الفصل الخامس عشر

المقابلة والموازنة

تلونت السماء بلون جميل أزرق تدرّج للبنفسجي، فلوحة السماء المبهرة التي تدعو الإنسان للانبهار جعلت رفيدة تقول وهي جالسة تتأمل ما أمامها: "سبحان الخالق."

كانت جالسة أمام البحر، وهي تنتظر المغيب، والبحر يغني لها من ألحانه الجميلة المعتادة؛ ألحان عشقتها روحها، وجعلت كل ما فيها من غضب واضطراب يغيب. أغلقت عينيها، ولكن باغتتها دفعة، فتحت عينيها، وإذا بطفل قد اصطدم بها بالخطأ فقال بأدب: "أعتذر يا أختي."

ابتسمت له، فقد ذكرها بأبناء قتيبة، فتساءلت في قلبها عن أحوالهم. أكمل الطفل طريقه، فهو كان يهرب من أقرانه، كانوا يلعبون لعبة "الكر والفرّ"، لعبة اعتادت أن تلعبها هي أيضًا، لم تعرف طفلًا كره تلك اللعبة.

كانت هذه لعبة طفولتها، لكنها اليوم كانت تلعب لعبة أصعب. وجودها هنا كان لتفكر وتجد حلًا، فقد بدأت لعبة أنهكت روحها.

اعتادت عملها وكل قلاقله، حيث اقتصر في واقعه على تقديم الطعام، والتنظيف، وغسل الملابس وترتيبها. كانت تقابل السيدة زبيدة عندما تقدّم لها الطعام، لكنها لم تستطع أن تستفرد بها. حاولت أن تقرأ ما تفكر فيه، ولم تجد إلا الحذر الشديد كما هي عادتها. كانت تريد أن تنفّذ خطتها، لكن أن تنظر لها السيدة، فلم تعلم كيف تفعل.

وضعت خطة طويلة الأمد عنوانها "أنا مهتمة بالعلم". فخادمة متعلمة كانت معادلة مستحيلة. نعم، تعلمت الخادمات، الكثير منهن، الكتابة والقراءة، كونه متطلبًا حياتيًا ودينيًا مهمًا، ولكن سيدة كتلك كما فهمتها رفيدة، وإن مؤقتًا، كانت ستشعر بالفضول، وقد تشفق على علمٍ مهدور!

لذلك ادّعت أنها مهتمة بالعلم، وتحديدًا بالمكتبة في غرفة السيدة. كانت تدّعي التأمل كلما شعرت أن عيني السيدة عليها، ولكن السيدة لم تُلقِ بالًا، إن انتبهت أحيانًا، أو هكذا اعتقدت رفيدة، فأكملت لعبتها.

لفت انتباه السيدة أخيرًا اهتمامها بالمكتبة، بعد ما يقارب الشهر من تجوالها حولها. لاحظت نظرات السيدة حينما تنسلّ من بين بقية الخادمات ناحية المكتبة. لكن الصمت بقي سيّد الموقف، فلم تحتفل رفيدة. فكرت أن تتجرأ فتلعب بشكل أكبر، فتسرق كتابًا أو تفتحه نسمة بين يديها، لكنها خافت أن تدمّر تلك اللعبة كل خططها.

تجولت حول المكتبة كالمجانين، والسيدة بقيت صامتة تراقبها كنسرٍ حذر. حتى نسمة خففت قبضتها ونسيت أمرها، فطالما مولاتها كانت هادئة، هي هدأت معها. فحادثة الفأر أصلاً تركت أثرًا سيئًا على الجميع، إذ إن السيدة زبيدة ولمدة أسبوعين أغرقتهن بتدقيقها في جناح الضيوف على أقل ذرة غبار. لكنها ارتاحت عندما اعتقدت أنها أعادت ترتيب الذي من أساسه لم يتزحزح، لكنه كان لعبة دخيلة.

وبعد شهرين من لعب "الكرّ والفرّ" مع السيدة، حصدت رفيدة ثمار ما زرعت أخيرًا. ففي أحد الأيام طلبت السيدة كوب شاي، وكانت تلك مهمتها التي ألقتها نسمة على عاتقها. كوب شاي لا يتطلب أكثر من خادمة لإيصاله، لكنها لم تتوقع هذه الفرصة الذهبية.

غضبها السابق وإحباطها تحولا إلى حماس وفرح، ولم تتمالك نفسها. في يومها ذاك راحت تدندن وتتجول في الأرجاء كفراشة محلقة، حتى سألتها إحدى الخادمات: "ما الذي أصابكِ يا رفيدة؟ تحلقين فرحًا!" ابتسمت وهي ترتب الصينية وقالت: "لا أدري... أشعر أن اليوم سيصلني خبر سعيد."

أكملت طريقها، فما إن وصلت الغرفة لاحظت اختفاء السيدة التي تركت كتابًا مفتوحًا في مكان جلوسها. ابتسمت في سرها وقد شعرت بحركة حولها، أدركت أنها تحت اختبار، وقد قطعت نصف الطريق الآن. وضعت الشاي بهدوء، وراحت تطل في الكتاب مدعية الفضول، ومن تحت عينيها شعرت بحركة خفيفة تحولت إلى دخول هادئ للسيدة. فادعت رفيدة التوتر والقلق.

"أوه م… مو… مولاتي..." قالت بصوت مرتجف، وهي تحرك عينيها في كل مكان، وأكملت بحرجٍ مصطنع: "إنه الشاي."

"هل أعجبكِ الكتاب؟" سألت السيدة وهي تترصّد كل حركاتها.

"المقابلة والموازنة." قالت رفيدة بسرعة، وكأنها أجابت بلا وعي، وهي في عقلها حسبت كل حرف ستنطق به.

وجدت وجه السيدة يشرق وكأنها وقعت على كنز، لكنها بقيت صامتة، ذلك الصمت الذي كرهته رفيدة في تلك الفترة. "

تعرفين مثل هذه النظرية؟" سألتها السيدة باستجواب لم تخفه.

"أوه، أنا يا مولاتي..." قالت رفيدة بتوتر.

"يمكنك أن تتفضلي." قالت السيدة بهدوء وهي تشير لها بالخروج.

نظرت رفيدة إليها باحثة عن أي دلالة، لكنها أصيبت بالإحباط. لم تفهم هل نجحت في الاختبار أم لا. كانت متأكدة أنها تملك من العلم ما ليس لدى قريناتها، ليس فقط لأنها نبيلة، بل لأن قتيبة اهتم بحصولها على العلم المناسب، فاختار لها السيدة خديجة، التي كانت يومًا ما معلمة في قصر الخلافة، والتي كانت صدفة في صالح رفيدة — صدفة استغلتها بأسوأ استغلال، فتلك المعلمة الجليلة كانت معلمة السيدة زبيدة في صباها! وهذا ما جعل رفيدة تعتقد أنها ستصمد أمام اختبارات السيدة زبيدة.

لكن السيدة كانت أصعب مما تخيلت. ردة فعلها كانت غريبة، لم تحاول أن تبحث خلفها أكثر أو تفهم ما الذي تفعله خادمة متعلمة في قصرها. فإن لم تكن هناك حكاية، فبالتأكيد هناك أمر مثير للريبة. وهذا أمر وضعته رفيدة في حسبانها: أن تكون موضع شك بدل أن تكون موضع إعجاب وفضول. وهذا ما تركها محتارة، فلم تفهم مكانتها عند السيدة الصامتة.

مرت أيام تركت رفيدة تشوي بين القلق والتفكير، هل ستصل؟ لأنها بنت كل شيء على هذه اللعبة. كانت ستصل إلى القصر من خلال هذه السيدة، التي سمعت عنها من معلمتها، والتي سمتها بـ"الثائرة"، لأنها فعلًا كانت كذلك، وأحدثت نقلات لم يستطع الرجال إحداثها. و"الثائرة" هذه كانت تثير أعصاب رفيدة بالتأكيد، وتتلاعب بها يمنة ويسرة عن عمد. فهمت رفيدة ذلك، ولهذا التزمت هي الأخرى بمسرحيتها، وإن اجتاحتها لحظات كادت أن تصرخ أو تبكي من الغضب والإحباط.

حتى جاء عصر أحد الأيام. وقد ضاقت ذرعًا، وصبرها كان ينفذ رويدًا رويدًا، وبينما كانت منشغلة بغسل الملابس، نادتها إحدى الفتيات وقالت: "السيدة تطلب منكِ الشاي."

"مني أنا؟" سألت رفيدة باستغراب.

"تعرفين مزاجها." قالت الفتاة بملل.

نفذت رفيدة ما طلب منها، فهي لا تُعد الشاي أصلًا، بل توصله فقط. اعتقدت أن هذا اختبار، فانفرجت أساريرها، لكن تلك الأسارير انهارت عندما وجدت نسمة تخبرها: "إن السيدة تستقبل ضيفًا في مجلسها الخاص. خذي الشاي لدارها واتركيه هناك."

أخذت الشاي حاملة هزائمها، وهي تحاول أن تشغل عقلها وتبحث عن حيلة لكسر حصون السيدة الشديدة. لكنها استسلمت أخيرًا، فوضعت الشاي بيأس. وفي عقلها كانت تفكر: هل تلعب ورقتها الآن أم تنتظر؟

اختارت أخيرًا أن توضّح مآربها دون فضح حقيقتها. رمت ورقتها عند الباب وكأنها سقطت عنوة.

أكملت طريقها، لكنها سمعت السيدة تحادث ضيفها الخاص. لم تستطع أن تراه، لكنه على ما يبدو كان قريبًا لها، فهي جلست باحتشام، لكن من دون حجابها. لم تره أصلًا، لكنها سمعته يقول بصوت امتلأ خبثًا لم يرق لها: "... خادمة حسناء."

"مالك ومال الخادمات يا بني." ردّت السيدة.

لم تعلم رفيدة عن أي شيء كان الحديث، فهي وصلت في منتصفه، ولم يشدّها، فتركتهم خلفها، تاركة ورقتها الأخيرة، والإحباط لا يفارقها، وهي تشعر أنها ضحت بأملها الأخير. لكن الأمل والتمسك بالله كان حبلها.

ولم يخب ظنها، ففي نفس الوقت من اليوم التالي، طلبتها السيدة لتحضر الشاي. وهذا أثار حفيظة نسمة مجددًا، التي كادت تموت من الغيظ، فقالت لرفيدة: "ضعي الشاي ولا تطيلي الحديث."

بالطبع، كانت تخاف على مكانتها.

"أمركِ." قالتها رفيدة، وفي عقلها وقلبها ألف سؤال. دعت الله أن يفتح لها الأبواب المغلقة.

مشَت بالشاي بخطوات مترددة، لا تدري أي اختبار ستخوض. قلبها لم يعد يحتمل، فدقاته كانت أكثر توترًا من خطواتها. كادت تتعثر، لكنها تماسكت، وتأكدت أن الشاي لم يُصب بشيء، فأكملت مشوارها الذي باتت تكرهه. طرقت الباب، فجاءها الجواب، لكن باغتها صوت كانت نبرته مختلفة، فيها شوق وحماس!

دخلت بهدوء، باحثة عن صاحبة الصوت التي جلست بهيبتها المعتادة كطاووس أنيق، فاردة ثوبها، وتحمل في يدها هذه المرة ورقة. ورقة ميّزتها رفيدة، فارتجف جسدها، وقلبها لم تتوقف معركته. علمت أنها كانت أمام لحظة الحقيقة. هل نجحت رفيدة أم فشلت؟

"رفيدة." قالتها السيدة وهي تقرأ الورقة.

"مولاتي." قالت رفيدة بتوتر حقيقي هذه المرة، ورجفة لم تستطع أن تخفيها.

"اسمكِ رفيدة؟" سألت السيدة، وفي نبرتها حنية لم تسمعها من قبل.

"نعم، رفيدة بنت خالد." قالت رفيدة، أمام نظرات السيدة التي راحت تقرأ كل ما فيها

. "كيف تعرفين السيدة خديجة؟"

هنا فقط، تخلّت رفيدة عن كل خوفها وتوترها، فهذا ليس وقت الضعف. راحت ترسم كل حيلها في عقلها، وتحضّر أجوبتها كي لا تسقط في الاختبار. نظرت للورقة بذعرٍ مصطنع، وقالت بتوتر مصطنع، محاولة أن تُخرج دموعًا مزيفة: "أرجوكِ… يا مولاتي، سامحيني… أنا..."

"هل هذه الإجازة تخصك؟" سألتها السيدة، وهي تفتّشها بعينيها. "لقد سقطت مني بالخطأ. إنها أثمن ما أملك… أرجوكِ، لا تغضبي من تقصيري، لم أقصد أن أترك أي قمامة خلفي."

"توقفي يا بنت!" صاحت السيدة بحزم، فاشتد عود رفيدة من نبرتها الصادقة. "هل أنتِ متعلمة؟"

"أنا…" قالت رفيدة بتردد، ثم أكملت: "نعم."

"وما الذي تفعلينه هنا؟" سألتها السيدة بشك، وهي تحاول الوصول إلى حقيقتها.

"لقد رمتني الظروف، يا مولاتي." قالت رفيدة بحزنٍ مصطنع.

"وأي ظروف هي التي ترمي بفتاة متعلمة، ومن عائلة مقتدرة، لتكون خادمة؟" سألت السيدة باستغراب، وفي نبرتها شفقة واضحة.

"صدقيني، يا مولاتي، أنا لا أبحث إلا عن لقمة العيش الشريفة."

"كيف وصلتِ إلى هذه الحال؟" سألتها السيدة، وقد بدأ صبرها ينفد.

ابتسمت رفيدة في سرّها، فالسيدة التي تلاعبت بأعصابها، أصبحت الآن هي من بيدها زمام المشهد. فبين ثنايا رفيدة أخبار المعلمة العزيزة، والتي على ما يبدو أيقظ شوقها قلب السيدة القاسية زبيدة، ففضحت بعضًا من حنيتها.

أكمل البحر أغانيه، وتذكّرت رفيدة أنها أكملت طريقها للسكن، بمعركتها التي ظنت أنها فيها المنتصرة، وفي روحها أنها وصلت أخيرًا إلى المكان الذي حمل حكاية قتيبة.

2025/05/31 · 3 مشاهدة · 1433 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025