' لقد واجهت العالم من جديد، العالم الذي سلبني أغلى ما أملك.. '

لم آخذ خطوة واحدة بعد. كنت واقفا بجانب باب منزل السيدة تارا، محاولا تنظيم فوضى الأفكار بعقلي. المشاعر و الأحاسيس، لعب كل منها على وتر ضعيف، فتارة يغمرني الحزن الشديد أكاد أذرف دمعة به و تارة تنتابني رغبة في القتل، فكرة تدعو للإمتنان و الرضا بما لدي و أخرى تسأل الإنتقام..

في لحظة، صور لي عقلي تلك الصورة المشؤومة، صورة يدي الملطختين بدماء مارثا المقسومة إلى نصفين، و كأن الزمن تكرر أمامي.

تجاوز قلبي نبضة..

رفعت رأسي إلى السماء، حدقت في الشمس للحظات، ثم نظرت نحو الأفق، أغلقت عيني و ملأت صدري بنفخة كبيرة من الهواء لأدفعها ببطء..

تنهد

' هل أصبت باضطراب ما بعد الصدمة؟ ' فكرت في نفسي

' مهلا.. ما كان هذا مجددا؟ من أين أتت هذه الفكرة؟'

لم أستطع تفسير المصطلح الذي انفجر داخل رأسي من العدم، ptsd، لقد كان غريبا، دخيلا و عشوائيا، شعرت به أنني نسيت شيئا كنت أفقهه منذ مدة ليست بالطويلة.

زفرت بهدوء، لقد أضحى قلبي خاويا..

" أظن أن تارا معها حق.. حالتي العقلية ليست على ما يرام، سأقوم بزيارة طبيب في أقرب وقت " أومأت في ذاتي..

بعد دقيقة صمت طويلة، قدمت أولى خطواتي، متوقفا عن تضييع أي وقت إضافي، توجهت نحو المنزل.

' لا شك أن جيلا بانتظاري، تلك الفتاة المسكينة، لا بد أنها تمر بأسوء يوم في حياتها.. كيف لي أن أواسيها؟ هل مجرد عناق و بضع كلمات حلوة كفيلة بجعل حالتها أفضل؟ '

لم أعرف حقا ما يجب علي فعله، كرجل عاش في زمن حرب، كرجل لم يجد الحضن الذي يقدم له الحنان في وقت الشدة.. أنا الذي حصدت يداه بالفعل مئات الأرواح. كيف لي أن أعطي شيئا لا أملكه؟

بعد التفكير بالأمر، هل كنت أبا جيدا حتى؟ لقد أحببت عائلتي، مارثا، غيلاد و جيلا. لكن، هل قدمت لهم الحنان الذي يستحقونه؟

لقد قدمت الكثير، حتى أنا لا أنكر هذا. لكن الحنان لم يكن واحدا من الكثير.. مارثا كانت الوحيدة التي ملأت العائلة بالحنان، ليس أنا!

' لقد أدركت هذا للتو، هل كنت معميا بالحب؟ ألست متأخرا كثيرا؟'

اكتنف قلبي شعور فوري بالذنب. الآن بعد موت مارثا، لم يتبق لي سوى سداد هذا الدين الوهمي.. دين غياب الأم.

تنهد

تنهدت من جديد، كان مجرد التفكير فحسب ثقيلا علي، مثل عبء عظيم. لم أعد أشعر أنني ذلك الرجل القوي الذي لا يقهر بعد الآن.

لقد أصبحت مثيرا للشفقة حقا!

" إستجمع شتات نفسك فالفارو! " صحت بصوت مكتوم، طردت جميع الأفكار السلبية و صنعت وجها حازما..

' أنا الأب! و لا يفترض للأب إظهار الضعف! '

بهذه الأفكار فقط واصلت طريقي نحو المنزل.

.....

وضعت قدمي عند الباب أخيرا، بعد طريق طويل لم يكد يصل إلى نهاية، أو هذا ما بدى لي عندما أصبح الناس يرمقونني بنظرات غريبة، حادة و غير مألوفة أبدا. و كأنني ارتكبت جريمة؟!

كان الوضع طبيعيا بالنسبة لهم بشكل مقزز! ' لماذا أنتم على هذه الحال؟ ألا تعلمون أن مارثا قد ماتت؟! لماذا لا يستأنسني أحدكم؟ أو على الأقل.. أبدوا بعض الحزن على وجوهكم تلك! ' كدت أصيح بهذه الأفكار في عدة لحظات.

لا أعلم.. ربما الأمر عادي في النهاية و أنا الذي أضخم الأمور؟ أيجب علي أن أعتذر كوني متأثرا بشدة؟ حسنا.. إعذروني فأنا لم أشعر بحزن كهذا من قبل.. و لا أعتقد أنني سأتجاوز الحادثة في أي وقت قريب!

" فالفارو.. إهدأ فحسب " أغمضت عيني و أخذت نفسا أخيرا، بهذه الكلمات دفعت الباب مفتوحا.

سبقتني أشعة شمس العشية منيرة فصا من الداخل، كان المنزل مظلما قليلا، على غير العادة، أضفى جوا كئيبا، فتجاوزت عتبة الباب.

' هممم؟ '

كان الجو حارا لسبب ما، على عكس الخارج، و كأنما تم إشعال موقد و تركه لمدة طويلة.

أغلقت الباب خلفي و تقدمت، أزلت الستائر ليستضيف المنزل شحنة ذهبية من الأشعة أضاءت غرفة المعيشة..

فحصت عيناي المحيط من حولي على أمل إيجاد واحدة من الفتاتين. مضيت إلى المطبخ، هناك، رأيت ماونا متكئة على أحد كراسي طاولة الغداء، مغمضة العينين، وحدها، و أيضا..

" حروق؟ " إتسعت عيناي بضعف

أشعلت المصباح الزيتي الذي نشر نوره الأثيري الخافت حول المطبخ، تقدمت نحو ماونا و قرفصت أمامها، تفقدت نبضها أولا لأتأكد من حالتها.

" كيف حدث هذا؟ " رفعت ساعدها لأتفقده بتمعن

كان جلد ماونا مثخنا بحروق حمراء و سوداء مختلفة الأحجام، على ساعديها و يديها، النصف الأيمن من وجهها، بعض من شعرها و أيضا ملابسها..

' يا إلهي! '

' هل قام شخص ما باقتحام المنزل و الإعتداء عليها؟ ' عبرت هذه الفكرة عقلي، قبل أن تتبعها فكرة أخرى ' ماذا عن جيلا؟! أين هي؟ '

كنت على وشك الوقوف و الإسراع لتفقد غرفة جيلا لكن استجابة لسؤالي الداخلي، فتحت ماونا عينيها..

" أوه.. سيد فالفارو "

استقمت و تراجعت خطوة للوراء، بذلك سألت بشكل مباشر

" ما الذي حدث؟ "

ماونا، التي باشرت بدلك حروق ساعديها و وجهها، نظرت إلي بألم و قالت

" كان رد فعلها قويا، لا أعلم حقا.. لقد اشتعلت "

" من؟ " رغم أنني كنت أعرف الإجابة، لكنني كذبت نفسي بقوة!

" جيلا.. " رددت ماونا هامسة بضعف

' اشتعلت؟ ' اتسعت عيناي و فُتح فمي في إنكار، شعرت بقلبي يسقط في هاوية، تجمدت في مكاني لبضع ثوان قبل أن تضيف ماونا

" إنها في غرفتها منذ الصباح.. لم ترغب بالتحدث معي "

إستعدت رشدي فورا و اندفعت إلى الدرج..

' جيلا! ' قلبي كان معلقا بخيط رفيع

توقفت عند باب غرفتها للحظة ثم فتحته، بذلك دخلت..

" ... " عجز فمي عن إبداء شيء عندما نظرت بالداخل..

كانت الغرفة سوداء!

كان كل شيء متفحما تقريبا، من الجدران إلى الأثاث، أصبح السرير الصغير مثل بقعة سوداء من الجحيم بينما كانت جيلا نائمة عليه.

رميت يدي نحو المصباح الزيتي لكنني لم أجده، عوضا عن ذلك، كانت هناك بقعة سوداء ضخمة حيث كان..

' هذه ليست قوة فتاة في التاسعة من العمر! ' لم أستطع سوى الإعراب عن دهشتي التي لم تخمد.

تقدمت تحت ضوء النافذة الضعيف و جلست بجانب جيلا، لم تبدو على جسدها أي حروق عكس ماونا. مع ذلك، فملابسها كانت محترقة بالكامل. تأملت وجهها الذي حمل بضع مسارات مائية جافة على وجنتيها. مرست شعرها الأسود الطويل بلطف، ذلك عندما لاحظت وجود بضع خصلات حمراء..

" أيعقل؟ " تمتمت تحت أنفي

في بعض الأحيان، تطرأ على السحرة تغيرات في أجسادهم لتلائم توجههم السحري. لطالما كان سحرة التحول و المتلاعبون بالعناصر هم الفئة الأكبر من هذه الناحية، عندما يصلون إلى مستوى مرتفع من الإتقان تبدأ ألوان شعرهم بالتغير كحالة بدائية. على سبيل المثال، يتحول شعر المتلاعبين بعنصر النار إلى اللون الأحمر و عنصر الماء إلى أبيض مزرق شبه شفاف.

' لكن جيلا لا تزال في التاسعة، عمر صغير جدا على بدء ظهور التحول! كما أنها بعيدة كل البعد عن مستوى إتقان عال.. كيف حدث هذا؟ '

" أبي.. " تردد صوت ضعيف مغمور، على غفلة.

" نعم عزيزتي.. " واصلت مرس شعرها بينما نطقَت بضعف، لم تتحرك من مكانها إنشا و لم تفتح عينيها.

" هل حقا.. " كان صوتها مسموعا تقريبا، بعث عبري شعورا حزينا

بقيتُ صامتا لثوان و لم أجب، فتحت فمي عدة مرات و أغلقته خشية جرحها أكثر.. لكنني وجدت كلمة في النهاية

" أمك لم تغادرنا يا عزيزتي، أصبحت تعيش في قلوبنا، و تراقبنا من مكان جميل.. مبتسمة كما كانت كل يوم، تأمل الأفضل لك و لي، و لغيلاد أيضا.. لذلك، سنبقيها سعيدة على الدوام بسعادتنا، و نجعلها فخورة بكونها أُما لابنة رائعة! "

تلى ذلك صمت طفيف، بعد بضع لحظات رفعت جيلا جذعها أخيرا، حدقت في عيني و حدقت في عينيها المتألمتين قبل أن أعطيها عناقا طويلا، غمرت رأسها على كتفي و التزمت هدوءا مخيفا. هدوء شعرت من خلاله أنني أقدم لها شيئا من الحنان على الأقل.

بعد صمت طويل دام أكثر من دقيقة..

" أبي.. " كان صوتها مغمورا تحت كتفي.

" نعم عزيزتي.. "

" متى سيعود غيلاد؟ اشتقت له.. لقد أطال هذه المرة " أبدت عن أنين متثاقل.

كان قلبها خاويا هي الأخرى، شعرت بمعاناتها في إخراج كلمات بسيطة لذلك أبقيت عليها في حضني و أجبت بهدوء

" قريبا يا جيلا.. قريبا "

إخبارها بالمدة الحقيقية لم يكن ليساعد في شيء، خصوصا في حالتها هذه.

" إتصل به.. اسأله " أصرت جيلا بضعف

' أتصل به؟ مهلا.. '

لقد كانت هنالك طريقة للإتصال! كيف نسيت ذلك؟!

نعم.. سحر التواصل، أحد أكثر أنواع السحر تقنية و تقييدا. في الحالات العادية يسمح لمستخدميه بالتواصل مع أشخاص آخرين ببساطة، كلما ارتفعت درجة السحر كلما زادت المساحة التي يمكن التواصل فيها، مع ذلك، فقد استطاع البشر التلاعب بهذا السحر بعدة طرق، كأن يضعوا مستقبلات خاصة في أماكن معينة تسمح بالتواصل من مسافات بعيدة جدا دون الحاجة إلى درجة عالية جدا من السحر.

مع تذكري لهذا، تذكرت أيضا وجود غرفة تواصل تقع على أعتاب المخرج الجنوبي لبييك. أيضا، لقد ترك غيلاد العام الماضي تذكرة سحرية خاصة بالتواصل السريع. في الحالة العادية قد تستغرق عملية الإتصال عدة ساعات أو قد لا تنجح حتى، لكن بوجود تذكرة سحرية فستسمح هذه الأخيرة بالتقاط اتصال شبه مباشر.

" سأفعل.. "

لم تقل جيلا شيئا بعد ذلك، استمر عناقنا لفترة طويلة شعرت بها في لحظة أنها قد عادت للنوم. وضعتها على السرير من جديد و خرجت من الغرفة.

دخلت غرفة النوم ليصدم أنفي بعطر مارثا الخاص، نظرت في السرير بعبوس و تخيلتها نائمة هناك، لم أطل النظر و توجهت إلى الخزانة.

فتحتها، ثم أخرجت مسدس الريفولفر من تحت سترتي و وضعته بالداخل، ألقيت عليه نظرة خاطفة أخيرة ثم أغلقت الخزانة.

بعثت الشمس خلف النافذة بلون ناري أشاد بتوديعها لهذا اليوم، جلست على السرير و عيناي في الخارج..

" هففف " نفخت خدي بانزعاج، لقد علمت طبيعيا أن النوم سيكون مستحيلا هذه الليلة.

تجاهلت قرقرة بطني و رفعت جسدي من السرير، كل ما سأفعله هو مجرد التفكير اللانهائي لو بقيت مضطجعا، لذلك، كان علي التنفيس عن نفسي قليلا..

خرجت من الغرفة، نزلت الدرج لأجد ماونا نائمة على الكرسي حيث تركتها. حملتها و وضعتها على السرير، لقد كانت هي الأخرى بحاجة إلى راحة بعد الذي حدث لها.

دخلت عند جيلا و أخرجتها من الغرفة المشؤومة لأضعها بجانب صديقتها ماونا، مع فعلي لذلك، أغلقت الستارة و توجهت إلى الخارج..

لقد غادرت المنزل..

......

مع تجاوز قدم فالفارو باب المنزل، خطى بضع خطوات ثم استدار و ألقى نظرة أخيرة على نافذة غرفة النوم، تنهد بضعف ثم واصل في طريقه..

بالعودة إلى غرفة النوم، كانت كل من ماونا و جيلا نائمتين على سرير واحد، ما عدى أن واحدة منهما لم تكن نائمة في الحقيقة..

" آه!" تأوهت جيلا عدة مرات بضعف، انقلبت على السرير مرارا قبل أن ينتصب جذعها في النهاية.

أخذت نظرة بسيطة حيث كانت ماونا نائمة ثم استدارت ناحية الخزانة، لقد شعرت بشيء غريب يجذبها إلى هناك.. شيء منعها من النوم

كما لو أن الخزانة تهمس لها، تناديها. استقامت جيلا و قد لمعت عيناها، تقدمت بهدوء و مع كل خطوة، شعرت أن الهمسات تزداد.

لم تكن الهمسات مفهومة أبدا، لكنها كانت تصدر من داخل الخزانة، أرادت منها فتحها فرمت جيلا بيدها.. لقد شعرت بوجود شيء مهيب، إعجازي!

توهجت عينا جيلا بوهج أحمر دموي عندما رأت ذلك الشيء، مسدس الريفولفر جالس فوق كومة من ملابس فالفارو..

انعكس البريق الخافت للحديد على عينيها بينما رمت يدها ببطء ترقبا و خيفة..

تقدمت يدها فما كادت تلامس المعدن حتى بلغ الهمس أشده، سمعت من خلاله.

" زيرزيس.. زيرزيس.. زيرزيس " ترددت هذه الكلمات بأصوات ذات مصادر مختلفة.

لمس

بعد لمسها للمسدس، و في لحظة واحدة، عبر جسد جيلا برد قارص، شعرت بكل خلية من جسدها تتخدر لثانية قبل أن يعود الشعور بنار حارقة.. لم تفهم جيلا ما حدث و تراجعت خطوة للوراء.

في اللحظة التي تليها، أصابها صداع خفيف جعلها تمسك رأسها قليلا، ثم عاد كل شيء لحالته الطبيعية. لم تتردد جيلا في حمل المسدس هذه المرة قبل أن توجه فوهته نحو النائمة هناك، ماونا..

" هههه " ارتفعت زوايا فم جيلا بشكل خبيث قبل أن تتسرب ضحكة خافتة، ناضجة من بين شفتيها، و كأنها اكتسبت علما خارقا أنارها من الجهل..

لعبت جيلا بالمسدس لبضع ثوان قبل أن تعيده لمكانه، بذلك تمتمت بهدوء

" لقد فهمتك.. ***** "

2024/08/20 · 60 مشاهدة · 1901 كلمة
Lst Mbryo
نادي الروايات - 2024