الفصل السادس عشر

حديث الشاي

ارتاحت الشمس الباردة استعدادًا للغروب في آخر ساعات العصر. كانت رفيدة تستمتع بتلك الساعات، حيث تقدم الشاي للسيدة، تغيب في تركيز وهي تجهز الصينية بصمت، وابتسامة لم تفارق فمها وهي تتذكر تلك المحادثة:

"كيف وصلتِ إلى هذه الحال؟" سألتها السيدة وقد بدأ صبرها ينفد.

أنزلت رفيدة عينيها، وغابت في حزن حقيقي وهي تتذكر كل ما حصل لها! وها هي اليوم تقف على أعقاب هدفها، وفي مخيلتها مكان واحد: "جوهرة بهرمان" … قصر الخلافة، حيث تنام الذئاب.

"يا مولاتي، إن حكايتي طويلة، ولكن ملخصها أنني فقدت أهلي ومالي وبيتي."

"وكيف حصل هذا؟" سألتها السيدة وقد لمعت عيناها استغرابًا.

"مات والدي، فقرر عمي أنه لا ورث لي ولا بيت." قالت رفيدة.

"وبأي حق؟!" سألت السيدة وقد تجعد حاجباها في غضب.

"لا تأسي لحالي هذه يا سيدتي، فقد اتفقت مع عمي، وقُضي الأمر." قالت رفيدة بسرعة، فهي لم تكن تريد أن تعلق السيدة في هذه الحكاية طويلًا.

"وهل كان حلك أن تصبحي خادمة، وأنتِ متعلمة على يد أفقه نساء المملكة؟!" قالت زبيدة بغضب وعاطفة، لاحظتهما رفيدة.

"مولاتي… ومن عساه أن يصدق فتاة ضعيفة مثلي مقابل رجل محبوب في قريتنا؟" ردّت رفيدة.

"هذا يكفي! وعمّكِ هذا، من يكون؟" قالت السيدة زبيدة بغضب.

كانت رفيدة تريد أن تمتص غضبها وتنسيها الكذب، فكان عليها أن تكون حذرة لكي لا تستفز السيدة.

"أرجوكِ… أرجوكِ يا مولاتي، أنا أريد أن أبدأ من جديد، بعيدًا عن عمي، لا أريد منه شيئًا." قالت رفيدة برجاء.

"حسنًا، يمكنكِ الانصراف." قالتها السيدة، فهربت رفيدة سريعًا، وهي تعلم أنها نجحت، فقد لمحت ذلك الحزن الواضح على محيا مولاتها.

وبالفعل، في عصر اليوم التالي، نادتها السيدة للشاي، فراحت تسألها عن أحوال المعلمة قبل رحيلها. وفي اليوم الذي يليه، كان الحديث عن الحساب. فأصبحت عصرية الشاي عادة لطيفة، تقوم فيها رفيدة بنفض الغبار عن المكتبة النظيفة، وهي تجيب السيدة، التي كانت في كل زيارة، تصبح في عيني رفيدة أكثر رقة، وكأن طبقة من الصخور تنزاح عنها. وكأنها ترتاح لرفيدة ولحديثها.

ولكن رفيدة لاحظت أن السيدة كانت تغيب في حزن وحنين عند ذكر سيدتها، فقد سألتها مرة، وهي ترتشف من شايها:

"هل جاءت بذكري؟"

"أوه يا مولاتي، إنها لم تذكر من طلابها سواكِ!" قالت رفيدة بحماس حقيقي.

ابتسمت السيدة ابتسامة حزينة، غفت فيها ملامحها كأنها ندم قديم.

"هذه عادتها الطيبة، بالرغم من كل ما حصل." قالت السيدة، ورفيدة لمحت دمعة علقت في محجر ظنّت أنه لا يعرف شكل الدموع.

"قالت يا مولاتي إنها تندم على أمر واحد في كل حياتها." قالت رفيدة بعد تفكير طويل.

"وما هو؟" رفعت السيدة عينيها الحزينتين باستغراب.

"أنها لم توصِ بكِ." قالت رفيدة.

ولم تكن تكذب بحرفٍ فيما يخص معلمتها خديجة بنت النميري، لأنها أساسًا لم تعرف أحدًا في العاصمة حين جاءت، سوى السيدة زبيدة، التي عرفتها من خديجة، كونها تلميذتها المفضلة.

وفي اليوم التالي، أذنت السيدة زبيدة بالمغادرة، لكنها ما لبثت أن استدعتها مجددًا في نفس الموعد.

دخلت أميمة بحماس تقول: "هل استدعتكِ مجددًا للشاي؟" "أوه، أجل." قالت رفيدة.

"لا أفهم لماذا تقسو عليكِ وتجعلُكِ تنفضين الغبار عن مكتبة تلمع أساسًا!" قالت أميمة بشفقة، فلم تعلم أن رفيدة كانت تستمتع بذلك. ثم أكملت: "ربما عليكِ أن تضيفي المزيد من الأكواب."

"لماذا؟" سألت رفيدة باستغراب.

"هناك ضيوف مهمّون على ما يبدو، استقبلتهم السيدة في القصر الداخلي."

"هل هو الضيف المعتاد؟" سألت إحدى الخادمات بحماس، ثم صاحت في رفيدة: "اسمحي لي بالقيام بالمهمة مكانكِ يا رفيدة!"

"ابتعدي، إنه ليس ضيفكِ الجذاب!" قالت أميمة بملل.

"عن أي ضيف؟ أشعر أنني ضعت بينكن." قالت رفيدة، وهي تحاول أن تتذكر الضيوف المهمين، فهي عرفت أغلبهم، ولكن ليس جميعهم.

"أوه، أنتِ لم تقابلي قريبها المفضل؟ هذا غريب! لقد كان موجودًا يوم حادثة الفأر الشهيرة!" قالت أميمة باستغراب وسخرية عند ذكر الفأر.

"وهو فعلاً لم يَقُمْ بالكثير من الزيارات منذ أن بدأتِ العمل هنا." قالت أخرى.

"إنني أعمل هنا منذ ما يقارب الشهرين، ومع دخول رمضان قريبًا، بإذن الله، سأكون في شهري الثالث." قالت رفيدة مؤكدةً على فترة وجودها.

"أوه، العمل في رمضان لطيف! فالسيدة تسمح لنا جميعًا بحضور دروس الجمعة." قالت الفتاة بحماس.

"دروس الجمعة؟" سألت رفيدة باستغراب.

"نعم، كل جمعة نحضر في القاعة الكبيرة درسًا دينيًا من أحد رجال العلم المهمين."

"بصراحة، إنها من الأمور التي أحبها في

التنين الكاسر

." قالت أميمة، ثم خفضت صوتها فجأة، وهي ترهف السمع للخطوات الواضحة: "استعدوا… إنها موجة الغبار قادمة."

"في منتصف الخريف؟!" صاحت الفتاة.

أشارت أميمة لتسكتها، لكن صراخ السيدة نسمة قطع الحديث:

"رفيدة!"

"نعم." قالت رفيدة وهي تلتفت للسيدة التي دخلت مستعجلة ومنزعجة.

"جهّزي الشاي…"

"إنه جاهز للضيوف سيدتي، لكن كم كوب أجهز يا ترى؟" سألت بلطف.

"كيف لا تعرفين؟!" صاحت فيها نسمة، لأنها شعرت بالغيظ من استعداد رفيدة المسبق.

"أربع أكواب." قالت، ثم أكملت بحدة: "ولا أريد أن أُفضح أمام ضيوف السيدة. أنا سآخذ الصينية."

انزعجت رفيدة من نسمة، فهي كانت بحاجة لمعرفة من هم ضيوف السيدة، لا سيما القادمين من القصر، لكن نسمة وقفت في وجهها كشيطان يغار من شرف المهمة، وتحلم بالعودة إلى القصر الذي عملت فيه سابقًا تحت إمرة السيدة زبيدة.

لكن رفيدة دائمًا مستعدة، وتجد الحلول الفورية لكل ما يعترض طريقها، فوجدت نفسها تقول: "سأذهب لتعديل بعض الملابس."

"هل أوكلت لكِ مهمة الخياطة؟!" صاحت أميمة بانزعاج، ثم أكملت: "لا يجب أن تقبلي بكل عمل يُوكل إليكِ، تعلّمي قول لا!"

"لا تقلقي، ليست خياطة، فقط تهذيب لبعض الخيوط." قالت رفيدة، وهي تنصرف.

فعلاً، كانت تهذب بعض الخيوط في الحديقة الخلفية، حيث تصل الأصوات من إحدى شبابيك السيدة. وكانت رفيدة قد اعتادت التنصّت في مثل هذه الحالات، خصوصًا عندما تشك أن أحدهم قد يساعدها في الوصول لهدفها.

جلست بأدواتها، تستمع. لكن الصوت اليوم كان منخفضًا، والهواء الخريفي وخشخشة الحشائش عاندت سمعها، فدخلت في معركة معها، وحاولت أن تلتقط ما تستطيع.

سمعت جملة متوترة:

"معلم؟ ومن أين سأجد أنا معلمًا؟" كانت تقول مولاتها بانزعاج.

"إنها تثق بكِ يا مولاتي، فالعرين كما سمعتِ للتو قد امتلأ بالذئاب." قال صوت رجل متوتر.

"بصراحة، إن ما تقوله يا حسن مرعب بما فيه الكفاية، لكنها مهمة ذات مسؤولية شاقة." قالت زبيدة.

"إنها..." لكن الجملة قُطعت لأن أميمة نادتها قائلة:

"اتركي هذه الحماقة من بين يديكِ، سينتهي عملنا قريبًا أصلًا."

"سألحق بكِ." ردّت رفيدة وهي تدعو صاحبتها.

عادت لتسترق السمع، لكن الجمل غابت، وانتهت عند: "سأرى ما أستطيع فعله." قالتها سيدتها، ثم أكملت: "وأرسل سلامي لأختك يا حسن، وأخبرها أنني أشتاق لها وللأولاد."

بالرغم من أنها لم تفهم كل شيء، لكنها علمت أنهم يبحثون عن مُعلِّم في القصر! وهي تحتاج للوصول إلى القصر، وتحتاج توصية من مولاتها. لكن المطلوب كان "معلم"... لا فتاة متعلمة! فلم تعلم من أي باب تدخل.لكنها كانت قد رسمت خطتها بالفعل… مستغلة من جديد اسم معلمتها، خديجة ، التي كانت "معلّمة" في القصر. ولم يكن ذلك بالأمر المستحيل، وإن صَعُب.

2025/05/31 · 1 مشاهدة · 1050 كلمة
رملة
نادي الروايات - 2025