الفصل الحادي عشر
خطة الوصول
كانت تجلس بصمت، وعيناها العسليتان تطوفان في كل مكان إلا وجه القابعة أمامها. كانت تلك جزءًا من المسرحية لتعبر عن خضوع وخجل. كانت كلما سنحت لها الفرصة استرقت نظرة لتقرأ تلك القابعة أمامها. كانت تشعر بزيف نفسها بكل ما تفعله، ولكنها كانت تعلم أنها إن جاءت بشكل مباشر في هذا المكان لن تصل لما تريد، مع ذلك علقت تلك الغصة في حلقها.
هب نسيم بارد من المشربية الخشبية الأنيقة التي لفتت نظر رفيدة منذ أن دخلت إلى هذه الدار، بكل النحت الذي تخللها، ولكن الرمانة التي توسطت المشربية تركتها تقف لعدة دقائق أمامها، تذكرها بكل ما كانت هي بصدده. سرت فيها رعشة نتيجة ارتداد النسيم في الغرفة الحجرية الباردة، رعشة أضافت الكثير للقناع الذي تخفت خلفه.
"إذًا يا بنت، أخبريني، من أين أنتِ؟" سألت السيدة التي جعلتها تنتظر لدقائق، ثم وقفت أمامها تتفحصها كأنها تعاين بضاعة وتقيمها. فهي استقبلتها في غرفة أنيقة في الطابق السفلي، مع أن رفيدة استغربت وقتها أناقة الغرفة، لكنها لاحقًا علمت أن هذا القصر ببساطته لم تكن فيه غرفة غير أنيقة، بل إنه كبير أكثر مما تتخيل.
"سيدتي، أنا جئت من الجنوب"، قالت رفيدة بحزن مصطنع.
"الجنوب؟" سألت السيدة وهي تنتظر الإجابة الأطول. كانت تحاول أن تعطي نفسها الأهمية لتثبت مكانتها في القصر، وتحكم السيطرة المطلوبة، تجنبًا لتمرد الخادمات الصغيرات، أو ربما فقط لتشعر أنها ذات سلطة!
"من سَهوان"، ردت رفيدة.
"سهوان، إنها مدينة كبيرة"، قالت السيدة وأكملت: "وهل لكِ أهل هنا؟"
"فقط عمة، ولكنها رحلت إلى الشمال مؤخرًا"، قالت رفيدة.
"سمعت بقصتكِ من أميمة"، قالت السيدة بهدوء وأكملت: "ولكن لن أتحمل أن تثير عائلتكِ أي مشاكل هنا."
رسمت رفيدة ملامح هلع مزيفة وقالت: "أوه لا، لا تقلقي، لقد سويت أموري منذ البداية مع عمي، لم أطالبه بشيء ولن يطالبني بشيء."
"جيد"، قالت وهي قد أنزلت عينيها إلى جسد رفيدة، وأضافت: "وزنكِ زائد بعض الشيء، ولكن لا أتخيل أنكِ قد تطالبينا بوجبات إضافية."
"لا تقلقي بهذا الصدد يا سيدتي"، قالت رفيدة وأكملت: "لدي سكن، وتتوفر لي فيه وجبتي الفطور والعشاء."
"جيد، ومن عندنا نقدم وجبة واحدة، وهذه ستكون وجبة غداء ووقت استراحتكِ"، قالت السيدة بخفة، وبدأ وجهها الصخري يخفف من حدته.
علمت رفيدة من هذا أنها نجحت في الاختبار. السيدة كانت تحتاجها، وهذا ما أكدته لها أميمة، وذلك بعد رحيل إحدى الخادمات بشكل مفاجئ.
"ستبدأين من الغد، في السابعة مساء تكونين متواجدة، فأنا أحتاجك لوردية الصباح، وينتهي عملكِ كل يوم مع المساء في السادسة، ولكن قد يتطلب عملكِ إمضاء وقت أطول"، قالت السيدة بصرامة وأكملت: "إن السيدة زبيدة لطيفة جدًا، ولكل عمل إضافي سيكون هناك امتياز مالي أو ساعات عمل أقل للتعويض."
ابتسمت رفيدة من وصف "لطيفة جدًا"، فهي سمعت من أميمة ما يكفيها لتعرف طبع السيدة التي ستعمل عندها، كما سمعت منها عن مسؤولتها في العمل، والتي كانت النقيض من السيدة سكينة اللطيفة المرحابة. فالسيدة نسمة لم تحمل صفة من صفات اسمها، فكل ما رأته أمامها كانت امرأة فارغة، بالرغم من جسدها الممتلئ. كل ما تطمح له هو السيطرة، ولا يهمها شكل السيطرة، المهم أن تكون مسيطرة على شيء. لو كانت زوجة لسيطرت على زوجها، وهذا جعلها في المكان الصحيح لتسيطر على الخادمات وتشعر أن وجودها في هذه الحياة له سبب. مع أنها حاولت أن تتصرف بذكاء، ولكن عينيها الصغيرتين الشبيهيتين بعيني الثعلب لم تحملا إلا بلاهة واضحة!
خرجت من تلك الدار بعدما طلبت منها السيدة أن تقابل أميمة لتأخذها للخياط الذي سيخيط لها ملابس العمل، فالسيدة زبيدة أحبت أن يكون في قصرها نظامًا، بما في ذلك الملابس.
خرجت، فهجمت عليها أميمة بتساؤلاتها، والتي أصبحت صديقة لها، أو بالأحرى اعتقدت أميمة أنها ستستطيع استغلال طيبة الفتاة الصغيرة وتحصل على بعض الراحة. سألت بقلق: "هل وافقت؟" وأضافت بقلق أكبر: "هل أخافتكِ؟ لا تقلقي، هذا طبعها، وإن لم توافق أعرف كيف..."
"أميمة، لقد وافقت"، قالت رفيدة بهدوء وهي تربت على كتف أميمة.
وجدت الفتاة ينفجر وجهها من قلق، من ضغوط حملتها، لراحة واضحة. فهي وجدت ليس فقط رفيقة، بل حمالة العمل الإضافي، فتاة بسيطة لن تشتكي ولن تتذمر.
"هل سألتكِ عن عمكِ؟"
"فعلت، ويبدو أنها اكتفت بما أخبرتيها، وأكدت لها أني سويت كل أموري"، قالت رفيدة وهي تتذكر تلك الكذبة التي أثقلت بها هموم أميمة، والتي، وإن وجدت في رفيدة حلاً لضغوطها، فهي بشكل صادق قرأته رفيدة بعيون الفتاة التي حملت همها.
"قام عمي بطردي من منزل والدي بمجرد انقضاء عزاء والدي، ولم يمهلني حتى الوقت لأستوعب ما يجري حولي أو أمسح دموعي."
"وعمتي رفضت استقبالي عند وصولي، لأنها لم تكن راضية عن والدي أو والدتي، وسمعت أنها تركت العاصمة إلى الشمال أساسًا."
كل تلك كانت كذبات رفيدة، والتي ردت عنها أميمة.
"وأنتِ ستبقين كل عمركِ تقومين بهذا العمل المرهق؟"
"بصراحة، عليّ أن أجد عملاً آخر، فالصبي الذي كان يعمل مع السيدة سكينة سيعود للعمل في أي وقت، وأنا سأجد نفسي بلا عمل قريبًا، ولن أجد مأوى يقيني"، قالت رفيدة، وهي ترسم كل ملامح القلق، والذي كان الكثير منها حقيقي بشكل أو بآخر.
"هل بحثتِ في كل مكان؟" سألت أميمة بداعي القلق. "سألت صديقات السكن، وكل واحدة وعدت بمساعدتي، ولكن لا حظ لي حتى الآن"، قالت رفيدة.
وكل هذا الحديث كان في الأسبوع الأول من التعارف، حتى عادت الفتاة، وهي تشتكي ذات يوم كالعادة. لم توفر حتى لرفيدة مساحة لتسأل أو تحاول أن تسحب منها ما تحتاج من حديث. فرفيدة ظنتها فتاة صعبة وغامضة، ولكنها كانت أسهل مما توقعت، وجعلتها تقطع أشواطًا في مهمتها هذه.
"إن تلك السيدة كالتنين الكاسر إذا غضبت! هل تعلمين أنها طردت المسكينة مريم التي أخبرتكِ من قبل عنها؟" قالت بنبرة منفعلة.
"التي كان لديها خطيب سري؟" تذكرت رفيدة أنها سألت، وهي تحاول تذكر ملامح الفتاة التي عرفتها من مراقبها السابقة ومن حديث أميمة عنها.
"أجل، يبدو أن خطيبها تركها، والآن الوحش الكاسر زبيدة قامت بتأنيبها وطردها فقط لأنها سكبت العصير!" صاحت أميمة بانفعال، وأكملت: "بالطبع، الآن سيلقى كل كاهل العمل عليّ."
"حسنًا، أنتِ تحتاجين لتهدئي، وتدعي الله أن يحل محل تلك الفتاة أحد آخر بسرعة"، قالتها رفيدة بعيون لمعت بحماس، ووجه حاولت أن تجعله متعاطفًا مع هموم أميمة.
"رفيدة، مع كل معاناتكِ، لا زلتِ تستطيعين مواساتي، كم أنتِ لطيفة..." تذكرت كيف قالتها، وبقيت رفيدة معلقة، وفي داخلها بعض الانزعاج من الوصف بسبب التأنيب الذي أصابها، ولكنها سرعان ما أعادت التركيز. فهي كانت تخطط أنها ستجعلها تفكر في مسألة ترشيحها اليوم أو غدًا كبديل محتمل لمريم، وبالطبع جاءها في اليوم الذي تلاه الجواب، فالفتاة كانت قد لمعت عيونها البنية بالفكرة التي وضعتها رفيدة في عقلها منذ أن عرفتها: "سأوصي بك عند نسمة الغبار وسنرى."
هنا رسمت رفيدة ملامح من الرعب، وفي داخلها حفلة، ولكن كان عليها أن تلعب اللعبة بإتقان، فقالت بصوت مرتجف: "لا... أنـ...ا... أنا لن أستطيع أن أجاري السيدة نسمة، فكيف سأستطيع أن أجاري السيدة زبيدة؟"
وجدت أميمة تبتسم بحماس، ثم قالت وكأنها كانت تفكر في طريقة لإقناعها لكي لا تطير المصلحة: "أعلم أنه من الصعب أن تغيري من العمل مع امرأة طيبة مثل السيدة سكينة، لتعملي مع الشيطانة وكلبتها، ولكن فكري في الأمر، أولاً هذا العمل أفضل من ناحية المكانة الاجتماعية، ثم سيتيح لكِ الحصول على المال والتعامل مع النبلاء وأصحاب الجاه. لنكن صريحين، كم بقي من مهلة أمامكِ؟"
"لا يهمني النبلاء وأصحاب الجاه، ولكن أنتِ محقة بما يخص المهلة، فدعيني أفكر وسأرد عليكِ في الغد بالتأكيد"، قالت رفيدة بعد فترة صمت. "ستأتيني غدًا بالموافقة، إنها فرصة"، قالتها أميمة بثقة.
كانت أميمة تشعر أنها حققت هدفها وانتصرت، ولم تعلم أنها كانت جزءًا صغيرًا من لعبة رفيدة أساسًا، والتي وقفت أمامها تدّعي البلاهة، وهي تأخذها للخياط المعني، وهي تقول: "انظري، لقد رفضتِ في البداية، ولكنكِ اليوم تستعدين للعمل معنا."
بعد مشي بسيط وخارج السوق الكبير قليلاً، وقفوا أمام الخياط الذي تعرف على أميمة.
"هذه القياسات لزميلتنا الجديدة رفيدة"، قالت وهي تسلم الورقة المطوية بحماس.
نظر الخياط العجوز بصمت، والذي كان أساسًا أبكم، فوجدته يعبر عن فهمه بالمطلوب بحركات بيده.
"بالرغم من أن السيد سريع فقد نعمة الكلام، إلا أنه لا يزال الأمهر في عمله"، قالت أميمة وأكملت، وقد انتبهت لحركة العجوز وهو يشرح بحركاته عن المدة الزمنية، وقالت: "أوه، خلال يومين ستكون الثياب جاهزة."
"هذا جيد، ولكن تأكدي من قياساتي، لقد علّقت السيدة نسمة على وزني"، قالت رفيدة بقلق حقيقي.
"أوه لا تقلقي، إنكِ تخسرين الوزن، أستطيع ملاحظة ذلك منذ أول يوم رأيتكِ فيه"، قالت أميمة وأكملت: "ثم إنها تبالغ، وزنكِ ليس زائدًا، أنتِ فقط قصيرة بعض الشيء."
كانت تعلم رفيدة أن لها وزنًا زائدًا، وطولها لم يساعدها، ولكن هذا كان عندما كانت في الواحة الغانمة، حيث استطاعت أن تأكل طعامًا جيدًا تصنعه سارة بحب. أما هنا، فكان عليها أن تعاني مع طهي البنات، فواحدة تتقنه والأخرى تفشل فيه. كما أنها كانت تركض في كل مكان، فكان الطعام الذي يدخل جسدها يتبخر سريعًا، وفعلاً كانت قد فقدت وزنًا.
تذكرت يومها أنها زارت محل السيدة سكينة، وهي تخبرها، والخجل يغلفها، وقد كان خجلاً حقيقيًا، فقالت: "أردت أن أبلغكِ يا سيدتي أنني وجدت عملاً اليوم."
وجدت السيدة تبتسم لها بلطف، وهي تقول بحماس: "هذه أخبار مبشّرة."
"ولكن يا سيدتي، ماذا عن العمل..."، قالت بتردد.
"لا تقلقي، إن هلال سيعود خلال أيام، فالمهلة تكاد تُقضى أصلاً، وخلال هذه الفترة أستطيع تدبّر أمري بالأجراء بالساعة، ولكن مشكلتي معهم الثقة"، قالت السيدة وهي تطمئن رفيدة، وأكملت: "أين هو عملكِ؟"
"وجدت شاغرًا للعمل كخادمة في قصر السيدة زبيدة"، قالت بهدوء.
"أوه، إنه عمل جيد من حيث الأجر، ولكن السيدة زبيدة..."، قالت السيدة سكينة بقلق.
تنهدت رفيدة بقلق حقيقي، ولكن لأسباب أخرى تخصها، فقالت: "أعلم، فصديقتي أميمة تعمل هناك، وهي رشحتني."
"لا أتكلم عن طباعها الصعبة فقط"، قالت السيدة كاشفة عن قلقها، وأكملت: "ولكن قصرها هو ساحة علم بحد ذاته، فعليكِ أن تنتبهي ممن قد تقابلين أو تخالطين من ضيوفها."
هذا الحديث لفت رفيدة، والتي سألت من فورها: "لم أفهم يا سيدتي؟ هل هناك أشخاص سيئون من ضيوفها؟"
"ليس بالضرورة، ولكن بعضهم قد يكونون مثيرين للمتاعب. فالسيدة زبيدة كما ترين امرأة تعشق العلم، وقصرها هو مساحة مفتوحة، غير خاضعة للمراقبة من أي ديوان حكومي، ولا يتجرأ أي وزير أو صاحب ديوان على فتح فمه."
"وهل هذا أمر سيئ؟" سألت رفيدة.
"لا أدري بصراحة، ولا أستطيع أن أحكم، فأنا لم أرَ بعيني، فقط سمعت، وفكرت أن أحذّركِ"، قالت السيدة سكينة.
وكلامها، وبالرغم من معرفة رفيدة بهدفها القادم، جعلها تقف وتراجع خطواتها بحذر، لكي لا تغوص في الوحل دون وعي. فالمعارضون السياسيون أو مثيرو المتاعب أو حتى العصابات التي ملأت العاصمة، لم يكونوا ضمن حساباتها، وهي لم تأتِ لأجل هذا، بل إنها قد وصلت لهدف واضح، ولن تسمح لمثل هذه المعوقات أن تتدخل في طريقها.