلال الناطقة”... لا أعلم إن كان هذا حظًا أو لعنة، لكن فقط، افعلها.}
دون تردد، مد فنغ إصبعيه إلى عينه اليسرى.
وفي حركة باردة، بلا ألم، بلا حتى غمضة رمش… اقتلعها.
تقطرت الدماء، لكنه لم يتأوه.
أمسك بالعين الجديدة، وغرسها في محجره، لتستقر ببطء… ثم بدأت تتوهج.
هاالةٌ ساحقة اجتاحت جسده، وكأن جبلاً انهار فوقه. شعر بأن كل خلية في جسده تُعاد صياغتها. دقائق طويلة مرت وكأنها دهور.
وحين انتهى كل شيء، فتح عينيه ببطء.
عينه اليمنى: بنفسجي غامق، تلك كانت "عين ساكورا الراقصة"، مصدر الانسجام والسيف الحالم.
عينه اليسرى: حمراء دموية، أعمق من الدم ذاته… عين "لعنة الضلال الناطقة".
قال النظام بصوت خافت، لكنّه يحمل رهبة:
{سأشرح لك القليل عنها… هذه العين تمثل الخوف نفسه، الرعب المطلق. قد لا تقدر الآن على استدعاء كامل قوتها، لكن بما تملكه حاليًا… يمكنك زرع الرعب في قلب أي شخص، مهما كانت قوته، حتى من هم بطبيعتهم مقاومون للخوف. كما ستمنحك القدرة على تعلّم أي تقنية تعتمد على الرعب أو الوهم العقلي.}
مدّ فنغ شيو يده للأمام، وبهدوء رفعها في الهواء.
فوق كفه، ظهرت بوابة صغيرة… سوداء بالكامل، تومض بسواد حيّ.
خرجت منها مجسّة داكنة، ملساء، نابضة كأنها كائن حي، نفس المجسّات التي كانت يومًا تعذّبه… لكن الآن، هي طوع أمره.
ابتسم فنغ بخفة، ثم أشار بإصبعه نحو صخرة ضخمة في الزاوية.
– شششششق!! –
انطلقت إحدى المجسات بسرعة خاطفة، اخترقت الهواء كالسهم، وسحقت الصخرة تمامًا، بل أكثر من ذلك… افترستها، وامتصت كل طاقتها.
قال النظام همسًا:
{هذه… مهارة الافتراس. إحدى مهارات المجسات.}
في الخلف، فتحت بوابات أخرى، وخرجت منها مجسات أكثر، تتلوى بهدوء خلف ظهر فنغ شيو… لا شيء يمكنه إيقافه الآن.
قال النظام بصوت يقطر حماسًا:
{الآن يمكنني أن أُعطيك مهارات لا تُعدّ ولا تُحصى، ويمكنك تعلّمها في ثوانٍ… طالما أن لها علاقة بالخوف.}
أجاب فنغ شيو بنبرة هادئة:
"حسنًا… أعطني مهارتين فقط، واخترهما بعناية."
ثم أغمض عينيه للحظة، تنفّس ببطء… فتح عينيه مجددًا وقد عاد لونها لطبيعته، واختفى من المكان كأنه لم يكن.
...
في قمة الجبل، أمام الكوخ.
ظهر فنغ شيو أمام الباب الخشبي، هادئًا كعادته. دفع الباب بيده، صريره يتردد في أرجاء الجبل الصامت، ودخل.
في الداخل، كان زاراثوس جالسًا، يتدرّب، يحرك يديه في الهواء بخفة وتركيز.
تحدث فنغ بنبرة منخفضة:
"زاراثوس… ماذا تفعل؟ ألم أخبرك أن تتدرّب على القدرة التي أعطيتك؟"
التفت زاراثوس إليه، وابتسامة مشرقة على وجهه:
"لقد تعلمتها يا سيدي… وكانت مذهلة جدًا!"
نظر فنغ إليه، عينيه تراقب كل تفصيلة في تعبيراته، بينما جاء صوت النظام في ذهنه:
{من الطبيعي أن يتعلّمها بهذه السرعة، لكن… لا زال الأمر مدهشًا.}
تقدم فنغ خطوة وسأله بهدوء:
"زاراثوس… أخبرني، ما هي هذه القدرة؟ أريد أن أعرف ما فهمته عنها."
أجاب زاراثوس بحماس واضح:
"اسمها صوت الخراب. بمجرد أن أستعملها، كل كلمة أنطق بها، كل همسة، تصبح منبعًا للفوضى. لا، في الحقيقة… صوتي ذاته يُصبح صوت الفوضى. يسمعه العدو فيرتجف قلبه، يختلط عقله، وتُسحق إرادته بالكامل… وكأن كلماتي تزرع الرعب في أعماقهم."
لكن قبل أن يُكمل، قاطعه فنغ، بصوت هادئ كالعادة:
"حسنًا… يبدو أنك فهمتها حقًا."
ضحك النظام بخفة، وقال:
{يبدو أن عامًا من التدريب سيحوّله لوحش كاسح بحق.}
في ذلك الكوخ الصغير، في قمة الجبل النائي، وقف سيّدان من عوالم مختلفة… أحدهما ينسج الرعب، والآخر بدأ يسلك طريقه إليه.
وقف فنغ شيو قرب الباب، وقد بدا عليه أنه تذكّر أمرًا ما، ثم تمتم بصوت منخفض وكأنه يتحدث إلى نفسه:
"لقد نسيت أمر أوريان… يبدو أنه استيقظ… لكن لا داعي للقلق، لقد أخبرت الكائنات أن تفك أسره إذا استيقظ… دون أن تخبره بأي شيء."
رفع زاراثوس حاجبه باستغراب، كان يسمع الاسم لأول مرة، ولم يفهم المقصود، لكنه لم يسأل، فقط نظر إلى سيده في صمت.
تابع فنغ شيو وهو يتجه نحو الباب:
"زاراثوس، سأذهب لدقائق… وسأعود."
ابتسم زاراثوس وقال بلطف:
"حسنًا، يا سيدي… لكن، هل لي أن أطلب منك شيئًا؟"
التفت فنغ شيو إليه، وأجاب ببساطة:
"تفضل."
خفض زاراثوس رأسه بخجل، صوته كان خافتًا وكأن قلبه يخفق بقوة:
"هل يمكنني… أن أناديك بـ... أبتاه؟"
ظل فنغ يحدق فيه بصمت، نظراته عميقة، لا توحي بموافقة أو رفض، فقط سكون جعل قلب زاراثوس يرتجف… لكن فجأة، قطع الصمت صوت فنغ، هادئًا كالماء:
"لا مانع عندي."
ارتجفت ملامح الطفل بشعور عارم… لم يكن فقط فرحًا، بل كان ممتلئًا بسعادة دافئة لم يعرفها منذ زمن بعيد. حاول أن يكبتها… لكن عينيه لمعَتا ببريق لم يسبق أن رآه أحد.
كان ذلك اليوم لحظة لن ينساها زاراثوس ما دام حيًا
تحدث نظام بصوته الميكانيكي:
{ بما أن زاراثوس لا يمكنه الرؤية كما يرى الآخرون، فلدي القدرة لتعويضه بشيء أفضل من النظر العادي... ستجعله يرى طاقة كل شيء، وسيتمكن من رؤية هيئاتهم وأشكال بنياتهم. رغم أنه لن يستطيع رؤية الملامح، إلا أنه سيتمكن من رؤية المشاعر والنوايا وكل شيء مهما حاول الشخص الآخر إخفاءه. لن يفلت أي شيء من نظره. }
أشار فنغ إلى نظام ليعطيه هذه القدرة، لكنه قبل أن يفعل ذلك قال: "هل سيلاحظك؟"
رد نظام: { لا، لأنني، بطريقة ما... لا أتعرف على نفسي حقًا. أنا الجنس الوحيد من نوعي في هذا الوجود، ولا أعلم من قام بتحكيلي عن هذا الجنس أساسًا. لذلك، لا ينفع معي أي شيء ما عدا بعض الأمور المحدودة. أما بالنسبة لك... حسنًا، بما أنك ميت فعلاً، فلن يستطيع رؤية مشاعرك أو نواياك. }
انطلق ضوء ساطع من النظام واتجه نحو زاراثوس، ليبدأ بترسيم القدرات في عقله. كل شيء عن "الحس الملكي" بدأ يترسخ في دماغه. أصبح اسمه محفورًا في ذهنه.
اتجه فنغ نحو الباب، ومد يديه ببطء. بدأ المفتاح يخرج من يديه ليضعه في الباب. ثم فتح الباب ببطء، ليبدأ انتقاله إلى عالم المرايا.
تمدد أمام ناظري فنغ ذلك العالم البديع، مليئًا بالألوان المتناغمة والتفاصيل الساحرة... عالم المرايا الذي بدا كأنه لوحة فنية مرسومة من الأحلام. كان يتمشى ببطء، يتأمل كل شيء من حوله، حين شعر فجأة بأنه أصبح على دراية بكل ذرة في هذا المكان، وكأن وعيه اتسع ليشمل هذا العالم بالكامل.
رفع رأسه نحو السماء، ليرى مشهدًا مهيبًا: كائن ضخم، تنين عملاق يمتد طوله عبر الأفق، يُقدّر بمئات أو ربما آلاف الكيلومترات. عينيه بحجم مدن، تتلألأ بطاقة غير مألوفة. التفت ببؤبؤه العملاق نحو فنغ، ثم تحولت نظراته للأعلى، وكأن هناك من يعلو فنغ.
وفعلاً، كان هناك شخص يجلس فوق رأس التنين، كأنه سيده. وفي لحظة، ومن دون أن يتحرك التنين بسرعة أو يستعمل أي قدرة، فقط من شدة ضخامته واستدارته، أصبح رأسه قبالة فنغ مباشرة.
تحدث فنغ في نفسه ببرود:
[أيها النظام، هل هناك مخلوقات كهذه في عالم المرايا؟]
رد النظام بنبرة ساخرة:
{نعم، وهناك ما هو أضخم. لكن ذلك الشخص فوق التنين هو أوريان نفسه. يبدو أنه يعتقد حقًا أنه سيد هذا العالم، ههه. وبالمناسبة، لا أظن أن هذا التنين يعرفك، فأنت لم تقابله من قبل.}
أوريان، الذي كان جالسًا باعتداد على رأس التنين، لم يكن يعلم شيئًا عن فنغ، ولا أنه هو من خلق هذا العالم وجلبه إليه. فمنذ أن استيقظ، لم يقابل أحدًا، واعتقد أن كل شيء هنا ملك له.
نزل أوريان من على ظهر التنين واقترب بخطوات مهيبة، ثم قال بتعجرف:
"من أنت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟"
لكن فنغ ظل صامتًا. نظر إليه للحظات، ثم بدأ يتحرك ببطء، متجاهلًا وجوده تمامًا، كأن أوريان مجرد هواء. أثار ذلك جنون التنين خلف أوريان، فأطلق زئيرًا هائلًا دوّى في كل الأرجاء، تسبب بتمزق الأرض تحت قدمي فنغ، وتساقط الأشجار من حوله. ورغم كل هذا... لم يتحرك فنغ قيد أنملة.
انتشر الصوت كالزلزال، وسمعه كل مخلوق في عالم المرايا. انطلقت الكائنات من كل صوب وحدب نحو المكان، حيث المواجهة بين فنغ والتنين وأوريان. وأول من وصل كان ذلك الحصان المجنّح – أول من استقبل فنغ عند دخوله هذا العالم، والمخلوق الذي لبّى أمره في صمت دون تردد.
هبط الحصان بين فنغ والتنين، غير مبالٍ بأي تهديد، ثم التفت نحو فنغ، وانحنى بكل احترام وقال بصوت واضح مجلجل:
"مرحبًا بجلالتك، سيد هذا العالم."
تجمّد كل شيء...
حدقت المخلوقات بدهشة، تنين أوريان جمد في مكانه، وعيناه تتسعان بعدم تصديق. أما أوريان نفسه، فقد كانت الصدمة ترتسم على وجهه، لا يفهم كيف يمكن لمخلوق من عالم المرايا وليس اب مخلوق بل المخلوق المسؤول عن إدارة الأمور في كل العالم ، أن ينحني لهذا "الغريب"... هذا الذي تجاهله قبل لحظات.
سكنت الأنفاس، وعمّ المكان صمت ثقيل...
كل المخلوقات التي وصلت لاحقًا، من عمالقة الظلال إلى طيور النور، ومن ذئاب المرايا إلى أشجار الوعي الحي، تجمّعت من حول فنغ، تراقب بتوتر ذلك الموقف الفاصل.
أوريان تراجع خطوة دون وعي، نظر للحصان المجنح الذي انحنى لهذا الرجل، ثم نظر إلى فنغ مجددًا، وعيناه تتذبذبان بين الاستفهام والخوف.
"سيـ... سيد هذا العالم؟!" قالها بصوت خافت يكاد لا يُسمع.
نظر فنغ إليه أخيرًا، بنظرة باردة لا تحمل لا غضبًا ولا رحمة، بل يقينًا صامتًا. تقدّم خطوة للأمام، وفي كل خطوة كان الهواء من حوله يزداد ثِقلاً، وكأن العالم نفسه ينحني لحضوره.
قال فنغ أخيرًا بصوت منخفض، لكنه وصل إلى آذان الجميع كالرعد:
"أن تكون في عالمي لا يعني أنك تحكمه... أنت فقط تعيش فيه، لأنني سمحت لك بذلك."
ارتعش أوريان، ولم يستطع الرد، بينما التنين خلفه بدأ يخفض رأسه ببطء، إحساسًا بالخطر الكامن في هذا الكائن الذي لا يظهر قوته، لكنه يهيمن على كل شيء.
تقدّم الحصان المجنّح بخطوة، ثم نظر إلى فنغ وقال:
"جلالتك، هل ترغب بأن نُخرج هذا المتطفل؟"
لكن فنغ رفع يده بخفة، إشارة ليتوقف، ثم قال وهو يلتفت نحو أوريان:
"لا. ليبقَ... ليرى الفرق بين من يُولد حاكمًا، ومن يظن نفسه كذلك."
ترددت كلمات فنغ في الفضاء المحيط، وتحفّزت بها القلوب، وكأنها نقش أبدي يُكتب في جوهر هذا العالم.
في تلك اللحظة، ركعت جميع الكائنات من حوله دون أن يُطلب منها، حتى التنين نفسه أحنَى عنقه نحو الأرض، خاضعًا لمن لا يُقارن.
وكانت تلك هي اللحظة التي أدرك فيها أوريان أنه لم يكن سوى زائر مؤقت...
أما الحاكم الحقيقي، فقد وصل للتو.
تقدّم فنغ نحو التنين بخطوات هادئة لكنّها تحمل في طيّاتها جبروت العالم بأسره، ثم توقف أمام رأسه العملاق، ورفع نظره إليه ببرود وقال بصوت منخفض لكنه اخترق جدران الكيان نفسه:
"وأيضًا... على بعض الأشخاص أن يتدرّبوا على معرفة من هو السيد الحقيقي."
ثم لوّح فنغ بخفة بأصابعه، تلويحة بالكاد تُلاحظ، لكنها لم تكن عادية…
في اللحظة التالية، انفجرت موجة طاقة خفية، خالية من أي لون أو صوت، لكنها كانت كفيلة بتمزيق الواقع.
اندفع التنين العملاق بعنف لا يُصدّق، صُعق جسده بطاقة غير مفهومة، ووجد نفسه يُقذف عبر مساحات شاسعة من عالم المرايا، يضرب الجبال التي تفتتت، وتتشقق الأنهار التي كانت أزلية، ليتحوّل كل شيء في طريقه إلى رماد ناعم.
لم يكن هناك ضوء، ولا نار، ولا ريح… فقط أثر الصدمة التي سببها إصبع واحد.
صُعق الجميع من هول ما حدث… لم يصدقوا أن تلك الحركة الخفيفة وحدها كانت كافية لتحطيم أجزاء من العالم.
نظر أوريان بعينين متوسعتين، وقد جفّ حلقه تمامًا. بدأ يدرك أن الكائن الذي أمامه ليس سيدًا لهذا العالم فقط... بل هو ذاته جوهر هذا العالم.