" العيش هو المعاناة، البقاء على قيد الحياة هو إيجاد معنى في المعاناة "

هذا ما قاله ذلك الفيلسوف الألماني ذات مرة، و حياتي كانت مثالا رائعا له، إسقاطا مباشرا لتلك الكلمات.. حتى الآن على الأقل.

' الهواء بارد على غير العادة.. '

كان الجو مظلما، كئيبا بعض الشيئ، كانت الإضاءة الوحيدة المتاحة هي الإضاءة الصفراء الخافتة لتلك الأعمدة، تناوب اشتغال بعضها تحية للظلام أما البعض الآخر فكانت جيدة كفاية لتنير آخر خطواتي نحو المنزل.

يمكن للغريب أن يلاحظ الإبتسامة الخفيفة على وجهي، مع أن الشارع فارغ تماما، ثم كيف لا أبتسم و قد حققت اليوم واحدا من أكثر الأهداف التي سعيت لها آخر خمس سنوات...

" شهادة الماجستير.. في حوزتي " تمتمت تحت أنفي بخفوت

لقد فقدت إدراكي لثوان متناسيا صديقي بن الذي ثرثر في كل موضوع منذ خروجنا من باب الجامعة، و ها أنا ذا معه أكاد أودعه..

" تصبح على خير إيثان! "

ربت بن على ظهري موشكا على تحطيمه، لقد كان شابا ذو أذرع قوية، منفعل بشكل خاص و مرح على الدوام..

" أراك لاحقا بن "

تركني بن عند الباب، إنتظرته حتى اختفى بين طيات الظلام عندها أخذت لمحة عن منزلي، أو دعنا نقول.. منزل عائلتي.

منزل متواضع ذو طابقين بعائلة كريمة لحد ما، لم أكن أنوي التخلي عن هذا في أي وقت قريب..

أدخلت المفتاح في مكانه و فتحت الباب بهدوء خشية إيقاظ أحد، كانت الساعة منتصف الليل و لم أعهد السهر حتى هذا الوقت المتأخر في الخارج..

دخلت بخطى ثابتة خافتة، توجهت نحو الحمام مباشرة قبل أن أباشر غسل وجهي من تراكمات اليوم.. أخذت نظرة بسيطة على نفسي في المرآة..

" وسيم كعادتك.. " همست لنفسي

ألا أملك الحق لمدح هذه الروح قليلا؟ حقيقة أنني امتلكت جسدا خاليا من العيوب كانت كافية بالنسبة لي لأكون ممتنا قطعا، لكنني وهبت بوجه حسدني عليه البعض، أعين خضراء لوزية و خدود مشدودة، جعلني ذلك أبتسم كل مرة.. مع ذلك

" بيضاء؟ "

أمسكت إحدى شعراتي التي تدلت على جانب وجهي..

' هل بدأت أشيب مبكرا؟ '

لا عجب في ذلك.. لقد كانت خمس سنوات في الجامعة مثل جحيم بالنسبة لي، لا يمكنني العودة للوراء و تصور كم المعاناة الذي قاسيته للوصول إلى هذه اللحظة.

إن تحدثنا عن التميز فسيمدح البعض قدراتهم العقلية المتقدمة، و البعض الآخر ذاكرتهم الخارقة، و البعض معدلات ذكائهم المزعومة.. لقد كنت أملك كل ذلك، لكن فور صعودي للجامعة لم تعد هذه المعايير مناسبة لتصوير الفرد المتميز.

لقد كانت مثل رحلة ذات مطبات لا نهائية دامت لسنوات، لم يهم كم كنت ذكيا و كم كانت ذاكرتك مميزة، لقد تركنا ذلك لأصحاب الثانويات و ما تحتهم.. هنا ستعاني مثل الجميع، إكدح!

" هووف، لقد إنتهى الأمر.. "

زفرت آخر أنفاس الجامعة بينما مسحت وجهي بأحد المنشفات، ألقيت نظرة أخيرة على شكلي ثم توجهت نحو غرفة نومي..

دخلت غرفة النوم ليقابلني المنظر المعتاد، مكتب خشبي مرفق بمقعده في الزاوية بجوارهما سريري الصغير ثم خزانة ذات طابق واحد في الجانب الآخر، غرفة متواضعة مثلي تماما..

نظرت إلى السرير بشوق الأم لإبنها الذي فارقته لسنوات، مع ذلك كان عليه الإنتظار لوقت إضافي.. فهذه الليلة لم تكن للنوم

كنت واقفا عند باب الغرفة لمدة أطول من المعتاد، فاقتربت من المكتب و جلست على كرسيي متمددا عليه لثوان استعدادا للقادم.. أشعلت مصباحه و أخذت بأوراقي التي كانت في الدرج قبل أن أبسطها جميعا على سطح المكتب.

في تلك اللحظة إنطلق رنين مزعج من جيبي قبل أن أسارع في كتمه مباشرة، كان ذلك هاتفي، تفقدت المتصل بوجه عابس..

' جايدن؟ في مثل هذا الوقت؟ '

لم تكن جايدن تلك الفتاة التي سترغب في تجاهلها، لقد كانت هي أحد أسباب عدم رسوبي آخر سنتين، و أنا شاكر لها بالطبع.. لكن بإمكانها الإنتظار قليلا.

توقف رنين الهاتف قبل أن يصدمني شريط الإشعارات ذاك..

[ 5 مكالمات فائتة من جايدن ]

" بالله! "

هي لم تتصل بي في يوم واحد أكثر من مرتين من قبل، متى حدث هذا في المقام الأول؟ لوهلة بدأت أفكر في طريقة للإعتذار لها.. مضت بضع ثوان و أنا أحدق في الإشعار قبل أن أقرر الإتصال بها صباحا، لقد أردت بشدة إنهاء ما بدأته مع أوراقي لذلك وضعت الهاتف جانبا...

نظرت إلى كل ورقة على حدة، مستكشفا إياها للحظات، كان بعضها يحمل عددا لا نهائيا من الكلمات و البعض الآخر تميز بصور و جداول مبعثرة.. لكنني صوبت نحو ورقة واحدة، حملتها في الهواء و حدقت فيها بابتسامة.

' خطتي.. مشروعي العظيم '

بعد كل هذه السنوات نظرت أخيرا نحو هذه الورقة بعقل صاف..

قد تعتقدون أن هذه الورقة تحمل بين أسطرها أفكارا لمشروع ضخم يقلب العالم، أو طبعة زرقاء توجهني لصناعة آلة خيالية.. لكن الأمر كان أبعد من ذلك بكثير. حسنا، لقد كانت مشروعا بالفعل لا أنكر الأمر، لكن ليس مشروعك المعتاد.

حدقت في تلك الكلمة و قد ارتفعت زوايا شفتاي بحدة

" ثمانية " بصقتها و في نبرتي سعادة واضحة.

كانت الكلمة ' ثمانية ' هي عنوان الورقة، مكتوبة بخط أسود عريض في الأعلى سطرت بدايتي في مجال أبعد بكثير من شهادتي..

ثمانية، إسم عملي القادم الذي أطمع له بمنافسة أقوى الكتاب و المؤلفين حول هذا العالم الضئيل.. و رغم كوني متخرجا في مجال الإلكترونيات إلا أن ذلك لم يكن ملعبي ببساطة، لقد أردت دوما إبراز أفكاري الخيالية، لم تكن لها نهاية. و الأهم من ذلك.. هي كانت ذات جودة عالية!

لربما لن أصل القمة.. لكنني سأسحق الكثير..

بدأت بقراءة محتويات الورقة بتمعن، كنت أنعش ذاكرتي في الوقت الحالي برؤوس الأقلام التي كتبتها منذ زمن.. لكن و في لحظة مفاجئة..

' هاه؟ '

لم أصدق لوهلة ما كشفته عيني.. لقد إختفى أحد الحروف أمام ناظري.

مسحت كلا عيني في عجل، لا بد أنني بدأت أهلوس من فرط التعب.. نظرت إلى الورقة من جديد.

" بحق الجحيم ما الذي يحدث؟ "

بدأت الحروف بالإختفاء تدريجيا بشكل عشوائي، حملت الورقة و يكاد عقلي يرفض التصديق.. إستمرت الحروف بالتلاشي تحت ضوء المصباح.

" مشروعي! " انتحبت بضعف

لم يعرف عقلي أي فكرة يشكل مع هذا الذي أراه أمامي، كنت أراقب هذه الحادثة الخارقة و هي تحدث فحسب دون تسطير رد فعل ملائم.. وضعت الورقة من جديد و شددت رأسي بكلتا يدي..

بعد لحظات أصبحت الورقة خاوية، شيئ آخر كان خاويا هو صندوق أفكاري.. بقيت أحدق فحسب بأعين محقنة بالأحمر، ذلك عندما انبثق حرف من العدم..

نهضت من الكرسي و تراجعت بضع خطوات، لقد انتابني مزيج من الخوف و الجهل حيث لم أدر أي قرار صائب علي أن أتخذ... أصبحت أراقب الورقة على بعد مترين بصمت أترقب ما قد يحصل تاليا.

إستمرت الأحرف بالتشكل قبل أن تتوقف في النهاية بجملة واحدة.. لم يحصل شيئ

إقتربت و قرأت ما كان مكتوبا بصوت هامس بينما كنت لا أزال واقفا..

[ هل تود.. لعب لعبة؟ ]

' لعبة؟ ' فكرت في نفسي

جلست على المقعد من جديد و حملت الورقة بتوجس.. تاليا كافحت لإخراج بضع كلمات

" أية لعبة؟ "

إختفت الجملة مباشرة لتستبدلها جملة أخرى قرأت..

[ ما رأيك بخبرة لا نهائية؟ ستضمن لك اللعبة حياة مديدة إن كنت لاعبا جيدا، حياة جديدة في عالم جديد. إن كنت ستقبل فأجب بنعم ]

' أهذا حقيقي؟ '

لم يكن معنى الجملة مفهوما من الأساس، فقط فكرة الحياة الطويلة.. لكن ما هذا بحق الجحيم؟ عن أي خبرة تتحدث؟ هل تم اختياري من طرف كيان علوي أو ماشابه؟

شعرت بيداي ترتجفان قبل أن يتسلق عمودي الفقري برد غريب، تبعه ارتجاف حاد في قدمي.. لقد وضعت في موقف أكاد أصدق أنني فيه، مع فكرة عدم ترك فرصة كهذه تذهب سدا.. لكنني بصدد اكتشاف شيئ مجهول!

" ألن تعطيني أي معلومات إضافية؟ " بصقت بصعوبة

لم تستجب الورقة بشيئ..

' هل علي أن أوافق؟ '

أعني، حياة جديدة في عالم جديد؟ أنا ممتن أشد الإمتنان بحياتي الحالية لكن، بالكاد أستطيع تخيل الندم الذي سينتابني بعد رفض العرض.. بالله كيف لي أن أعيش مدركا أن الفرصة للإنتقال إلى عالم جديد قد قرعت باب غرفتي و أخبرتها أن تعود أدراجها..

شددت على يدي بقوة فوق ركبتي موقفا الإرتجاف المفاجئ..

" نعم! "

لم يكن إختفاء الجملة بالأمر الغير متوقع.. ذلك عندما استبدلتها جملة أخرى .

[ مرحبا بك إيثان ويليامز.. أنت الآن إبن الشرير، لكن قبل أن تكون كذلك عليك أن تفوز بهذا المنصب أولا. ]

إختفت الجملة فور قرائتها لتتبعها جملة أخرى..

[ كيف تسأل؟ يحتاج الشرير أن يقوم بإنجاب إبنه لتحصل على هذا المنصب، لكن البطل دائما ما يقوم بقتله. مهمتك هي فعل شيئ ما حيال هذا، الأمر متروك لك ]

لم يشكل دماغي أي فكرة جيدة بعد الذي قرأته.. لقد فهمت المراد مني بالطبع لكن، أليست المهمة غبية؟

أرغمت جسدي على التزام الهدوء ثم فكرت بعقلانية..

' كم سيكون منع البطل من قتل الشرير صعبا؟ و هل هذا كل شيئ؟ '

إجابة على سؤالي الداخلي أومضت بضع كلمات على الورقة..

[ سيمنحك هذا النظام السخي قدرة واحدة.. إستعملها بحكمة. { التناسخ } ]

" التناس..؟ "

لم أكد أنهي كلمة واحدة حتى شعرت بشيئ غريب يجذبني للأسفل.. و كأنما تضاعفت جاذبية الأرض أضعافا..

لم يسعني سوى النظر إلى ما تحتي، ذلك عندما اكتشفت أن دوامة سوداء غرببة قد تشكلت على أرضية الغرفة..

' هل حقا هذا يحدث؟ حقا! '

بالكاد كنت مصدقا رؤية كل هذا في عيني، كان أي شيئ مشابه يظهر إما في الأفلام أو الألعاب، أو القصص المصورة أو الروايات! أما في الواقع؟

إلتهمتني الدوامة بالكامل حيث لم يبقى سوى يدي التي رميتها نحو الأمام بلا دافع، كأنني لم أشبع من العيش في عالمي و أيضا متشككا من كل ما يحصل.

" وداعا.. عالمي "

' وداعا عائلتي، أصدقائي، كل شيئ! "

إمتلأ محيطي بالظلام بعد أن انغلقت الدوامة من أمامي، حاولت تحريك جسدي وسط هذا الفراغ فتحرك بسهولة.. نظرت إلى ما كان تحتي فاندهشت من المنظر.

لم يكن الظلام هو المسيطر في النهاية، فقد امتلأت السماء تحتي بنقط لا نهاية لها من الأبيض.. نجوم إن صح التعبير، و كأنني أنظر في سماء الليل بين كثبان الصحراء البعيدة.

" مدهش! "

لم يسعني سوى التعجب، مستمتعا بالمنظر لم أستطع ملاحظة يدي التي بدأت بالتحلل بشكل غريب..

بعد ثوان بسيطة رأيت جسدي يتحلل بالكامل، و كأن خلاياي تتفكك لتصبح غبارا اكتنفته الظلمة.. لكنني لم أشعر بشيئ.

حاولت النطق بكلمة أو حرف فوجدت فمي قد بدأ بالتحلل أيضا، لم تمر سوى لحظات قبل أن أتحلل بالكامل، ذلك عندما أصبحت نقطة بيضاء مشعة كحال هذه النجوم.

لقد كنت أشعر بوجودي في النهاية، لكن كوجود فقط، لم تتخلى عني ذاكرتي أو عقلي، فقط الأحاسيس.

' إذن.. هل هذه هي الأرواح؟ '

[ لقد قام البطل بقتل الشرير في هذا المسار الزمني. أترغب باستبداله؟ ]

فاجأتني تلك الجملة التي ظهرت من العدم أمامي في نافذة شفافة، لا بد أن هذا هو النظام؟

' بالطبع.. ما فائدة دخول عالم لا يوجد فيه شرير بمهمة إنقاذ الشرير؟ '

فور تفكيري بالأمر فحسب اختفت النافذة لأعود وحيدا بين الفراغ من جديد، أو ذلك ما اعتقدت..

في اللحظة الموالية بدت أحد النجوم تكبر في مسار نظري، لا أعرف كيف لا زلت أستطيع الرؤية دون عينين لكنني رأيت النجمة تقترب..

لم تمر سوى ثانية أخرى قبل أن تصطدم النجمة، و التي كانت بنفس حجمي، بي و يحدث انفجار ضوئي غريب..

لقد حدث شيئ ما هناك.. لا شك في ذلك.

لم أعرف متى حدث كل شيئ، لكنني نهضت مرعوبا في فراشي.. بجانب إمرأة.

لم أعد في جسدي...

2024/09/20 · 750 مشاهدة · 1771 كلمة
Lst Mbryo
نادي الروايات - 2024