" هوووف.. هوووف "
شعرت بثقل غريب، راكعا على ركبتي مستندا بذراعي على ما كان أسفلي، كانت الأرض صخرية بملمس رطب، لم أستطع رؤيتها بسبب عيني المغلقتين. مع ذلك، فقد حاولت رفع جفوني مرارا لكن دون جدوى..
أحسست بقطرات الماء تدفع ما بدى و كأنه قبعة من نوع ما على رأسي، كان المطر غزيرا، سمعت عدة أصوات بعيدة و قريبة، خُطى أقدام تغرق على أرض ترابية، كلمات بلغة غير مفهومة تتردد بين عدة أشخاص و أيضا، احتكاك الحديد على الصخر..
إستعدت جزءا من رشدي و استقمت على قدمي، كنت لا أزال غير قادر على فتح عيني لكن بطريقة ما، انبثقت نقطة خضراء مظلمة في الأفق، و دون أن أشعر، توسعت تلك النقطة بمعدل سريع لتشكل منظرا طبيعيا كئيبا..
أطل قمر ما بعد الغروب بضوء خافت فوق مسطح عشبي شاسع، مستترا بطبقة ثخينة من الغيوم الرمادية صبغت الجو بإحساس من العزلة و الهدوء.. كنت واقفا فوق هضبة منخفضة من الصخر و التراب، حولي توزعت ثلل من الرجال و النساء ببذلات خضراء رمادية امتزجت بتناسق مع الطبيعة، بعضهم حمل سيوفا و الآخر حمل أسلحة مختلفة، لكن أكثرهم كان خالي الوفاض.
' الجيش.. '
كان جميعهم ضمن جيش الإمبراطورية، يتقدمون في اتجاه واحد.. قمة الهضبة.
" هل أنا أحلم؟ " تمتمت تحت أنفي..
كان الحلم واقعيا بعض الشيء. تفقدت نفسي، كنت ألبس بذلة الجيش أيضا، حاملا على خصري سيفا بلاتينيا رهيبا، مزينا بعدة أنماط من الذهب و قد نقشت عليه بضع كلمات عجزت عن قراءتها..
" افعلوا كل ما بوسعكم من خير.. " تردد صوت قيادي، قوي و رخيم من بعيد، و كأنه يخاطب جماعة صغيرة..
نظرت إلى مصدر الصوت الذي كان قمة الهضبة، وقف هنالك رجل واحد تجمع أفراد الجيش حوله، رأيت فمه يفتح عندما واصل
" لا تتكلموا بسوء عن أحد، لا تسرقوا من أحد، لا تكذبوا على أحد، لا تتكبروا على أحد، لا تكرهوا أحدا.. "
سمعت كلماته بتركيز غريب، لم أشعر بعبور صوته على أذني و إنما دخل عقلي مرغما. أسقط علي ذلك نوعا من الخشوع و التبجيل..
" لا تسيؤوا إلى أحد.. "
في لحظة واحدة، شعرت بلمسة على كتفي، أرجحت رأسي على الفور لأرى واحدا من الجنود يتجاوزني، إتكأت يده على كتفي. كان قصيرا، ذو شعر أسود مجعد و عيون خضراء لوزية، وجهه كان أشبه بامرأة، لمَعت عيناه ببريق مخيف بينما ركز نظره إلى الأمام. في المشهد، كان هو الوحيد الذي يتحرك، مستمرا بالتقدم نحو القمة..
شعرت أنني أعرفه، و كأنني رأيته بمكان ما، لكنني لم أتعرف عليه. بذلك، واصلت الإستماع.
" إذا تصرفتم بهذه الطريقة فلن تكونوا بعيدين عن ملكوت السماء.. "
صمت الرجل و بقي أعضاء الجيش يحدقون فيه، لم يجرؤ فيهم أحد على قول كلمة. سرعانما أخفض جسده ليحمل راية عظيمة، في تلك اللحظة سقطت قطرة كبيرة على عيني جعلت رؤيتي ضبابية..
لم أعد أرى أي تفاصيل، رفع الرجل الراية لترفرف بقوة مع الرياح الضاربة، لكنني لم أستطع رؤيتها بوضوح. ثم..
تمزق
تمزق الفضاء أمامي، مثل ورق مقوى، حتى أنه أصدر ذلك الصوت الحاد و الخشن.
تغير المنظر بسرعة و استعدت بصيرتي، وجدت نفسي أنظر إلى الأسفل لسبب ما. كنت واقفا على الدرج، صاعدا على ما يبدو.. حملَت الدرجات الرخامية كتابات و رموزا منقوشة بلون من الياقوت الأحمر و الأزرق، درجات سماوية، فرفعت نظري لأرى محيطي..
" ... "
ضربتني رياح عاتية مع رؤيتي لذلك الكيان أمامي، كان يرتقي الدرجات هو الآخر، متقدما علي، رأيت شعره الأشقر الذهبي و الطويل منسدلا على ظهره، لم تبدو هيأته خاصة بأنثى، أضْفت خطواته المهيبة وقارا بينما سمحت الرياح بصنع مشهد سماوي عندما رفرفت برداءه الأبيض، الملكي الفضفاض، نحو الجانب.
أبرقت عيناي، راقبت المشهد بهدوء خلفه، كانت الدرجات تأخذ مسارا نحو السماء، دون جدران لتمنع الرؤية فنظرت على يميني. اتسعت عيناي بلطف عندما كشف المشهد أرضا بيضاء قطنية.. لا، هي لم تكن أرضا.. لقد كانت تلك طبقة رائعة و متماسكة من الغيوم أشبه بالثلج تحتنا..
كنا نصعد الدرجات فوق الغيوم!
أخذت لمحة على يساري فوجدت شخصا آخر بجواري، امرأة، كانت مركزة إلى الأمام هي الأخرى بينما بعثت عيناها ببريق خافت و مهيب، شعرها الأسود القصير قد تبعثر بفعل الرياح و رداؤها الأبيض الأنيق قد تطابق مع ردائي.. لقد بدونا مثل حارسين لهذا الكيان الأسطوري أمامنا.
لسبب ما، شعرت أنني أعرفها.
تمزق
تمزق المشهد من جديد، اختفت السماء و البياض و حل مكانهما ظلام قرمزي.. لم يكن ظلاما..
وجدت نفسي طريحا على الأرض، مستلقيا على بطني قبل أن أرفع جذعي قليلا بساعدَي، رأيت القرمزي يسيل بثبات مغطيا على يدي قبل أن أشعر ببركة تحتي.. كنت غارقا وسط الدماء.
رفعت عيني للأعلى، كانت هناك نافذة زجاجية كبيرة، دائرية، مزينة بأنماط مختلفة مثل زجاج الكاتدرائيات القوطية، انبثق خلفها ضوء قرمزي جميل، كان الوحيد الذي يضيء الظلمة و يضيء هيأة دمي..
مع الإضاءة الخافتة حاولت رفع نفسي، ذلك عندما صدر صوت قعقعة..
قعقعة! قعقعة!
لم أستطع التحرك كثيرا، نظرت إلى مصدر الصوت لأرى قدمي مكبلتين بسلاسل سوداء ثقيلة، تتبعت عيناي السلاسل لتنتهي عند جدار دموي مظلم، جدار انبثقت منه سبع مسارات للسلاسل السوداء.. كل واحد منها قد توجه نحو مكان مختلف.
تمزق
تمزق الفضاء مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يكن هنالك سوى السواد.. سواد خانق و مخيف.
تكمش صدري، فقدت القدرة على التنفس. ثم..
.....
"هاااااا! "
اهتززت فاتحا عيني باتساع كالذي استيقظ من كابوس للتو! أخذت شهيقا طويلا استرجعت به حجم رئتي قبل أن أطرده بقوة..
" لقد استيقظتَ أخيرا.. " صدى صوت أنثوي بجانبي، صوت مألوف.
توضح المشهد أمامي، كنت جالسا على كرسي بسيط أمام طاولة، مقابلا لي، كانت السيدة تارا متكئة على أريكتها، بساق على ساق و يديها متشابكتين فوق ركبتها، رامقة إياي بابتسامة صغيرة.
" ما الذي أفعله هنا؟" فحصت محيطي للحظة قبل أن أعيد نظري نحوها..
' لما أنا هنا؟ ' رددت في نفسي، ذلك عندما عبرت بضع صور داخل رأسي..
صورة مارثا و هي تحمل مسدس، ثم صورة إطلاقها، صورة جثتها و يدي الدمويتين و أخيرا صورة سقوطي بين قدمي رادولف..
إتسعت عيناي عندما تذكرت كل شيء، هرعت بالوقوف من مكاني بانفعال لكن شيئا ما كبحني على الفور، بعد أخذ نظرة على جسدي وجدت نفسي مكبلا بسلاسل شبه شفافة محاطة بهالة حمراء..
" ليس بهذه السرعة فالفارو.. لدينا حديث صغير بالإنتظار "
" لماذا منعتني من قتل ذلك اللعين!؟ " كنت مباشرا
" سؤالك خاطئ، يفترض بك أن تقول ' شكرا لأنك أنقذتني من ذلك اللعين' أعتقد " ردت تارا بهدوء، فور أن رمقتها بنظرة جاهلة تنهدَت بضعف ثم قالت
" لو لم أتدخل في تلك اللحظة لكنتَ ميتا الآن " أراحت تارا يديها على الأريكة و أضافت " حقيقة أنك نسيت أهم قدرة لرادولف فيلتش تجعلني أتساءل عن حالتك العقلية و ذاكرتك.. ذلك الرجل لا يموت بسهولة "
" ما الذي تعنينه؟ " لم أكن في حالة تسمح لي بالتفكير لذلك أصبحت مباشرا..
" رادولف تحت تأثير لعنة من نوع الحامي.. لعنة قوية جدا، لم يصلني إسمها لكن معلوماتي تقول أن لها علاقة بالتسخير.. لقد سُجلت العديد من المحاولات لاغتياله لكن دون فائدة، دائما ما يخرج حيا بطريقة ما "
" نوع الحامي؟ "
" توجد عدة أنواع للعنات يا فالفارو، من بينها اللعنات القاتلة و اللعنات الحامية.. هذه الأخيرة هدفها هو حماية المضيف. مع ذلك، تمتلك لعنات الحماية آثارا سلبية عديدة "
" أتخبرينني أنني لا أستطيع قتله؟ أهذا ما تريدين الوصول إليه؟ "
" ليس تماما، أخبرك لتضع اللعنة في عين الإعتبار.. أنا لست ضد قتله. مع ذلك، فلتعرني أذنيك لبعض الوقت "
دب الصمت لثانية، أخذ كل منا نفسا عميقا لتسترسل تارا
" أجبني أولا، ما الذي تنوي عليه يا فالفارو؟ مارثا قد ماتت، لكنك لا تزال تملك جيلا.. عائلة فيلتش قد تسعى لقتلك أيضا كما تعلم، لقد قتلت إبن البارون بالدوين و إبن أخ رادولف، إسحاق فيلتش.. "
متجاهلا الجملة الأخيرة، سألت بنوع من الإهتياج " جيلا.. أين هي جيلا؟ "
" جيلا في منزلك.. لا تقلق، إنها برفقة صديقتها ماونا. أخبرتها أن تتكفل بها جيدا " أجابت تارا بهدوء، بذلك أعادت السؤال
" إذن، أخبرني، أَدافعك الحالي هو الإنتقام؟ إن كان كذلك فأنت ستسرع عملية موتك فحسب. إن لم يكن كذلك فأنصحك أن تأخذ جيلا و تغادر بييك.. إذهب إلى مكان لن يجدك فيه أحد و عش بقية حياتك بسلام "
بعد سماع كلماتها، بقيت صامتا للحظات، أدركت كم كنت متسرعا و فكرت في الأمر. بعد خمس ثوان تنهدت بيأس و نطقت
" لا أعرف حقا.. كل ما أريده هو رؤية مارثا و جيلا"
ثم، تذكرت شيئا كدت أغفل عنه..
" سأوصل خبر وفاة مارثا إلى غيلاد أيضا " همستها بصوت شبه مسموع.
غيلاد الذي كان حاليا في مدينة لانيس الموجودة في مقاطعة ' أوست أوفرلايت' له الحق أيضا بسماع الخبر. لسوء الحظ، فهو لم ير أمه لمدة تقارب السبعة أشهر..
' سيكون الخبر مدمرا بالنسبة له..' لم أستطع سوى التنهد بشفقة
" حسنا إذن.. "
رفعت تارا نفسها من الأريكة و تقدمت إلي، قدمت راحة يدها التي أصبحت تقطر بهالة دموية بسرعة و وضعتها على صدري..
" فك! "
تحطمت السلاسل الشفافة و شعرت أن عبئا قد أزيح علي، استطعت رفع يدي لكنني بقيت هادئا، بذلك أومأت تارا لي و عادت للجلوس.
" حسنا، لدي ثلاث نقاط مهمة لإخبارك بها ثم ستستطيع العودة إلى منزلك " لم تتأخر تارا عندما واصلت
" أولا، إسمي ليس تارا، أنا أخبرك بهذا لإنشاء رابطة ثقة بيننا يا فالفارو.. " أخرجت تارا شارة دائرية ذهبية و وضعتها على الطاولة أمامي، كانت الشارة تحتوي على بضع معلومات
" إسمي ليس مهما في الوقت الحالي، ما تريد أن تعرفه هو أنني رئيسة شرطة و محققة متخفية أعمل لدى قسم الشرطة الخاص ب'بالكو' "
" أليس هذا خطيرا قليلا بالنسبة لك؟ إخباري بهذه المعلومات" إتسعت عيناي بدهشة ضعيفة
" ليس تماما، هذا من أجل النقطة الثانية.. " أفصحت تارا لتواصل دون انقطاع
" ثانيا، طائفة شوكة الروح متواطئة بطريقة أو بأخرى مع فيلتش.. و هذا التواطؤ له علاقة بالطاقة الملوثة التي لم تكن موجودة منذ وقت مضى، إنهم ينوون على أمر ليس بالجيد. "
" ماذا؟! " لم أكتم نفسي
' لكنني أعرف سايلر جيدا.. هذا الرجل لا يملك أي دوافع سيئة! إنه شخص جيد لأبعد المقاييس"
" و لما تخبرينني بهذا؟ " سألت بفضول
" حسنا، حسب معلوماتي، فأنت صديق قديم لسايلر.. لذلك، أريدك أن تساعدني في التحقيق داخل الطائفة. إذا كنت موافقا طبعا "
فكرت للحظة ثم أجبت " أليس هذا مبالغا فيه؟ ألا يوجد في قسم الشرطة من هو أفضل مني؟ "
أومأت تارا بالرفض و شرحت " أنت لا تفهم، خطوات الشرطة مكشوفة، خصوصا تحت عيون عائلة مثل فيلتش.. نحن بحاجة إلى عضو خارجي مساعد، شخص له القدرة على التحرك في الظل، و أنت الخيار الأمثل "
أخذت ثانيتين لتدوير الأمر في راسي، مع ذلك نطقت " لا أعرف، سأفكر في الأمر أكثر قليلا "
" بالطبع، فلتأخذ وقتك.. " فقط عندما بدت تارا أنها ستصمت، أضافت
" ثالثا، بشأن لعنة 'قرين نييلا' .. فالفارو، يؤسفني أن أخبرك أن تجسيد الروح قد أبى التلاشي حتى تحت ضغطي. لا أعرف ماذا بها لكنها متعلقة بك بشدة، لذلك عندي لك خياران.. أولهما أن تستمر في محاولة كسب استحسانها حتى تختفي بنفسها. و ثانيهما أن توظف ساحرا مستحضر أرواح رفيع المستوى من أجل طرد اللعنة.. طبعا، سيكلفك هذا الكثير، ربما 15 روبل على الأقل "
" 15 روبل؟! " هذا كثير حقا!
لفهم المبلغ بشكل جيد، المواطن العادي بوظيفة عادية، لنقل معلم في مدرسة بييك، له راتب أسبوعي يقدر ب 2 روبل و 3 ليرو بزيادة أو نقصان، أما قائد حرس الغابات فله راتب أسبوعي يقدر ب 3 روبل. كما أن مبلغ 15 روبل هو مبلغ كاف لكراء منزل بسيط لمدة شهر.
" لا تلمني، سحر استحضار الأرواح هو سحر ذو رتبة مرتفعة.. ليس من الغريب غلاء أسعار خدماتهم "
" سأراهن على الخيار الأول "
أومأت تارا برضا ليعم الصمت الغرفة، ثانية واحدة قبل أن تفتح فمها من جديد
" أوه كدت أن أنسى! "
نهضت من مكانها و هرعت مغادرة الغرفة مباشرة لتعود بعد خمس ثوان.. وضعت شيئا مألوفا على الطاولة و جلست مجددا
" إنه.. ! " إتسعت عيناي و حملته
' مسدس ريفولفر! المسدس الذي حاولت مارثا قتل رادولف به! '
" أظن أنك قد تعرفت عليه؟ لم أر شيئا مثله من قبل" صرحت تارا من الجانب لكنني تجاهلتها
ألقيت نظرة على المقبض مباشرة بينما شعرت بصداع خفيف.. ذلك عندما قرأت ما كان مكتوبا.
" زيرزيس.. ؟ "
( زيرزيس تكتب Xerxes )
' لكن.. أنا لا أتذكر أن الإسم المكتوب كان زيرزيس '
فركت رأسي بلطف محاولا تذكر الإسم الذي كان على المقبض.. سرعانما تذكرته
' أبيكس! '
( أبيكس تكتب Apex )
فجأة.. أصابني صداع عنيف، و كأنما تم طرق رأسي بمطرقة، حاولت مجاراة الألم دون القيام برد فعل عندما ضغطت على صدغي بعنف.
" زيرزيس.. " تمتمت بلطف
هل أعرفه؟ بالطبع أعرفه! لكن أين و كيف؟ و لماذا أعرفه؟
' أيضا، كيف تغير الإسم من أبيكس إلى زيرزيس؟ المسدس هو نفسه و لا مجال للشك.. '
واصلت تفقد المسدس مع التفكير بالأمر، لكنني لم أخرج بشيء لذلك قررت ترك الأمر لوقت لاحق.. وضعت المسدس الفارغ داخل سترتي و نظرت إلى تارا، هذه الأخيرة كانت بانتظاري عندما تحدثت
" أيضا فالفارو، جثة مارثا بانتظارك لدفنها.. لا تنسى ذلك "
" حسنا "
لم نتحدث أكثر من ذلك، ودعت تارا و خرجت من منزلها.. لقد كنت محطما جسديا و معنويا، لكنني اعتزمت الذهاب لمواساة ابنتي.