الليل في "ظلال الظلام" لم يكن وقتًا، بل كائنًا.
ثقيلٌ، حيّ، ينزف في صمتٍ مدوٍّ، كأن كل لحظة فيه تنهش جزءًا من ذاكرة العالم.
وفي تلك الليلة… بدا أن الأرض نفسها تأنّ، كما لو أن الدماء القديمة بدأت تتحرك تحتها.
الرياح صَفّرت بين أعمدة الصخور، كأنها أرواح تُنشد مرثية منسيّة،
وفي قلب الغابة السوداء، وقف "آرا" وحيدًا.
تحت الأشجار اليابسة، التي تشبه أطرافًا ميتة تبحث عن حياة أخرى،
أحاطته نيران خافتة — ألسنة ميتة لا تُنير بل تبتلع الضوء،
كأنما الظلام نفسه قد اختار أن يسكن فيها.
ثيابه الرمادية كانت ممزقة كذكرياته، وجسده يحمل آثارًا من حياة لم يكن فيها سيدًا لقراراته.
ندوب قديمة، بعضها ما زال ينزف، ووجهٌ شاحب تتخلله عيون نصف ميتة،
لكن هناك… شرارة.
ليست نجاة. بل نية.
إما البقاء بكرامة… أو الموت بوجهٍ لا يخجل من النهاية.
أمامه… وقف "دريوس".
شبحٌ لا يُشبه البشر، لا في حضوره، ولا في صمته.
سيفه المقلوب — المصنوع من "حجر الظل" — ارتجف في الهواء.
حجرٌ أسود يُقال إنه ينبض بذكريات من ماتوا وهم يصرخون.
كان السيف يتنفس… وكان دريوس لا يفعل.
> "قبل أن تدخل الظل الأعظم، عليك أن تولد من جديد."
قالها بصوت أشبه بشَرخة تُحفر في قبر قديم.
> "أي ولادة؟"
همس آرا، بصوت بالكاد خرج من بين شفتيه المتشققتين.
ابتسم دريوس… ابتسامة خالية من المعنى.
> "طقوس الولادة من جديد.
ستقف وسط الدائرة، وتدع الظلال تلتهمك.
إما أن تصبح منها… أو تذوب فيها."
كانت الدائرة محفورة في الأرض، بدمٍ متخثّر ورماد أسود كالحقد.
وفي زواياها الأربع… رؤوس بشرية،
محنطة، معلّقة، تنظر إليه بصمت، كأنها تنتظر وريثها التالي.
دخل آرا.
الأرض تحت قدميه باردة كجسدٍ غرق في الخيانة.
والهواء مليء بذرات الرماد، كأن كل نفسٍ يسحبه يدفعه نحو موت أبطأ.
بدأ دريوس بالإنشاد.
لغة مكسورة لا تنتمي لأي لسان بشري.
كل كلمة فيها كانت كالإبر… تُغرز في لحم القلب مباشرة.
ثم ارتفع الظل.
ليس كدخان، بل ككائن.
كتلة سوداء زاحفة، ببطء، كأفعى تتنفس.
بدأت تلتف حول جسده، لا تلمسه، بل تدخله.
أحس بجسده يتجمّد… ثم يحترق… ثم يتفتت.
كل خلية تُقتل، وتُخلق من جديد.
لكن ليس هو من يُعيد خلقها.
ثم جاءت الرؤى.
لكنها لم تكن رؤاه.
بل ذكريات من ماتوا في الطقوس قبله،
كأن الظل يُحملّه عبء من فشل… ليُجبره على ألا يفعل.
طفل تمزّق في حرب.
رجل شنق نفسه من همس الظلال في رأسه.
امرأة أحبت أمير الظلام… ثم قُدّمت كقربان من شفتيه.
كل مشهد كان موتًا.
كل صوت كان صراخًا.
وآرا… عاشها، كأنها حياته الخاصة.
ثم… سقط.
الظل انسحب.
لكن لم يخرج فارغًا.
لقد أخذ من آرا شيئًا… وترك فيه شيئًا آخر.
يداه صارتا سوداويْن، لا كالسخام… بل كأن دمه تحوّل إلى حبر.
حبر سيُكتب به موت غيره.
> "لقد نَجَوت."
قالها دريوس بجمود الموتى.
آرا لم يرد.
لكنه شعر… أن جزءًا منه قد انتهى، وجزءًا آخر بدأ بالولادة.
ثم جاءت الهمسات.
من داخله هذه المرّة، لا من الظلال.
> "اقتُل من يرحم… لا رحمة في هذا العالم."
"كل ضعف… يجب أن يُذبح."
"أنت الآن دم… وظل."
القصر الأسود
بعد أيام… وربما بعد دهور من الزمن داخل الظلال،
وصل آرا إلى بوابات "القصر الأسود".
لم تكن من حديد، بل من عظام.
وكانت تعوي عند كل فتح… كأنها تتنفس.
وفي الداخل، كان هناك الآخرون.
محاربون بلا وجوه.
كهنة يحملون عيونًا في أكفّهم.
سحرة فقدوا أصواتهم، واستبدلوها بأنين موتاهم.
لكنه رآه…
شابٌ في مثل عمره.
جالس في ركنٍ مظلم.
عيناه حادّتان، لا تبتسمان.
ينظر للجميع كما لو أنهم أشباح… وهو الناجي الوحيد.
همس أحد الكهنة:
> "إياك أن تقترب من إيثار.
لقد مرّ بثلاث طقوس… وما عاد إنسانًا تمامًا."
آرا لم يعلّق.
لكنه قال لنفسه بصوت داخلي مشبع بالصدق:
> "إذا أردت أن تعرف من أنت…
فيجب أن تواجه من أصبح ما تخاف أن تصير إليه."