الفصل الثاني عشر

الشرارة الأولى

طبول من الحرب أغرقت أوصالها، ذلك الشعور بقرب هدفها تركها جالسة وكأن جمرة راحت ترقص في أحشائها. للانتظار هذا طعم آخر، ذكرها بذلك اليوم الذي كان عليها أن تنتظر فيه رسالة تأكيد الفقد، ولكن هذه المرة، الإنتظار جاء معه لهفة أخرى، لهفة ربما خلفها الإنتصار الذي حلمت به. قضيتها عادلة لو أقنعته، ولكن من هذا؟ إنها لم تعد تعرفه، ولا تدري أي قضية تدور في خلده حتى؟ فالثقة التي كانت وقودها اليوم تخونها، وهي جالسة في هذه الحديقة الساحرة، وبين يديها كتاب بالكاد تذكر عن ماذا يتحدث. كرهت هذا الهدوء للمرة الأولى منذ زمن، كانت بحاجة لضجيج يجعلها تشتت كل هذا التفكير الذي لم يأخذها لأي مكان! حاولت أن تركز كل حواسها ناحية صوت الطبيعة، الطيور، خرير الماء، وصوت خطواته!!

رفعت رأسها، وجدته يتقدم، بدا لها مختلفاً، فهو لم يكن كما عرفته، ولا هي كانت كما كانت! كان يبدو مختلفاً بتلك الملابس السوداء البسيطة، ولحضوره هيبة ملوك، وتلك الرائحة التي سرقت حواسها أكدت على حضوره. هي طلبت هذا الحضور لكي تتفاهم معه، فلماذا وجدت نفسها تذبذبت كفراشة جريحة وهي تقف كأنها طفلة ضعيفة؟ هذا المنعطف من حياتها بات غريباً! ولكنها أكدت لذاتها، باحثة عن قوتها، فوجدت نفسها تذكر الله. أمسكت بزمام أفكارها المبعثرة، وفي غمضة كانت مستعدة لتفهم اللغز المتمثل فيه، وبعدها تقرر موقعه من الإعراب، وكيف ستعمل معه. هل هي مستعدة لتثق به؟ بالكيان الجديد الذي لم تفهمه؟! ولكن مع اقترابه الصامت، وحاجبه الذي رفعه بتعجب، عادة له كان لا يستطيع مداراتها كلما احتار في أمر، وهو لاحظته منذ اللحظة الأولى التي قابلته فيها وجهاً لوجه، ومشيته تلك التي حيرتها، ومعها هبت رائحة مألوفة ذكرتها بكل تلك الأيام في منزل السيدة سكينة! فغابت في الذاكرة مجدداً.

فقد عادت لذلك القصر الذي لم تتخيل رفيدة، التي راقبت جنباته بصمت وعرفت كل ما فيه، أنه بهذا الحجم، فقد انقسم لأجنحة، وكل جناح كأنه قصر بذاته: جناح زوار، والجناح الداخلي الخاص بالسيدة وخواصها، وجناح معني بالخدم وكل ملحقاته. اقتصر عمل رفيدة، لحسن حظها، على قصر السيدة زبيدة الداخلي، لأنها لم تكن تريد أن تتورط مع أحد من ضيوفها، هذا ما ذكرت نفسها به دائماً، ستكون كالنسيم البحري في ظهيرة صيفية، سريعة، خفيفة، لن يشعر بوجودها أحد، وستعود لمن لهم القلب يشتاق. ولكن لسوء حظها أن السيدة زبيدة كانت مختبئة في جناحها، فمنذ أن بدأت رفيدة عملها هناك لم ترَ ولا مرة السيدة زبيدة! وبالطبع لم تكن موثوقة لتقترب من الجناح الخاص، وهذا ما أكدت عليه نسمة منذ اليوم الأول.

لم تضطر رفيدة لتسأل عن حال السيدة، لأن أميمة كانت قد جاءتها وسلّمت لها المعلومة، وهذا ما جعل رفيدة تمتن لها جداً.

"إن الوحش الكاسر تعاني من صداع متكرر بسبب حادثة مريم."

"هل حقاً إنها تعاني بسبب عصير مسكوب؟" سألت رفيدة باستغراب.

"هذا هراء!" صاحت أميمة، ولكنها سرعان ما عادت لتخفض صوتها تبوح بالحقيقة المكتومة: "لم أكن أعلم حقيقة الموضوع، ولكن عقلي يأبى أن يصدق أن طردها بسبب عصير مسكوب، وأشعر أنني ظلمت الوحش الكاسر قليلاً."

"لم أفهم!" قالت رفيدة.

"أنت دائماً هكذا يا حلوتي، بريئة كصغار القطط." قالت أميمة بشفقة، وأكملت: "مريم ادعت أن لها خطيباً، ولكن الحقيقة أن لها عشيق، ويقول البعض أنه إعجاب من طرفها، ولكن هذا أغضب السيدة، أن هذا المعني هو من ضيوفها المهمين المقربين، بالطبع التفاصيل المهمة لن نعرفها، ولكنني سأصل لها، وبمجرد معرفتي بها سأخبرك."

"وهل الحادثة ضايقت السيدة لهذه الدرجة؟" سألت رفيدة ببلاهة مقصودة، لأنها كانت تبحث عن طريقة لتصل للسيدة.

"لا تسألي، وضعها كارثي، تعاني من صداع منذ الحادثة، زارتها الحكيمة البارحة مساءً وطلبت منها أن ترتاح." قالت أميمة.

"أوه، أدعو الله أن ينزل عليها شفائه." قالت رفيدة.

"لا، اصمتي." صاحت أميمة، وسرعان ما قالت بصوت منخفض: "إننا مرتاحون هكذا، لتبقى في دارها لأطول فترة."

ولكن لرفيدة رأي آخر، فهي كانت قد خططت لأيام كيف ستخرج السيدة من مخدعها! وكان عليها أن تثير الفوضى المطلوبة دون أن تثير الشكوك ناحيتها، فهي لم تكن مستعدة لتغضب السيدة منها، فبدأت أولاً بإقناع إحدى الخادمات بتبديل المهام، فهي قبلت أن تأخذ مكانها في جناح الضيوف، والذي لم تره من قبل منذ بدأت العمل، إذ أنها حاولت أن تتجول، ولكن أعين السيدة نسمة كانت عليها وفي كل مكان! أقنعت الفتاة، والسيدة نسمة التي حملت نظرتها شكاً أزعج رفيدة، ولكن الفتاة الأخرى كانت مستعدة للتبديل، فاستطاعت أن تقنع نسمة، والتي اقتنعت على مضض، وربما لأنها لم تعجب بوجود رفيدة تماماً في الجناح الداخلي.

تذكرت كيف بذلت جهداً لتنفيذ خطتها، والتي كانت فيها مجازفة، ولكنها اعتقدت أنها لا تمتلك الكثير لتخسره، إلا الوقت والشوق. فهي زارت الجناح بشكل عام، رأته من الخارج، مجالس متنوعة وأماكن للراحة، ولكن أكثر ما أبهرها كان القاعة الرئيسية التي تتوسط المكان، وقطعها مباني الخدم التي اختبأت خلف حديقة جذابة توسطتها نافورة أنيقة، جزء لم تقع عليه عينها مع وجودها في القصر الخلفي حيث عملت. لم تتمكن من الدخول له، ولكنها رأت الإسطبل.

فاختارت عصر الأحد، حيث تكدس الضيوف، فهم كانت لهم أيام محددة كل أحد وخميس تقريباً تفتح أبواب القصر وأجنحته الخارجية لاستقبالهم. كانت تلك المرة الأولى التي ترى رفيدة بأم عينيها مجلس علم حقيقي، رجال تجمعوا في القاعة الكبيرة التي أبهرتها، وهي تحمل بين يديها المرتعشة المرتقبة صينية العصير المنعش، سرت في أوصالها برودة بالرغم من حرارة الجو. كانت لا شعورياً تبحث في الوجوه عنه، أمل يائس بائس، ولكنه مكان يشبهه، مساحة حرة سيقف فيها قتيبة حيث يطلق أجنحة أفكاره بحرية، بين بحر الكتب وفي سماء الأفكار المحلقة. ولكن كان ذلك المكان قد حمل حنيناً حصرياً ناحية تلك المرأة التي بذلت لها ما بذلت لتعلمها، السيدة خديجة بنت النُميري، معلمتها التي رحلت عنهم منذ ما يقارب العامين، والتي قدمت لها الكثير من العلوم، وتحديداً العلوم الطبيعية، وجودتها في علم الحساب، العلم الذي كانت تكرهه وتهرب منه، ولكن كان لمعلمتها رأي وحكمة لم تكن تستطيع أن تجاريهم. كان هذا مكاناً ستتوق له امرأة مثلها، بل إنه رحم أفكارها وأحلامها عندما رحلت عنهم وهي سيدة في الثمانين، ولكن بقي فيها ما فيها من طاقة، جعلها شغوفة لتعلم رفيدة وتحكي لها عن أحلام لم تتحقق. مساحة علمية حرة بلا قيود، ولكن بقي جزء ناقص رأته رفيدة في "منارة الدار" أمينة، فهي تاقت لهذا المكان، بل إنها حلمت بشيء مشابه للنساء أيضاً.

لم تعلق طويلاً في الحنين والذكريات، فكان هذا يوم فعل لا يوم حزن، فهي ضيعت ما يكفي من الوقت، فاختباء السيدة زبيدة عنها جعلها تشعر بحنق وانزعاج، غضب لم تشعر به من قبل، غضب جعلها ترغب بالبكاء، كان يذكرها بالفشل. لذلك كان عليها أن تخرج خارج كل معقولاتها، فكانت النتيجة خطة مبعثرة في كل الأرجاء، وضعها عقلها الهلع.

علمت أن السيدة كانت تكره الفوضى، ويسير قصرها كعقارب الساعة، وتحت مراقبة نسمة وفق جدول واضح لا يحيد بالرغم من الظروف. ومجلس الأحد والخميس تحديداً، كانت له مكانته وسمعته من سمعتها، فهي كانت بالعادة تشرف على كل شيء قبل مجيء الضيوف، ولكنه لتعبها المزعوم غابت هذه المرة، بل إنها كانت تحضر بعض الجلسات من خلف حجاب، كمستمعة في غرفة داخلية، ولها مشربية يرى ويسمع من بداخلها، ولكنها منيعة عن من في القاعة. وكان لها من المناديب من يديرون المكان علمياً، ويقدمون لها التقارير في حال غيابها.

في ذلك اليوم، كان المكان يسير كالعاصفة الهوجاء، فقد زادت المسؤولية على السيدة نسمة، التي وقفت كفزاعة حقل فوق رأسهم، كانت تريد أن تثبت نفسها في تمكنها من إدارة مجلس مهم كهذا، ولكن كان لحصان هائج بسبب فأر ترتيب آخر. وهذه كانت خطة رفيدة، والتي علمت أن للعبتها آثاراً مترتبة على الجميع، ولكن فكرت لو أنه كان خطأ بسبب ضيف ما، لن يستطيع أحد أن يلوم الخدم، ولا السيدة نسمة.

لذلك، ما إن انتهت من توزيع تلك العصائر على الرجال المتناطحين في مناظراتهم العلمية، الغائبين في متعة الاكتشاف، عمدت على تنفيذ خطتها، فهي استطاعت استدراج الفأر وحبسه في كيس بقي يتناطح فيه. كم شعرت بالاشمئزاز من إمساكه، ولكنها فعلت، فهي إن رأت الفئران إلا أنها كرهتهم حتى في طفولتها. أخذت نفساً، وهي تطلق الفأر المنكوب ناحية الإسطبل، وادعت أنها راحت تركض خلفه تطلب المساعدة.

"إنه فأر!" صاحت.

وراح الفأر المرعوب يركض حتى دخل للإسطبل، أرعب ذلك جميع الأحصنة، ولكن كان هناك حبلان عشوائيان كانت قد قطعتهما مسبقاً، فهي في عقلها: إن لم يتحرك حصان، بالتأكيد سيتحرك الآخر. ولكن حدث ما لم تحسبه حتى هي! ولذلك هرب الحصانان، والفأر، وعمت الفوضى في المكان، والفوضى خرجت عن السيطرة، فالحصانان دخلا حيث الضيوف في القاعة الكبرى، فعمّ الهرج والمرج والصراخ، وتدافع الناس، واختنق البعض، وهلِع الخدم، وهي أخذت مكانها في طريقها للهرب معهم، ومن حيث لا تعلم، وقعت في شر أعمالها، فالحصان كاد أن يدهسها، رفع حوافره بفزع، وهي واقعة بين يديه بضعف، ترى نهايتها، ملأ السواد عينها، والنفس هرب منها، وحتى قلبها لم تكن تشعر به، كل الدم الذي فيها اعتقدت أنه تبخر من خوفها، لا تدري إن كانت قد بكت، ولكنها للحظة شعرت أن هذا عقاب لشر أعمالها.

ولكن، من وسط هذه الجعجعة، يد قوية انتشلتها من قبضة الحصان الهائج. لم تعرف له هوية، هل كان رجلاً من الضيوف، أم من الحرس، أو ربما إحدى الخادمات؟ لأن منقذها اختفى سريعاً، ولكن ترك خلفه أثراً ميزه، وبقي معها... رائحة دهن عود مميزة لم تشتم مثلها من قبل.

2025/05/31 · 3 مشاهدة · 1428 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025