كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب حين وصلت صديقة لينا إلى ورشة العمل التي يعمل فيها فنغ.

كانت خطواتها مترددة، تحمل في طياتها خليطا من القلق والتوتر.

لم تكن قريبة من فنغ، ولم تكن تعرف عنه الكثير، لكنها كانت تعرف أنه إنسان مسؤول، وإن عرف باختفاء ابنته لن يقف مكتوف اليدين. هذا ما كانت تأمله.

وقفت أمام باب الورشة، ولاحظت أن الباب نصف مفتوح، يهتز قليلًا بفعل الرياح القادمة من الزقاق.

أخذت نفسًا عميقًا، حاولت أن تجمع شجاعتها، ثم دفعت الباب بخفة ودخلت.

"فنغ؟" نادت بصوت خافت أول مرة، وكأنها خائفة من أن يجيبها أحد

تقدمت خطوات قليلة داخل المكان، عيناها تتجولان في الأرجاء.

الورشة كانت هادئة بشكل غريب، وكأنها مهجورة منذ أيام.

العربات المعلقة، الأدوات المرتبة بدقة، الكراسي الفارغة، كل شيء كان ساكنًا.

"فنغ؟" نادت مجددًا، هذه المرة بصوت أعلى قليلًا

لكن لا مجيب

شعور غير مريح بدأ يتسلل إليها. شعرت وكأنها دخلت إلى عالم آخر.

عالم لا يوجد فيه أحد. صدى صوتها كان يرن في الجدران، ويزيد من شعورها بالفراغ.

تقدمت أكثر، وهي تحاول أن لا تُصدر أي صوت بحذائها.

فجأة، وقبل أن تنادي مجددًا، أحست بنقرة خفيفة على كتفها

تجمدت في مكانها، ارتعد جسدها كله، والتفتت بسرعة وقد اتسعت عيناها من الذعر

خلفها كان يقف رجل ضخم البنية، عريض الكتفين، ذو لحية سوداء كثة وصدر مرتفع كالحائط

كانت ملامحه جادة، لا يظهر عليه أي مظهر من ملامح التهديد، ومع ذلك فقد بدا كمارد خرج للتو من قصة قديمة

تراجعت خطوة وهي تضع يدها على صدرها

"أوه... لقد أخفتني!" قالت بصوت متقطع

الرجل ظل ينظر إليها للحظة، ثم قال بنبرة هادئة لكنها ثقيلة

"هل تبحثين عن فنغ؟"

أومأت بسرعة وقالت

"نعم... لقد حدث أمر طارئ، وأردت إخباره، ظننت أنه لا يزال هنا"

الرجل عبس قليلًا، ثم تنهد وأشار نحو الداخل

"فنغ غادر قبل أكثر من ساعة"

تجمدت كلماتها في حلقها للحظة، ثم تمتمت

"غادر؟"

بعد أن هدأت قليلاً واستوعبت أن من يقف خلفها ليس إلا رئيس فنغ في العمل، شكرت الرجل بلطف رغم أنها لم تخفِ ارتباكها بالكامل.

كانت كلماتها متعثرة لكنها ممتنة، ثم غادرت الورشة بخطوات متسارعة، يتملكها شعور غريب من القلق والتشتت.

خرجت إلى الشارع المزدحم، عيناها تجولان بين الوجوه، على أمل أن تلمح فنغ واقفا عند زاوية أو عائدًا من استراحة.

لكنها لم تجد شيئًا سوى الضجيج والوجوه الغريبة. ومع كل شخص مرت به، كانت تتوقف وتسأل:

"لو سمحت، هل رأيت رجلًا يدعى فنغ؟ يعمل في تلك الورشة هناك؟"

بعضهم هز رأسه نافيا والبعض الآخر لم يعرها اهتمامًا.

شعرت بالضياع، لكن القلق على ينغ جعلها تستمر دون أن تتردد.

توجهت نحو المطاعم القريبة، ثم المحلات، وكل مرة كانت تكرر السؤال نفسه، تارة بصوت منخفض، وتارة بلهفةٍ ظاهرة، لكن النتيجة كانت واحدة:

لا أحد يعرف شيئًا.

الوقت بدأ يمر ببطء قاتل، وكل لحظة لا تجد فيها أثرًا لفنغ، كان القلق يتضاعف في صدرها.

ومع أن أقدامها بدأت تؤلمها، لم تتوقف. كانت تمشي بلا وجهة واضحة، كأنها تطارد ظل يتبخر أمامها كلما اقتربت.

ولأول مرة، بدأت تشعر أن الأمور قد لا تكون على ما يرام...

وبعد أن فقدت الأمل في إيجاد أي أثر لفنغ، عادت صديقة لينا أدراجها نحو منزل الأخيرة.

كانت خطواتها بطيئة ومثقلة، وكأن كل سؤال لم يجب عنه أحد كان يُضيف حجرًا جديدًا إلى قلبها.

وعندما وصلت طرقت الباب بخفة، ففتحه شين سريعًا بينما كانت لينا تجلس في الداخل ووجهها شاحب من الإرهاق والقلق.

نظرت إليهما الفتاة والتعب بادٍ على ملامحها، ثم قالت بصوتٍ متعب:

"ذهبت إلى مكان عمل فنغ… لم أجده هناك… رئيسه قال لي إنه غادر منذ ساعة أو أكثر…"

بمجرد أن أنهت جملتها، خيم الصمت على الغرفة.

كانت كلماتها كالسهم، أصاب لينا في الصميم. توسعت عيناها، وبدأ العالم يدور من حولها، الجدران تهتز، والأرضية تختفي تحت قدميها.

حاولت أن تلتقط أنفاسها، لكن الهواء بدا ثقيلًا، وكأنها تختنق في فراغ لا يُطاق.

شين شعر بالارتباك اقترب منها ليمسك بكتفها، لكنها بالفعل كانت تنهار.

ركبتاها خذلتاها، فسقطت على الأرض برفق، ولكن الألم كان داخليًا أعمق من أن يُخفف بسقوط جسدي.

وضعت يدها على قلبها، كأنها تحاول أن تمنعه من الانهيار معها.

جلست هناك لثوانٍ طويلة، قبل أن تدفع بجسدها بصعوبة إلى الأمام، وتحاول الوقوف.

كان كل شيء فيها يصرخ بأنها لم تعد قادرة، لكن رغم ذلك، نهضت، ووجهها مصفر، وعيناها غارقتان في الذهول.

سارت ببطء نحو الباب الخارجي لمنزلها، دون أن تنبس بكلمة.

لم تسأل عن شيء، لم ترد على شيء، فقط، سارت وكأن بداخلها شيئًا واحدًا يصرخ: فنغ لم يعد هنا… وشيء ما ليس على ما يرام.

نظرت لينا نحو زاوية الباب حيث تصفّ الأحذية بعناية، المكان الذي اعتادت ترتيبه يوميًا بدقة، كما لو كان طقسًا مقدسًا لحماية نظافة منزلها من غبار العالم الخارجي.

لطالما حرصت أن يكون لكل فرد من أفراد العائلة زوجان من الأحذية: واحد للخارج وآخر للمنزل، لا يُخلط بينهما أبدًا.

لكن ما رأته الآن شلّ حواسها، وجعل قلبها يهبط في صدرها وكأن شيئًا مريعًا قد وقع بالفعل.

كانت أحذية فنغ المخصصة للعمل والخروج مصطفة في مكانها المعتاد… بينما غابت أحذية المنزل تمامًا.

تجمدت ملامحها، وتحولت عيناها إلى مرآة للذهول والخوف.

"ه...هل ي...يعق...يعقل ا...نه؟" تمتمت بالكلمات بصوت خافت ومتهدج، كأن لسانها يرفض تصديق ما يحاول عقلها تفسيره.

لم يكن هناك سوى احتمال واحد.

عقلها حاول إنكاره، رفضه، قاومه، لكنه في النهاية اقتحم وعيها كصاعقة تهوي من السماء.

فنغ كان هنا… دخل المنزل… ورحل دون أن يشعر به أحد.

ارتجف جسدها وهي تضع يدها على فمها، وكأنها تحاول خنق الفكرة قبل أن تنفجر بصوتها.

"هل... هل يعقل أنه رآني مع ت...تشين؟"

ترددت الكلمات على لسانها كأنها سم، كأنها خيانة تقر بها أمام نفسها لأول مرة.

الشعور بالذنب ضربها بقوة، مشاعر الارتباك والخوف والندم كلها اختلطت بداخلها دفعة واحدة.

2025/04/23 · 34 مشاهدة · 889 كلمة
نادي الروايات - 2025