الفصل العاشر
في القصر تنام الأمنيات
كانت تشعر أنها كاللؤلؤة الثمينة، النائمة بسلام داخل صدفتها كلما جاءت تزور البحر. مرت ثلاث أسابيع من بقائها في بهرمان، كانت كافية بالنسبة لها لأن تحفظ أغلب الأماكن التي تعنيها. وكان أحدها البحر، الذي وعدت أن تعود له، فقد استطاعت وبشق الأنفس أن تجد منفذًا للشاطئ القريب من الميناء، ملاذها السري، كانت تلقي تحيتها كلما سنحت لها الفرصة.
لم يكن لديها تلك الرفاهية اليومية للبقاء بجانبه، فحتى الرفاهيات البسيطة فقدتها عندما سلّمت نفسها لهذه المهمة. كانت تدرك أن للحقيقة ثمنًا، وفي عقلها، كل هذه أثمان صغيرة ستدفعها لأجل سعادة من يشتاق لهم القلب. في قلبها هدف نبيل حركها كمرساة سفينة ثابتة في وسط العواصف، ولذلك اعتقدت أنها ستتصالح مع الموج وبحره وتُصادقه، كي لا تغرق في أهواله.
ولكن ما الذي تعرفه نبيلة صغيرة مدللة، للتو خرجت من صدفتها، تواجه أيادي البحّارين الباطشة وحدها؟ فهي لم تتخيل يومًا أن يكون الأمر أكثر من كونها ستستعلم عن الحقيقة وستعلنها للملأ في الواحة الغانمة، فيُمحى العار عن اسم أخيها.
كانت أحاديث البحر هذه هي الوقت الذي يتوقف عنده زمنها، أما بقيته فكان عملاً شاقًا انغمست فيه، عملًا مستمرًا لم يكن يتوقف، وهي استغلته خير استغلال، فقد كانت تضطر للتأخر أحيانًا لأنها كانت تقوم بأمر آخر لا علاقة له برفاهيتها.
كان عليها أن تعتذر للسيدة سكينة كثيرًا على تقصيرها. كل مرة عذر، والسيدة تتفهم، لأنها ثلاث أسابيع لن تكفي غريبة لتحفظ خريطة بهرمان. ولكن السيدة سكينة لم تكن تعلم أن رفيدة حفظت ما يكفيها. فعقلها الهلع استخدم ما يجيده، كانت تتخيل أن الوقت يداهمها. تسعة عشر يومًا وتنتهي مهلتها. استغلت كل ما في يديها من حيلة، منها الأحاديث العابرة مع الفتيات.
ففي حديث ذات مساء مع جيهان، عرفت مكان هدفها. فذاك الحديث بدأ بالطعام وانتهى بالحديث عن أهل القصور. سألت أمينة بين الأحاديث:
"ما الذي أخّركِ اليوم يا رفيدة؟ عادة تعودين مع المغيب."
تذكّرت كيف طرب قلبها من الفرصة التي وصلت ليديها لتجعل الحديث يبدو طبيعيًا جدًا، فهي غمست الكذب بالحقيقة فقالت:
"طلبتني السيدة أن أرسل طلبية خاصة لحي الهلال في الجانب الشمالي، ولكنني أضعت الطريق، وحينما سألت، قالوا إنه بجانب قصر السيدة زبيدة. بالطبع لا أعرف أين هو هذا القصر، ولكني لحسن حظي وصلت وبشق الأنفس."
قالت رفيدة قاصدةً جيهان، محاولة جر الحديث من فاه الخادمة الثرثارة التي كانت تحب الثرثرة بما تعرفه وما لا تعرفه. ولم يخيبها حدسها، فجيهان راحت تضحك وقالت:
"إن من أخبركِ لا يفقه شيئًا عن أحياء بهرمان."
"هذا مستحيل، بدا لي عارفًا بما يقول." قالت رفيدة بثقة كاذبة.
"إنه كاذب يا رفيدة، إن قصر السيدة زبيدة معروف." قالت جيهان بثقة.
"ولكن من هي السيدة زبيدة؟ ربما حصل تشابه في الأسماء." قالت رفيدة وهي تحاول جر الحديث لمأربها، وهي تعرف زبيدة المذكورة أكثر من اسمها.
"إن قصرها مشهور، فالسيدة زبيدة هي في الحقيقة أميرة زُهَيْرية، وهي عمة الخليفة." قالت جيهان شارحة، وأكملت: "ولكنها سيدة غريبة، شديدة الطبع."
"على العكس، بل هي سيدة ذات علم، وقصرها تفتحه لمجالس علم متنوعة. بل إن لها الكثير من الأوقاف العلمية الممتازة، ولكن ليتها تفتح شيئًا معنيًّا بتعليم الفتيات." قالت أمينة بحماس.
"هذا ليس ما سمعته عنها!" قالت جيهان بإصرار.
"وأين يقع هذا القصر؟ أصابني الفضول من حديثكن." قالت رفيدة.
"إنه في الجانب الآخر من حي الهلال. في الحقيقة، هو على بعد شارعين من الميناء، أي إنه لا يبعد كثيرًا عن هنا." قالت جيهان شارحة.
تذكّرت أن ذلك كان في أسبوعها الثاني، وكانت قد فرحت كثيرًا لوصولها إلى السيدة زبيدة بنت عبد الرحمن الزُهَيْري بهذه السرعة. فهي كانت تعرفها حق المعرفة، أو بالأحرى تعرف ما يكفيها لتكون حلقة وصلها.
تذكرت أنها أمضت أسبوعها الثاني باحثة عن القصر، وأخيرًا وجدته، يجلس بصمت في وسط العاصمة بين بيوت أخرى لا تقل فخامة. حيّ ينام بين الصخب، كأنه ملاذ آمن يحمي أهله ونفسه من شيء جهلته رفيدة. حمل طابعًا خاصًّا فيه بلون طوبه المحروق وزهوره المتسلقة.
ولكنها لم تكن تنوي أن تقوم بزيارة عابرة، وتلك لم تكن مهمة من السيدة سكينة، إنما كان هدفها هي. فقد راقبت القصر كلما سنحت لها الفرصة. تأخرت في الكثير من الأيام عن العودة للمنزل حتى العشاء. فلولا أنها كانت تحتاج للعودة للقيام بواجباتها ناحية السكن، لما كانت عادت إلا بعد منتصف الليل. لكنها بقيت متمسكة بهويتها المزيفة وألا تكسرها، فوجدت عذرها بقولها:
"تجولت قليلاً باحثة عن عمل."
وهي كانت بالفعل تهيئ لنفسها مكانًا في ذلك القصر. عدّت الأبواب، حفظت الجوانب، تعرفت على الخدم، وجوه درستها جيدًا، بل إنها عرفت أسماء بعضهم وسمعت أحاديث البعض الآخر، واستطاعت أن تشكل ما يكفيها من تصور. عرفت وقت تبدل الحراس وأماكن تواجدهم صباحًا ومساءً. أسبوعان لم يغب عن عينها القصر، وبين كل طلبية وأخرى تطل عليه. وبعد انتهائها من عملها، كانت تقوم بزيارة أخرى، وفي كل الزيارات أخفت نفسها جيدًا.
وانطلقت أخيرًا تدخل خطتها حيز التنفيذ، التي ظنت أنها وضعتها بإتقان. وقفت على مقربة من القصر، قرب مشرب ماء، حيث أتاح لها الرؤية من الباب الخلفي. فقد نام هدفها هناك. كانت تبحث في وجوه الخادمات عنها، وفي ذلك اليوم تحديدًا كان البرد أكثر من المعتاد، وغاب القصر في السكون، ولا شيء يوحي إلا بالصمت.
فهمت أن الأمر يعني إما فشل خطتها، فهدفها لن يتحرك من مكانه، أو نجاحها، فهدفها لن ينشغل. في عقلها، وحسب ما فهمته، أن الوقت كان مبكرًا للضيوف المعتادين، ولم تكن البوابة الخلفية مكانهم. ولكن... وأسكت صوت تحليلها الواثق صوتُ خطوات غريبة جعلها تتنبه. خطوات كان لها وقع غريب، كأن الثقل قد حمله جانب واحد من هذا الجسد. هل هي عرجة؟ التفتت تنظر. فهذا ضيف غير متوقع، دمّر توقّعاتها.
هي حاولت أن تتذكر هذا الضيف. رفعت نظرها تراقب. كانت لا تراه إلا من الخلف. مشيته سليمة، كأن خطواته كانت قبل قليل مجرد خيال اعتقدته هي. دخل من الباب الخلفي بكل أريحية، وهندامه وملابسه الملونة بأحدث الصيحات أوحت لها بأنه نبيل أو حتى رفيع المستوى، ولكن دخوله بلا حرس أو مرافقين جعلها تستغربه. لاحظت أن حارس الباب الخلفي حيّاه بأدب مبالغ. لم تستطع أن تعرفه كأحد الضيوف المعتادين.
ولكن في داخلها شيء ناداها لتكتشف سره. حاولت أن تقترب، ولكنه اختفى سريعًا، أو أنه باغتها كما باغتها غروب ذلك اليوم، والذي جعلها تتراجع.
ففي ذلك اليوم تحديدًا، هي لم تستطع أن تطيل البقاء هناك، وبقيت في داخلها حسرة أنها لم تصل لهدفها. أمهلت نفسها بضع دقائق يائسة، علقت عليها آمالاً، وأخيرًا، من حيث لا تدري، خرجت تلك الخادمة متذمّرة وهي تصيح:
"في كل مرة ترمونني بهذه المهمة السخيفة!"
فقد خرجت الفتاة تحمل سلتها، وهنا تحركت رفيدة بسرعة، وفي يدها سلتها هي الأخرى، وجعلت حركتها خفيفة، دخلت من طرقات لتتواجه مع الفتاة بشكل عفوي. وبالفعل، خرجت من زقاق جانبي واصطدمت بها. وكان اصطدامًا متعمدًا، ولكنه لم يُوحِ بكل ما فيه من حركة أنه متعمد. كان قلبها يدق كالطبول، وهي تسابق الزمن.
"آسفة!" صاحت رفيدة، وأكملت بهلع مزيف: "أنا كنت مستعجلة."
"لا بأس يا بنت." قالت الفتاة بحدة، وراحت تراقب رفيدة، ثم أكملت: "انتبهي لخطواتكِ."
قامت رفيدة لتجمع ما وقع من سلتها، وهي تحاول أن تستعطف الفتاة. وبعدها وجدتها فعلاً تساعدها، وفجأة، انتبهت لها وهي تقول:
"هل تعملين في أحد البيوت المجاورة؟"
"أنا؟" سألت رفيدة بإحراج مزيف، وأكملت: "لا، كنتُ عائدة للتو من طلبية قمت بالانتهاء منها."
"هل تبيعين في البيوت؟ لم أركِ من قبل في الجوار؟" سألت الفتاة بشك.
"لا، أنا أعمل مع محل سكينة للعطور والأعشاب في السوق الكبير." قالت رفيدة شارحة.
وجدت الفتاة تقلب كيس الحناء، وقالت: "هل هذه حناء مرزجية؟"
"أوه، لديكِ عين جيدة يا آنسة." قالت رفيدة وأكملت: "إنها من أجود أنواع الحناء التي تستوردها سيدتي من الشرق، من مرزانج."
وجدت الفتاة مهتمة بالحناء، والتي كانت حناء عادية أعطتها إياها السيدة سكينة. كانت من البضاعة التي تكدست عندها، ولكن رفيدة اختارت أن تضعها في كيس ثمين لتعطيها أهمية. فهي سمعت الفتاة تشتكي من قبل أنها لم تجد الوقت، والمال لم يكفِها لتدلل شعرها ببعض الحناء. لذلك، أوقعت هذا الكيس عمدًا، كانت هذه خطتها المرسومة بشكل كامل.
"يمكنكِ الاحتفاظ بالكيس." قالت رفيدة بعد فترة.
"ولكن سيدتكِ…" ردت الفتاة ببعض القلق.
"لا تحملي همًّا، سأقتطعه من مالي. اعتبريه هدية اعتذار مني عن حماقتي." قالت رفيدة.
"لا، لن أستطيع أن آخذ هدية ثمينة كهذه." قالت الفتاة، وهي تعيد الكيس. وأما رفيدة، فوجدت نفسها تقف حائرة، وظنت أنها فشلت في خطتها تمامًا.
"اسمي هو أميمة." قالت الفتاة بلطف غلّف تعابيرها.
"أنا رفيدة." قالت رفيدة بلطف، وأكملت: "هل تعملين في أحد القصور هنا؟"
"أجل، كنتُ ذاهبة للسوق الكبير لشراء ما نقص من طعام، فقد حلّ علينا ضيف مفاجئ." قالت الفتاة بوجه مستهجن.
"يا للصدفة! إن منزلي قريب من السوق الكبير، أي أن طريقنا واحد." قالت رفيدة، وقد لمعت عيناها بدهاء، وحملت خبثها في داخلها، وسارت مع أميمة نحو السوق.