الفصل الثالث عشر
سيرة الحزن والفقد
تذكر أنها بقيت تسعل لوقت طويل حتى شعرت بالاختناق سيغيبها عن الدنيا، فهي لم ترحل عن ذكرياتها المأساة التي صنعتها، و هذه السعلة لازمتها لأطول وقت و حتى أصبحت منها و ختماً يذكرها بفعلتها كلما شعرت بالخوف. خوفها كان لا على حياتها و لكن كل الإحتمالات لموت قتيبة و التي تركها ممزقة أمام كل أشكال الخيالات التي كانت أقرب للكوابيس! هل اختنق؟ هل شعر بالخوف؟ هل شعر بروحه تطير لرأسه؟ هل رآهم أمام عينيه؟ هل تمكن من أن ينطق بالشهادتين؟ فهي بالتأكيد في تلك اللحظة كان لسانها قد تحجر و لم تستطع أن تنطق بحرف بل ان عقلها غاب في هاوية من الفراغ.
حتى بعدما تم انقاذها من غريب لم تستطع أن تشكره بالشكل الصحيح ولما يليق بفعله النبيل، لأنها بعدما أدركت حالها لازمتها سعلة لا نهائية مع شعور بالاختناق! في ذلك اليوم لم يكن أحد في وضع يجعله يدرك ما حصل حتى السيدة نسمة التي راحت تصرخ بجنون باحثة عن الفأر الذي شغلهم بقية اليوم بينما الضيوف كانوا قد غادروا مبكراً، مجروحين مختنقين، بعد الإنتهاء من العمل غادرت مع بقية الخدم متعبة منهكة مختنقة، و لكن حتى طريق العودة كان موحشاً لم يواسيها شئ، حتى رائحة البحر والقمر، و الرعشة التي هزت جسدها لم تسعفها و لا تدري حتى كيف وصلت للسكن، و لكن بالتأكيد كانت منهارة، لم تستطع أن تخفي خوفها! وبقيت الصدمة عنوان حالها.
فوجدت جيهان تركض ناحيتها بخوف و قلق و تبعتها أمينة
"رفيدة هل أنتِ بخير؟" سألتها جيهان و هي تربت عليها بحنان أخت كبرى
"أنا…." قالتها بلا وعي بفم مرتجف ارتجف معه جسدها
"يا الله إنا ترتجف خوفاً أحضري اللحاف يا أمينة" قالت جيهان بقلق وهي تحتضنها و ترقيها.
لمدة عشر دقائق بقيت تحت تأثير الخوف مخدرة بلا حركة سوى تلك الرجفة و السعلة العينة التي خطفت شجاعتها، ولكنها سرعان ما عادت اخيراً تستجمع أنفاسها و كأن الدم و الروح عادوا لجسدها، فكان للقرآن الذي قرأته عليها صاحبتها تأثيره السحري الذي أعادها للواقع، و بعدها وجدت أمينة تسألها:" هل أنتِ بخير الآن؟"
"أجل" قالت رفيدة بهدوء ،هي تحاول ان تستوعب محيطها، قدمها جسدها يدها و كل ما فيها الذي شعرت انها فقدته في الحادثة.
"لقد سمعت عن حادثة قصر زبيدة و لكن لم اعرف التفاصيل" قالت جيهان برعب
" لقد دخل فأر للقصر و أحدث الفوضى" قالت رفيدة وسرعان ما أصابها الإدراك في مقتل، وعى ضميرها لما فعلته، و علمت أن هذا كله عمل يديها، و الحدود التي تخطتها.
" سمعت أن الأحصنة هربت من الإسطبل" قالت جيهان
"نعم بسبب الفأر"قالت رفيدة
"اوه من وجهكِ يبدو أن الأمر كان سئ" قالت أمينة
"نعم لقد اختنق البعض و أصيب البعض و لكن الحمدلله خرج الجميع بأقل الخسائر" قال رفيدة وقد عادت لها رعشة خفيفة و هي تتذكر انها هي صانعة الخسائر
"يا الله، المهم أنكِ أنتِ بخير يا عزيزتي" قالت جيهان
"بخير" قالت رفيدة بصوت متقطع
"اليوم لا تقلقي نحن سنتكفل بالعمل عودي لغرفتكِ و ارتاحي" قالت أمينة
"شكراً" قالت رفيدة بصعوبة و هي في قلبها ألف شعور
هربت منهم منسحبة لصندوقها المكتوم فتحت الشباك لتتنفس، خلعت حجابها و غيرت ملابسها، رمت نفسها على فراشها، و سرعان ما وجدت نفسها تغيب في البكاء لم تبكي لخوفها فقط و لكن لتصرفها! هي فعلت هذا! هي ورطت أبرياء في الأمر لم تتخيل أن تتفاقم الكارثة لهذه الدرجة! هل استحق يا رفيدة؟ هل استحق ؟ هل حققت العدالة لأخيها؟ بكيت كل كذبها و خداعها و داخلها بقي ممتلئ بكل اللوم! ولكن كلما تذكرت شعور الاختناق وتخيلت شعور قتيبة وقت إعدامه كانت تعود لها الرغبة للاستمرار ….! يومها علمت ان طريقها لن يكون مليئاً بالورد و أن هناك أثمان ستدفعها و سيبقى ضميرها جلاداً لعمرها كله. و لكنها مع ذلك وقفت داعية الله
"اللهم اغفر لي زلّاتي، فإنك أنت أعلم بما يختلج في فؤادي، وأنت أرحم الراحمين. ربِّ، لا أُحمِّلنّ أحدًا وزري، فإنما أنا المُبتلاة، وأنا من اختارت السبيل، فاجعل حملي عليّ وحدي. قد سلّمت أمري إليك،، فما عاد لي حولٌ ولا قوة إلا بك، ولا نجاة إلا برحمتك، فدبّرني فإني لا أُحسن التدبير."
لم تشعر ليلتها برغبة بفعل شئ و لكن بعد بقاؤها لفترة في فراشها شعرت بأنها ستنفجر ان لم تطلق قدميها و بهرمان كانت ضيقة على روحها التي عشقت المساحات، فتحركت اخيراً، تمنت لو استطاعت أن تذهب للشاطئ و لكن الوقت كان متأخر. نزلت من دارها بخطوات هادئة رقيقة، تبحث عن السكينة في زوايا السكن، كانت تلك ليلة صيفية بإمتياز غاب عنها النسيم و الصمت أحاط بكل شئ و القمر لمع في كبد السماء ناشراً نوره، وجدت في الحديقة المزروعة بعشوائية انتماء ناسب حزن قلبها وحاكى تعبها، كان عقلها ملئ و لكن فارغ من كل شئ. و ما جعلها تتحرك هو معركة الغد الحتمية التي لم تكن تنوي أن تهرب منها كانت تريد ان تستعد، فهي لم تضحي بكل هذا لكي تستسلم الآن! أغلقت عينيها مستسلمة للصمت اللذيذ الذي أحاط الدار سوى من صوت حشرات الليل التي اختبأت بين الزرعات، ناشرة موسيقاها بلطف.
و من وسط صمت أخرجها صوت الباب التفتت و تلك كانت سلامة التي دخلت بهدوء أكثر من هدوء الدار و القت السلام
"السلام عليكم"
"وعليكم السلام" ردت رفيدة و هي تتأمل القابعة أمامها الغارقة في غموض ساحر، لا تذكر يومها هل هي من فتحت باب الحديث لأول مرة أم سبقه حديث آخر، فتلك الفتاة كانت يوماً هناك جالسة في زاوية الصمت و أيام كثيرة غير موجودة ! و لكن الصمت الذي غيب الفتاتين بعد السلام جعل سلامة أخيراً تقول
"هل تناولتي عشاءكِ؟"
لا تدري رفيدة هل قرأت حزنها أم أنها سمعت عن حادثة قصر زبيدة و التي كانت حادثة شهيرة دارت كاللبان على الألسن
"لا و لكنه موجود في المطبخ أن أحببتِ" قالت رفيدة
"هل تشاركيني الوجبة" سألت الفتاة بهدوء
لا تدري كيف وكأن سلامة قرأت الوحدة التي ملأت روحها أو ربما كانت الوحدة التي تملأ سلامة نفسها و التي رأتها بوضوح رفيدة تلك الليلة، ففي تلك الليلة احتاجت الفتاتين الرفقة، فقط طعام و حديث لطيف و الكثير من الصمت، فالصمت ناسب الفتاتان في تلك اللحظات و لكن الحديث كان فيه سلوى
"كيف حال عملكِ؟" سألت سلامة
"انه جيد و لكن اليوم كان متعب" قالت رفيدة و هي تتنهد
"إن هذه الأيام كلها كانت متعبة" قالت سلامة و في لمعت عينيها في حزن تركت رفيدة تحترم صمتها، وعلمت ان هناك من يعاني و معانتها ليست أول معاناة و ليست آخرها، فهي في خضم حزنها نسيت حزن الآخرين وهمومهم!
"أسأل الله أن يجعل فيما هو آت فرجًا وخيرًا." قالت رفيدة مواسية، مواساة شعرت أنها سخيفة قليلاً و لكنه كل ما خطر في داخلها و هي احتاجت لدعاء مشابه
"اللهم آمين " قالتها سلامة بصدق
لا تدري ما الذي دعى رفيدة للحديث هل هو الصمت ام الحزن ام الشوق ام في الفتاة شئ ذكرها بأخيها تحديداً فقالت:" ان الفقد سئ و أسوء ما فيه الشوق الذي يلازم الإنسان"
وجدت سلامة تغيب في حزن و كأنها رحلت في ذكريات فعادت و سرعان ما قالت:" و أسوأه هو الغياب"
هنا فقط أدركت رفيدة ان سلامة لم تكن تعيش فقداً فقط بل "فقد غياب"، فمن تحب قد غاب عنها و ربما هي لا تعرف مصيره و ريما لا تعرف حجة لغيابه فتعيش مع هواجس لا نهاية لها، فهذا كان أصعب، يشبه الشعور الذي عاشته قبل تأكيد إعدام قتيبة، و علمت أنه اسوأ مما هي تعيش! لا تدري لماذا و لكنها بكت، ربما بكت لحزن القابعة أمامها وهي لا تعرف تفاصيله، في داخلها علمت مدى أنانيتها . و لكن مع ذلك شعرت أن ذلك الحديث كان فيه طبطبة خفيفة، فسلامة اكتفت بالتربيت على ظهرها بهدوء.
استيقظت مستعدة في الصباح الثاني منتعشة، و فيها طاقة عجيبة جعلتها تقف على أطراف أصابعها بحماس، ففي طريقها نحو القصر كانت متحمسة بكل حواسها تكاد تطير من هذا الحماس لأنها تعلم أنها استعدت جيداً للإختبار بالرغم من كل شئ و خطواتها باتت معدودة. ما ان وصلت للقصر حتى شعرت بكل ما فيه يصرخ بالتربص كل من كان هناك كان متربص حذر و خائف عكس ما كانت هي تعيشه في تلك اللحظة، بحثت عن أميمة و لكن السيدة نسمة هبت عليها كإعصار غباري و صاحت فيها:"تعالي معي"
و كانت قد تجهزت لهذه المواجهة و لم تتوقع و هي تتبع نسمة أن تتعدى كل حدود الجناح الداخلي لتصل للجناح الّم حيث تقبع السيدة زبيدة, فقد دخلت في غرفة واسعة كانت غرفة جلوس حولها تربعت مكتبة امتلأت بالكتب، بفخر جلست السيدة هناك ممسكة برأسها فصداعها قد زاد على ما يبدو، كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها نسمة تقف بخضوع كقطة مترددة وهي تقول بأدب و بصوت خفيض لم تعهده منها
"مولاتي هذه هي الفتاة"
وجدت السيدة تطل عليها بعينين بنيتين كان الزمن قد رسم خطوطه أسفلها، كانت مليحة, لم تكن جميلة بالمعنى للجمال و لكنها جذابة، قدرت عمرها رفيدة على الأغلب في الستين من عمرها، كان الشيب في شعرها متوسط الطول الذي هذبته بأناقة قد دخل في معركة شرسة مع ما تبقى من سواد، كان كل ما فيها يصرح فخراً و قوة بالرغم من تعبها!
نظرت مطولاً لرفيدة، تتفحص حتى أنفاسها، علمت رفيدة أنها كانت تبحث عن الخداع فأتقنت الإختباء خلف قناعها، و ساعدها رجفتها التي سرت في أوصالها من و ريقها الذي راحت تبتلعه في رهبة حقيقية من وقفتها أمام هذه السيدة المهمة ومع ذلك تمسكت بالصبر و الثبات، فوجدتها تقول بحدة:" أخبريني ماذا حدث؟"
"الفأر" قالت رفيدة بشكل لا شعوري لا تدري كيف قفز صوتها كصوت الفأر المعني من نبرة السيدة و لكنها سرعان ما قاومت دقات قلبها وهلعها فهدأت نفسها فأكملت بنبرة أكثر هدوء وهي تبتلع ريقها للمرة الألف:"الفأر وجدته يقفز من حقيبة مرافق أحد الضيوف"
"و هل تعرفين الضيف؟" سألت السيدة و هي تراقب كل تعابير رفيدة وهذا تركها كالشتلة الضعيفة التي تواجه عاصفة ولكنها ثبتت جذورها و عززت ثقتها, شعرت أن السيدة نسمة ستقفز في أي دقيقة، اشتمت تحريضاً منها فالسيدة نسمة على ما يبدو شكت في وضعها منذ طلبت أن تنتقل لجناح الضيوف، فكان عليها أن تثبت أنها بريئة
"انتقلت مؤخراُ من الجناح الداخلي فأنا لا أعرف هوية الضيوف بعد" قالت رفيدة و كأنها تجيب عن التساؤلات و لكنه جواب حفظته فسمعته
"لا بأس عودي لعملك في الجناح الداخلي و كوني حذرة لن أتحمل أخطاء أخرى" قالت السيدة بتحذير صريح لم يتخلله أي شك أو مزاح، وسط نظرات نسمة النارية التي توجهت لها.
"حاضر يا مولاتي" قالتها بخضوع مبالغ فيه وكأنها كانت تلعب دورها
خرجت من الغرفة متوترة، فهي وصلت لهدفها ولكن أصبحت تحت المراقبة من زبيدة و نسمة أكثر من أي وقت مضى.