' همم.. همم '
بين همهمة و أنين، تخبطت تلك الفتاة الصغيرة، منكمشة على جسدها في ألم، مكافِحة لإبقاء عينيها مغلقتين محاوِلة كسب بعض الراحة بين المعاناة.
كانت سماء ما بعد الغروب قد أطلت بقمرها أخيرا كاشفة مزيج ألوان باردا، تخللت بنور كالشريط الأبيض فوق عيني ماونا التي استسلمت للإستيقاظ كرها.
انتشر ألم الحروق فورا كدليل على الحياة ما جلعها تحك جسدها بنوع من القسوة. مع ذلك، فلحسن حظها أن بقايا هالة مارثا العلاجية قد تكفلت بأغلب العمل مقدمة لها جرعة شفائية جيدة.
' هاه؟ '
كشفت عينا ماونا ظلا لجسد بشري على باب الغرفة، ظلا تعرفت على مالكه، فأقامت جذعها و نظرت ناحية النافذة فورا.
هناك، كانت الفتاة الأخرى واقفة، متكئة تنظر من خلال النافذة، سترت نفسها بجبة زرقاء كبيرة ذات ورود و شعرها الأسود الطويل، المكسو ببعض من الأحمر، متدل خلف ظهرها..
" جيلا..؟ " همست ماونا في ذاتها
" مساء الخير، ماونا " كان صوت جيلا قويا، طفوليا، مع ذلك، فقد بدى رزينا بشكل غير مألوف..
" جي.. " تجاوز قلب ماونا نبضة عندما انعكس بريق أحمر مخيف على عيني جيلا التي استدارت أخيرا.. كاشفة وجها لم تعهده صديقتها منها.
و كأنما توقفت تروس عقلها عن العمل لثانية، استرجعت ماونا رشدها و حبَت على السرير نحو الخلف.
" لا تخافي مني، ماونا.. هذه أنا، جيلا " كشفت جيلا عن ابتسامة صغيرة لطيفة، لكنها لم تساعد على التخفيف من دهشة ماونا.
" جيلا، ما الذي حدث لك " تداعى صوت ماونا بخوف، وضعت قدميها على الأرضية و استمرت بالتراجع حتى لمس ظهرها الباب. من الجهة الأخرى، تقدمت جيلا بخطوات صغيرة.
تبادل الثنائي نظرات فاحصة، إحداهما خائفة مترقبة، و الأخرى هادئة مبتسمة.
" ماونا، أنا لن أؤذيك، صدقيني" رفعت جيلا يدها بجانب صدرها قبل أن تنبعث منها هالة قرمزية جميلة.
فووو!
تحولت الهالة في ظرف لحظة إلى نار متقدة، أضاءت وجه جيلا بشكل خاص بينما لمعت ببريق عبر عينيها الدمويتين.
" أنظري، لقد أصبحتُ قادرة على تسخير الهالة باحترافية، أليس هذا رائعا؟ " ارتفعت زوايا فم جيلا أكثر..
" ن-نعم، ر-رائع جدا " انكسر صوت ماونا التي حاولت مجاراة صديقتها بابتسامة زائفة، كان جسدها ملتصقا على الباب عندما وصلت جيلا أخيرا، قربت هذه الأخيرة وجهها حتى أصبح بينهما شبر واحد قبل أن تعلن بهدوء.
" أنا بحاجة إليك، ماونا "
" م-ماذا؟ "
لم تقل جيلا شيئا، بقيت صامتة لخمس ثوان كاملة تحدق في صديقتها، ثم بشكل مفاجئ استدارت و هرعت نحو السرير لتجلس عليه. تنفست ماونا الصعداء بعد أن كاد قلبها يتوقف لتنطق جيلا.
" تعالي و اجلسي.. لدينا حديث طويل لنقوم به "
........
" مغلق.. "
إستمر تحديقي في اللافتة القماشية لمدة طويلة، بجانبها استقر باب خشبي مزدوج، عريض، ثقيل و موصد.
' لسوء الحظ، لقد فشلت خطة التنفيس عن النفس.. ' تنهدت بخيبة أمل
كنت واقفا حاليا عند مبنى واسع ذو طابق واحد، تضمن المبنى عدة دعامات خشبية جمالية تدلت عليها رايات حمراء رمزت إلى القتال، كانت هذه هي قاعة المبارزة التابعة لمدرسة بييك. مع ذلك، فهي لم تكن مخصصة للطلاب فحسب و إنما انقسمت غرفها لتستقبل عدة فئات عمرية.
لكنها كانت مغلقة..
' لقد توقعت ذلك سلفا.. الوقت متأخر بالفعل '
ألقيت نظرة أخيرة على المكان، بذلك، استدرت و أخذت بأقدامي إلى وجهة أخرى. لكنها لم تكن خمس خطوات عندما..
صرير
توقفت في مكاني عندما سمعت الصوت الثقيل للباب الخشبي و هو يفتح. استدرت، هناك خلف الباب وقف رجل بدى في أواخر ستيناته، بشعر و حواجب بيضاء كثيفة فوق عيون أبانت على حكمة، مع لحية خفيفة أيضا، ارتدى سترة سوداء قماشية عريضة. تعرفت عليه على الفور.
' هانز.. '
" فالفارو.. " أشار لي بالدخول.
.......
كان الجو دافئا في الداخل، مضاءا بلهب الشموع المنخفض و الأثيري، باعثا شعورا بالسكينة و الهدوء. كنت جالسا على كرسي وسط غرفة كبيرة، محدقا في هانز الذي كان يُعد بودرة بيضاء غريبة في إناء.
لم ينطق أي منا شيئا منذ دخلت، لقد شعرت أن هانز قد قرأني بطريقة ما، بتعبيره الجدي ذاك، مسح يديه بالبودرة ثم حمل سيفين خشبيين من سلة السيوف. قدم إلي البودرة أولا ثم السيف.
مع تحضيري لنفسي، تراجع هانز بضع خطوات ثم اتخذ وضعية قتالية، بذلك نطق.
" تذكر فالفارو، عقلك هو أرض الحرب الحقيقية، إجعل نفسك قائدها لا أحد جنودها.. " فور ختامه، اندفع بسيفه مباشرة مثل رمح.
تاك!
" و ليكن سيفك هو لسانك في المعركة! "
تاك! تاك! تاك!
تبادلنا تلويحات سريعة..
كان هانز رشيقا عكس ما يوحي عمره، تحركاته الخفيفة سقت مفاصلي المتيبسة جاعلا مني أجاريه دون أن أشعر..
أخذَت خطواتنا تجوب الحلبة بالكامل، بين هجوم و صد، اندفاع و تحاشي. شعرت بالطاقة تملأ جسدي أخيرا، تلك النفحة من الصفاء العقلي بعد دهر من الغم و الحزن..
شددت على سيفي و أغلقت نظري على هانز، بذلك اندفعت من جديد..
تاك!
تاك! تاك!
استمر قتالنا طويلا، لم أر أي ملامح للإرهاق على خصمي، كذلك أنا الذي شعرت و كأنني ولدت من جديد..
و كأنني طفل في ساحة لعب..
" هانز.. علي أن أشكرك " رفعت ابتسامة بينما قابلني بوجه جاد..
في لحظة واحدة، أخذ هانز دورة على نفسه منخفضا إلى الأسفل، بذلك دخل سيفه منطقة خصري سامحا له بإعطائي ضربة قوية، ضربة جعلتني أترنح خطوة إلى الجانب.
" لقد أرخيت دفاعك.. " إستقام بينما أجاب..
" هههه لقد فعلت بالتأكيد " لم يسعني سوى إخراج ضحكة خفيفة..
عقد هانز على قدميه و جلس واضعا سيفه أمامه، تقدمت و فعلت بالمثل..
" تعازي على موت مارثا " أفصح هانز بصوت أجش
" أنت تعرف؟ " اتسعت عيناي بخفة، لم أتوقع أن يكون شخص مثل هانز على علم بالأمر. لقد كنت أنوي إخباره للتو.
" فالفارو، حتى و إن لم أكن أعرف، فإن وجهك عندما دخلت إلى هنا كان مقروءا مثل كتاب.. "
' أكنت كذلك حقا؟! '
ضربني هانز بلكمة خفيفة على صدري و أضاف " لقد أصبح قلبك لينا، و إن كان هذا بالأمر الجيد فإن عليك صيانة مشاعرك بعقلك أيضا " ثم نقر بسبابته على صدغه عدة مرات.
" هذه هي الحياة و هذا هو القدر يا فالفارو، لا يمكنك تغيير الماضي، بل عليك مجاراة الحاضر.. بذلك ستصل إلى الإمتنان الحقيقي "
" مجاراة الحاضر.. " تمتمت بهدوء..
لطالما كانت كلمات هانز تقطر حكمة، قدرته على الإقناع و تغيير الأفكار كانت مميزة. استمر حديثنا لمدة لا أستطيع تحديدها، فاقدا الإحساس بالوقت بالداخل..
مع نهاية حديثنا، شعرت و كأنني شخص آخر تماما.
' لربما كان مدربا روحيا في ما مضى.. ' فكرت في نفسي قبل أن أودعه..
لقد صنع في وجهي ابتسامة صغيرة من جديد.. حتى و إن لم أكن قد تعافيت بالكامل من الحادثة، و هذا أمر شبه مستحيل، فإن هانز قد خفف عني الكثير حقا!
شعرت ببعض النقاء في عقلي أخيرا، توضحت أفكاري بعد أن كانت عبارة عن رثاء لمارثا و فقدان رغبة للحياة..
[ لقد ارتفعت نسبة التلاؤم من 95% إلى 96% ]
' هاه؟ '
' ارتفعت نسبة التلاؤم؟ '
من العدم، ظهر مربع شفاف كتبت عليه هذه الجملة. بذلك، سقط علي صداع خفيف جعلني أمسك رأسي لبضع ثوان. مع زوال الصداع شعرت بوجود شيء خاطئ، كنت سألقي نظرة أخرى على المربع لكنه..
' اختفى؟ '
' هل أصبحت أهلوس يا ترى؟ '
تجاهلت ما حدث و تابعت السير، ففي النهاية لم تكن هنالك أي طريقة للتحقيق..
كان الليل قد أطبق على السماء، و الغيوم حالت بين القمر و ضوئه فما كان لي سوى نور خافت أمشي به بين شوارع بييك..
' صباح الغد، سأذهب مباشرة للإتصال بغيلاد و إخباره. بعد ذلك، سأحمل جثة مارثا و أدفنها، ليكون ذلك وداعها الأخير.. ' أومأت لذاتي بضعف.
أما الآن، فلا حاجة لي للنوم حقا..
كانت خطواتي تأخذني إلى حديقة بييك، حيث جلست مع مارثا البارحة و تحدثنا عن الكثير من الأمور.
جلست في ذات المكان الذي جلسنا فيه سويا، تذكرت كل كلمة قالتها و كل سؤال طرحَته، كل ابتسامة ابتسمتها و كل ضحكة ضحكتها.. فابتسمت
" لا يمكنك تغيير الماضي، بل عليك مجاراة الحاضر.."
' بذلك ستصل إلى الإمتنان الحقيقي.. ' كررت في نفسي..
لقد عاد لقاء هانز بفائدة كبيرة علي، أظن أنه كان طبيبي في النهاية..
خرجت من الحديقة بعد وقت ليس بالقصير منذ دخولي، أخذت نفس خطواتي معها البارحة، توجهت إلى نفس الأماكن التي قضينا فيها يومنا و شعرت بنفس الشعور الجميل، و كأنها كانت معي حقا. لم أكن حزينا.. بل ممتنا!
[ لقد ارتفعت نسبة التلاؤم من 96% إلى 97% ]
" ... "
' مجددا؟ '
لم يلبث ذلك المربع أكثر من خمس ثوان قبل أن يختفي من جديد..
......
دون أن أشعر، كنت قد أخذت لفة كاملة على بييك تقريبا، بذلك.. أوصلتني أقدامي أخيرا إلى المنزل.
أطل نور الفجر على الباب فور وقوفي عنده، دفعته مفتوحا و دخلت. كان كل شيء كما تركته، تفقدت جيلا و ماونا لأجدهما لا تزالان نائمتين على سريري.
لم أزعجهما و فتحت الخزانة، كان ذلك لإلقاء نظرة على المسدس. بعد ذلك قرفصت عند الدرج السفلي، فتحته لأجد بضع أوراق مكدسة على بعضها البعض.
كان هنالك بضعة كتب بين الأوراق. مع ذلك، فقد جئت لشيئين اثنين..
' التذكرة السحرية و المال '
استطعت استشعار هالة ضئيلة من إحدى الأوراق، حملتها، كان ورقها ذو بنية خشنة، تزينت ببضع خطوط و زخارف فضية.. كانت تلك هي التذكرة.
بعد أخذها و بضع روبلات، أغلقت الدرج و غادرت المنزل من جديد..
.....
مع وصولي لغرفة التواصل القابعة جنوبي بييك، كانت الشمس قد بعثت بريقها الأول أخيرا سامحة لحياة البشر بالإنطلاق من جديد..
[ اليوم السادس بدأ! ]
' اليوم السادس؟ أتذكر أنني رأيت شيئا كهذا من قبل.. '
اختفى المربع الشفاف من تلقاء نفسه مرة أخرى تاركا عقلي في حيرة.
' لا بد أن أحقق في الأمر بطريقة ما.. '
تركت الأمر و تجاوزت باب غرفة التواصل، كان المكان صغيرا حقا. بالداخل، تواجدت منضدة خشبية، أنيقة نوعا ما، و ثلاث كراس، كل كرسي كان مقابلا لشباك من الشبابيك الثلاث. مع ذلك، فقد كان هنالك شباك واحد يحتوي على عامل خلفه.
تقدمت إلى العامل، و الذي كان نائما على ما يبدو، و طرقت على المنضدة بضع مرات.
" أ-أوه آسف! " استيقظ العامل و كأنه رأى شبحا، نظر فيَ لبضع ثوان ثم رد " بماذا أخدمك سيدي؟ "
أخرجت التذكرة السحرية و وضعتها أمامه، بذلك قلت " لدي إبن يدرس في أكاديمية لانيس، أريد أن أتصل به "
ألقى العامل نظرة على التذكرة ثم حملها. بفعله لذلك، تدفقت هالة صفراء زيتية من يديه و غلفت الورقة، اتسعت عيناه قليلا ثم أجاب.
" ليس هنالك مشكلة حقا. بهذه التذكرة، لن يتجاوز سعر الإتصال روبل واحد.. حسنا، الأمر يعتمد حقا على طول مكالمتك. " بذلك أضاف " إجلس من فضلك "
أخذت المقعد بجانبه و انتظرت. رفع العامل عمودا حديديا صغيرا بطول نصف ذراع، بدى مثل الصولجان، ثم وضع التذكرة تحته.
' أداة سحرية.. ' كانت تلك إحدى الأدوات السحرية التي تستعمل في أغراض مختلفة، بعضها لديه قدرات خارقة.. لم أر واحدة منها منذ مدة.
" من فضلك، ناولني إسمك بالإضافة إلى إسم إبنك " تحدث العامل بينما أمسكت يداه بالصولجان، بذلك غرق هذا الأخير كليا في هالة أشبه بالزيت الأصفر.
" فالفارو أيرونكلاد.. غيلاد أيرونكلاد "
بعد سماع إسمي، تغير تعبير العامل قليلا، لقد أبدى دهشة طفيفة ثم عاد إلى حالته الطبيعية مباشرة..
لم يدم إنتظاري أكثر من دقيقة عندما نطق العامل.
" ضع يدك على التذكرة، بذلك يمكنك التحدث مع إبنك "
أومأت له، لم ألبث أن لمسَت راحة يدي التذكرة، شعرت بالهالة تتسرب بداخلي ثم نطق صوت في أعماق رأسي..
" أهلا أبي.. " صوت طفل شاب ذو نبرة سعيدة دلت على اشتياق، مع ذلك، مليئة بالتحفظ.
استطعت رؤيته أمامي، إبني الصغير ذو 13 عاما، بشعره الأسود الجميل و عيونه العسلية الكبيرة، بابتسامته الصغيرة التي لطالما بعثت بطاقة إيجابية للعائلة بأكملها.. لقد كان جوهرة المنزل.
" أهلا بني.. " لم أستطع سوى صنع ابتسامة كبيرة.
سماع صوته بعد هذه المدة و بعد الذي حدث، لقد كان مثل ثلج بارد ألقي على قلبي حقا.
' هاه، كيف أخبره؟! ' لوهلة، شعرت أنني لا أملك القدرة على إيصال رسالتي..
" كيف حال أمي و جيلا؟ ألازالت تلك الصغيرة مع أفعالها الطفولية؟ لدي الكثير لأعلمها إياه عند عودتي! "
' إنه متحمس.. ' أمسكت نفسي، لقد فقدت أفكاري عندما تخيلت ردة فعله. حاولت حشد صوت طبيعي و واصلت
" جيلا بخير، مؤخرا، أصبحت تتحكم بمسارات اللوغوس بشكل جيد.. حتى أنها قامت بإشعال اللهب لأول مرة "
" إيهيه، أليست متأخرة قليلا؟ أبي، ألا تتذكر أنني فعلت ذلك في الثامنة.. و أنا لست متحكما بالعناصر حتى! أخبرها أن معايير أكاديمية لانيس مرتفعة، إن أرادت الدخول، فعليها أن تسرع من وتيرة تعلمها قليلا و تترك اللعب! " رغم أنه بدى حريصا على أخته، إلا أن نبرته كشفته، لقد كان فخورا بها. لطالما قام بدور الإبن الأكبر على أكمل وجه.
" إنها لا تلعب كثيرا في الفترة الأخيرة، لقد أصبحت مهتمة بالسحر. حتى أنها تصدرت الدفعة آخر شهر "
" حقا؟! "
دب صمت طفيف كسره غيلاد من جديد..
" ماذا عن أمي؟ هل عادت إلى العمل في المصحة كما كانت أم أنها لا تزال مريضة؟ "
" .. "
' ماذا؟! '
توقف عقلي عن العمل و كأنما تم سده بشيء ما، التزمت الصمت مكرها، محاولا التفكير في فكرة جيدة
' مريضة؟ متى كان هذا؟ كانت تعمل في المصحة؟ثم.. كيف سأنتقل من هذا إلى خبر موتها؟ '
" أبي؟ هل هنالك خطب ما؟ " انخفضت نبرة غيلاد بشكل واضح، ما جعلني أستعيد رشدي..
" غيلاد.. " حاولت تهدئة نفسي..
" ماذا هنالك أبي. " كان مترقبا، مع مزيج واضح من الخوف.
أخذت نفسا عميقا، شعرت بقلبي يغرق في الظلام كلما فتحت فمي، زفرت في النهاية و أجبت
" أمك.. قد ماتت "
لم يسعني سوى تخيل رد فعله، بعد أن لم يكن باستطاعتي رؤيته مباشرة. لا أعلم إن كانت هذه نعمة أم نقمة.
دب صمت مخيف، انتظرت منه كلمة لكنه لم يرد بشيء..
فقط صمت..
' هااه ' أغمضت عيني و زفرت بصعوبة..
' لقد فعلتها.. لكن بأي ثمن. '
استمرت الثواني بالمرور، ثم دقيقة..
" قل شيئا.. رجاءا " تمتمت لنفسي بصوت غير مسموع، لقد شعرت بذنب عظيم، لم أستطع تحمله، كل ثانية كانت مثل جحيم.. هل قمت الفعل الصحيح؟ لا.. لا شك أنني لم أفعل!
عقدت ذراعي على المنضدة و أغرقت وجهي بداخلها.. تلك الدمعة البسيطة قد سبقتني بالفعل.
" هل تريد أن أنهي الإتصال؟ " سأل العامل بالجانب..
" لا.. إنتظر " أجبت بصوت مغمور.
انتظرت بضع ثوان أخرى، ثم أتى الفرج.
" أبي.. " لقد تغيرت نبرته بالكامل، شعرت بالألم في صوته الرزين.
" بني.. أنا آسف حقا " خرجت من تلقاء نفسها، انكسر صوتي بعنف.
" أبي.. هل تتذكر وصية أمي؟ "
' وصية؟ '
و كأنما توقف الزمن.. تغير المشهد أمامي ليعود بضع سنوات إلى الوراء.
عندما كنت جالسا على طاولة الغداء بجانب مارثا و غيلاد الذي لم يتجاوز الخمس سنوات.
كانت مارثا تحمل جيلا بين ذراعيها عندما تحدثت في موضوع لا أتذكر كيف خضنا فيه..
لكنني سمعت صوتها و كأنه الصوت الوحيد في العالم، صوت أثيري صدى عبر عقلي بكلمات.
" إنه الضريح يا فالفارو.. ذلك هو مرقدي الأخير "
" الضريح.. " كررت خلفها بصمت..
انكسر المشهد و عدت بالزمن من جديد، أجبت على غيلاد في فهم..
" نعم.. أنا أتذكره "
التزم غيلاد الصمت لثانية ثم أضاف..
" أبي.. أعلم أنك قلق بشأني الآن، رجاءا لا تفعل. اعتني بجوهرتنا الصغيرة فهي فخر أمي الحقيقي "
" سأفعل.. " أومأت بهدوء.
بعد صمت آخر أضاف غيلاد " حسنا، إنه وقت مغادرتي الآن أبي.. فلترافقك السلامة. "
" فلترافقك السلامة أنت أيضا.. بني "
إنتهت المكالمة..
[ لقد ارتفعت نسبة التلاؤم من 97% إلى 98% ]
" روبل و واحد ليرو من فضلك.. "
.......
" هااااه! " خرجت من غرفة التواصل بصرخة قوية.. مع ذلك، فهي لم تحرر قلبي الغارق.
تنهدت بضعف، ثم توجهت نحو المنزل.
لقد شعرت بعبء أزيح عن كتفي فقط ليخلفه عبء أعظم منه!
راودتني جميع أنواع الأفكار، لكن أهمها كانت الوصية بلا شك.. لقد تذكرتها في وقت حرج.
' قبر مارثا موجود بالفعل. خلف الغابة الشمالية لبييك، فوق سلسلة هضاب منخفضة، هناك يوجد ضريح صغير مخصص لسكوتس. تم دفن جميع أفراد عائلتها هناك.. '
لحسن الحظ أنني كلمت غيلاد، بهذا.. لم أكن لأندم على دفني لها في مكان غير مكانها. بهذه الفكرة استمررت بالتقدم
مع اقترابي للمنزل، لاحظت بضع فرسان في الأرجاء، كان بعضهم يرمقني بنظرات حادة، لقد كانوا يراقبونني لسبب ما..
' هؤلاء الفرسان.. ' سرعانما تعرفت عليهم..
وضعت قدمي عند الباب و دفعته مؤكدا شكوكي.
بالداخل، وقفت امرأة خلف منضدة المطبخ، أربعينية تدلى شعرها الذهبي الطويل الممسود بعناية فائقة خلف ظهرها، عيونها الفضية الكبيرة قد لمعت من بعيد بينما تزين جسدها برداء أحمر جليل، مطرز و مزخرف ذو عدة طيات من الذهب مشيدا بمكانة لابسته، كما تدلت عدسة ذات إطار مستدير وسلسلة ذهبيتين على عينها اليمنى.
سيرين فيالا، أحد الملاك الشرعيين بالإشتراك لمقاطعة كاب هايتن، سفيرة من الدم النبيل و مالكة فخورة لعدد ليس بالصغير من المدن، كما أنها مالكة هذه المدينة.. بييك!
تقدمت و أغلقت الباب خلفي..
كانت سيرين تحمل كوبا حديديا بيديها الإثنتين بينما بدت مستمتعة برائحة أيا كان ما تشربه. لم تعطني نظرة خاطفة حتى عندما نطقت.
" بعد رحلة طويلة، لا أظن أنه من اللباقة استضافتي بهذا الشكل. ألا تعتقد هذا.. فالفارو؟ "
رفعت سيرين ابتسامة مزدرية بينما رمقتني بنظرة حادة.
' سيرين.. '