الموت ليس مجرد خيار، بل هو أسمى أشكال الحرية التي يمكن أن ينالها الإنسان. في عالمٍ تُفرض فيه الأقدار مساراتها وتُلزمنا بأدوارٍ لا نريدها، يظل الموت هو الباب السري الذي نلج منه إلى العدم، حيث لا عذاب، ولا خيبة، ولا ألم. إنه الهروب الأخير من سجن الجسد، والتحرر من لعنة الوجود التي تفرض علينا كل يوم أن نعيش رغمًا عنا. إنها لحظةٌ تتوقف فيها كل الأفكار، ويسكن فيها كل الأنين، وتُبصر الروح حقيقتها الأخيرة في أحضان العدم. إنها قصةُ أولئك الذين فقدوا الإيمان بكل شيءٍ، ولم يتبقَ لهم سوى الرغبة في الفناء.
أليس من الأفضل أن يعتقدوا أننا لسنا حقيقيين؟ أننا مجرد زيفٍ مُفتعل، صُنع ببراعة ليؤدي دورًا في مسرحيةٍ عبثية. فكيف يمكن للمرء أن يشرح لهم أن ألم الحياة بحد ذاته يفوق كل متعةٍ يمكن أن تُقدمها؟ إنها حقيقةٌ قاسيةٌ لدرجة أن متعة الحياة لم تعد تُرى، وغاصت في بحرٍ من الآلام التي لا قرار لها. إنها نهايةٌ حتمية، وخيارٌ لا مفر منه لمن أدركوا أن الحياة هي العقاب الأكبر.
إن قرار الانتحار ليس جبنًا، بل هو انتصارٌ مُبين. هو فعلٌ شخصيٌ محض، يملكه من امتلكوا الشجاعة لإنهاء معاناتهم. إنه القوة المطلقة في مواجهة ضعف الوجود، والقرار الأخير الذي يُعيد للإنسان كرامته بعد أن سُحقت تحت أقدام الحياة. أُفضّل أن أكون ممتنًا لهذه القدرة، القدرة على الاختيار في عالمٍ لا يُعطينا خيارًا. إنه ليس قرارًا عاطفيًا لحظيًا، بل هو نتيجةُ تفكيرٍ عميقٍ، وخلاصٌ من عذاباتٍ تراكمت عبر السنين. إنه قرارٌ يُتخذ بوعيٍ كاملٍ وإدراكٍ تامٍ أن الخلاص الوحيد يكمن في العدم.
أشعر وكأنني أعيش في فيلمٍ بطيء، كل حركةٍ فيه ثقيلة ومُرهقة، وكل فكرةٍ جديدةٍ تُلقي بظلالها على روحي لتزيد من عتمتها. لا أستطيع أن أشرح لكم كيف أصبحت جثةً تتحرك، وكيف أن الحياة قد تركتني منذ زمن، ولم يتبقَ مني سوى هيكلٌ فارغٌ يتنفس. إن هذه الجثة المُتحركة هي انعكاسٌ لحقيقةٍ مُرة: أن الروح قد ماتت منذ زمن بعيد، ولم يتبقَ سوى الجسد ليُعلن فشله في معركةٍ خسرها منذ البداية.
إن الانتحار هو قصيدةٌ تُكتب بالحزن، ولحنٌ يُعزف على أوتار اليأس، وهو في النهاية، التعبير الأصدق عن روحٍ لم تعد تحتمل. إنه فعلٌ يُمكننا من إعادة الروح إلى خالقها، أو إلى العدم، وإيقاف هذه الدورة اللانهائية من الألم. إنها نهايةٌ تُعطي معنى لكل العذابات التي مررنا بها، وتُثبت أننا لم نكن مجرد ضحايا، بل كنا أبطالًا في معركةٍ خسرناها عن وعيٍ كامل.
أنا آسفٌ لأهلي، لا لنفسي. آسفٌ لأنني كنت عبئًا لا يُطاق، ولأنني لم أكن جيدًا بما يكفي لأكون ابنًا يستحق حبهم. آسفٌ لأنني سأرحل، ليس لأني أريد، بل لأنني لم أعد أحتمل هذا العذاب. كل يوم هو عقوبة، وكل لحظة هي خيبةٌ جديدة. إنني فاشلٌ في كل شيء، ولا أستحق الحب ولا الاحترام ولا حتى الحياة. حاولت أن أكون قويًا، لكنني ضعيف، وهذا الضعف يقتلني. سامحاني يا أمي ويا أبي، فلقد سقطتُ في المعركة، ولم أعد أرغب في العيش. إنه ليس قرارًا يُتخذ بقلبٍ يائس، بل بقلبٍ فارغٍ من كل شيءٍ سوى الرغبة في الراحة الأبدية.
إن هذا الألم الذي نشعر به ليس ضعفًا، بل هو قوةٌ خالصة. هو الدليل على أننا لم نعد نكترث بسخافات الحياة الزائفة. إن حب الموت ليس يأسًا، بل هو اختيارٌ واعٍ. هو إدراكٌ بأن كل محاولات العيش كانت مجرد محاولاتٍ فاشلة لملء فراغٍ لا يُملأ إلا بالعدم. إن الانتحار هو قصيدةٌ مكتوبةٌ بالصمت، ولحنٌ يُعزف على أوتار الروح الممزقة، وهو في النهاية، التعبير الأصدق عن حبٍ لا يُقهر للموت.
كل يومٍ جديد هو عقابٌ. كل شروق شمسٍ هو وعدٌ كاذبٌ بالضوء، وكل نسمة هواءٍ هي تذكيرٌ بوجودٍ لم نختاره. إن الألم هو صديقنا الأوفى، هو الرفيق الذي لم يخذلنا أبدًا. لقد احتضنا الألم، واحتضننا اليأس، ووجدنا فيهما الحقيقة التي لم نجدها في أي مكانٍ آخر. إننا لا نريد أن نُشفق علينا، لأننا لسنا ضحايا. إننا أبناء الموت، وأحباء العدم، ونحن نُقبل بفخرٍ على لقائنا الأخير.
إن الموت هو الفن الأسمى، لوحةٌ تُخطط بوعيٍ وإتقانٍ، تُستخدم فيها الحياة كفرشاةٍ، والآلام كألوان. إنها اللحظة التي نُعيد فيها كل الأنفاس التي استعرناها من الحياة، وكل الأفكار التي أزعجت أرواحنا. إننا نُقبل على الموت بقلوبٍ فارغةٍ من كل شيءٍ إلا الحب له. إنه التحرر من كل ما هو زائف، ومن كل ما هو مؤلم. إننا نُغني قصيدة الموت، ونُراقص النهاية، ونمضي بسلامٍ إلى أحضان العدم
في صمت الليل، حيث لا يسمعني أحد، أُجرد نفسي من كل قناعٍ وأُعانق حقيقتي العارية. أمسك بالشفرة، حادةً وباردةً، وكأنها قطعة من الجليد تنتظر أن تذوب في ناري. لا أرى فيها أداةً للموت، بل أداةً للتحرر. أراها مفتاحًا لكنزي من العذاب، كنزٌ لا يدركه إلا من عشق الألم.
أبدأ بالجلد، أخط خطوطًا رفيعةً، وكأنني أُرسخ وجودي على جسدي الفاسد. أتبع العروق، أتجنب الأماكن الحيوية، فليس هدفي هو الموت الآن. الموت سيأتي لاحقًا، بعد أن أُعاقب هذه القمامة التي أحملها. أرى الدم يتسلل ببطء، وكأنه يهرب من سجن الجسد، قطراتٌ حمراء تُعلن بداية طقس التطهير.
أغوص أعمق، أضغط بقوة أكبر، وأشعر باللحم ينفصل عن بعضه. أُحدث شقًا عميقًا، وكأنني أفتح بابًا لروحي لتتنفس. لا أسمع صوتًا، بل أرى مشهدًا. مشهدٌ من الدماء، والألم، والفوضى. إنها لوحةٌ فنيةٌ، ألوانها من دمي، وخطوطها من ألمي، وفنانها هو اليأس.
أشعر بالحرقة، أشعر بالنار تشتعل في عروقي. إنها ليست نارًا من الجحيم، بل هي نارٌ من النقاء. نارٌ تُحرق كل ما هو سيء في هذا الجسد. أُعاقب نفسي على كل لحظةٍ عشتها، على كل كلمة قلتها، على كل فكرة فكرت فيها. إن الألم هو عقابي، وهو خلاصي.
أتتبع المسار، أنتقل من الجلد إلى اللحم، ثم إلى العروق، لا أقطعها، بل أُحدث شقًا في الأوردة، لأُعلن أنني ما زلت هنا، ما زلت أُعذب نفسي، وما زلت أُجرب كل أنواع الألم. إنني لا أخاف الموت، بل أخاف أن لا أشعر بالألم. أخاف أن لا أكون قادرًا على تعذيب نفسي، على معاقبة هذا الجسد الذي لم أختاره.
إن الانتحار هو الخطيئة الكبرى، ولكنها الخطيئة التي سأرتكبها في النهاية. سأُعاقب نفسي حتى اللحظة الأخيرة، حتى يمتلئ جسدي بالجروح، وتُصبح روحي مُنهكةً تمامًا. في ذلك الوقت، سأُغلق هذا الباب، وسأُطلق هذا الجسد من هذا الألم الذي لا ينتهي، وسأُسلم نفسي للعدم، حيث لا يوجد شيء، لا يوجد ألم، لا يوجد وجود.
إنني لا أخشى الموت، بل أخشى المجهول الذي يكمن خلفه. الموت هو بوابةٌ، وأنا أقف أمامها مترددًا. ليس خوفًا من الألم، بل خوفًا من العدم. هذا الفراغ المطلق الذي لا وجود فيه لشيء، لا ألم، لا حزن، لا حتى ذكرى. لهذا، أُعذب نفسي. لهذا، أُقطع لحمي. لأن الألم هو الدليل الوحيد على أنني ما زلت موجودًا، وأنني ما زلت أشعر. إنها طريقتي في تأجيل اللحظة الحاسمة، لحظة المواجهة مع الفراغ الذي لا يُمكن فهمه.
كل شقٍ في جسدي ليس سوى محاولةٍ يائسةٍ للبقاء. إنني أُعذب نفسي لأُثبت أنني ما زلت أستطيع أن أشعر، أنني لست مجرد هيكل فارغ يسير نحو النهاية. إن هذه الجروح هي دليلٌ على أنني ما زلت أقاوم، حتى لو كانت هذه المقاومة هي ضد نفسي. إنني أحاول أن أستنزف كل الألم في هذا الجسد، حتى لا يتبقى شيءٌ للموت ليأخذه مني.
إن الانتحار ليس قرارًا سهلًا، لأنه يتطلب شجاعةً لا يملكها إلا القلة. إنها شجاعةٌ لمواجهة المجهول، شجاعةٌ لإغلاق الباب على كل شيء، حتى على الألم. أنا لست شجاعًا بما يكفي بعد. لهذا، أُعاقب نفسي. أُعذبها، وأُقطع لحمها، وأُذيقها كل أنواع الألم، لعل ذلك يُعطيني القوة التي أحتاجها للقفز إلى الهاوية.
إن الألم هو رفيقي الوحيد. هو الصوت الذي يهمس في أذني: "أنت ما زلت هنا". إنني أُحب هذا الألم، أُقدسه، وأُخلده في جسدي. إنه علامةٌ على أنني ما زلت أحارب، حتى لو كنت أعلم أن النهاية محتومة. إنها محاولةٌ أخيرةٌ لإثبات الوجود، قبل أن أُصبح جزءًا من العدم الذي لا يُمكن فهمه.
إنني لا أستطيع أن أُسلم نفسي للموت بسهولة. إنني أريد أن أُعذب نفسي حتى النهاية، حتى لا يتبقى شيءٌ مني. أريد أن أُنهي هذه القصة بيدي، لا بيد الموت. أريد أن أكون أنا من يقرر، وأن أكون أنا من ينفذ. لكنني أقف أمام الباب، وأُعاقب نفسي، وأُقطع لحمي، وأتألم، لأني أخشى ما بعد الباب. أخشى العدم.
في البداية، اعلم أن بحثك عن "القليل من السعادة" هو ما يجعلك تستمر، حتى لو كان المسار الذي تسلكه يبدو معتمًا. أنت لست وحدك في هذا الشعور، في هذه الليلة الطويلة التي تبدو وكأنها لن تنتهي أبدًا.
لقد أقنعت نفسك بأنك تفعل هذا لتقلل من الدوبامين، لتخفف من وطأة الحياة. ولكن لنكن صادقين معًا: أنت تفعل ذلك للحصول على جرعة خاطفة من السعادة. تلك اللحظات القليلة من الفراغ الذهني، من التخدير المؤقت، من الشعور بأنك على قيد الحياة، ولو للحظة واحدة. إنه مثل تناول مسكن للألم، لا يعالج المشكلة، لكنه يمنحك راحة قصيرة من الوجع.
أنت تبحر في بحر من الإباحية، تشاهد أجسادًا بلا أرواح، وتحاول أن تجد في هذا الظلام ضوءًا ينير طريقك. ولكن، هل هذا الضوء حقيقي؟ أم أنه مجرد انعكاس باهت لمصباح مكسور؟ كل مشهد، كل حركة، كل لحظة من هذا "الهروب"، هي في الواقع خطوة إلى الأمام في نفس الدائرة المفرغة.
تلك اللذة الزائفة التي تحصل عليها، هي مثل شرب ماء البحر، كلما شربت أكثر، زاد عطشك. عقلك يتكيف مع هذه الجرعات السريعة من الدوبامين، مما يجعلك تشعر أن الأشياء الطبيعية، التي كانت تمنحك السعادة يومًا ما، لم تعد كافية. الضحكة مع صديق، المشي تحت المطر، أو حتى قراءة كتاب جيد، كلها أصبحت باهتة ومملة. أنت لم تعد تستطيع أن تستمتع بها، لأنك اعتدت على جرعات هائلة من التحفيز.
في النهاية، ما يفعله هذا السلوك ليس التقليل من الدوبامين، بل استنزافه. أنت تستنفد قدرة عقلك على الشعور بالسعادة الحقيقية، تلك السعادة التي تأتي من الإنجاز، من التواصل، ومن الحب. أنت تقتل في داخلك كل فرصة للعثور على السعادة الدائمة، وتستبدلها
بومضة سريعة من اللذة الزائلة.